عرض لكتاب| مع بورخيس.. مساء عادي في بوينس آيرس
كتب – مارك أمجد
كتاب مساء عادي في بوينس آيرس هو بمثابة سيرة حياتية للشاعر والروائي الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، السيرة بأكملها مروية على لسان الصحافي ويليس بارنستون الذي رافق بورخيس لفترة طويلة من حياته في الندوات والأمسيات وحفلات التوقيع، وتسكعا سوية في ميادين أمريكا وشوارع الأرجنتين وكنائسها الكاثوليكية، وجلسا يتحدثان في سيارات التاكسي والباصات والطائرات، بل عاش معه الصحافي في منزله واطلع على مكتبته، وكثيرا ما كان يلقي عليه أشعاره التي يحبها لكتاب آخرون منهم بابلو نيرودا وويليام بليك. والعجيب أن رغم إتمام هذه اللقاءات في فترة كان لبورخيس فيها نفس شهرة الرؤساء وسط الشعب إذا مشى في الشارع، إلا أنه لا يتحرج من رواية كل التفاصيل المختبئة عن حياته وطفولته وعلاقته بأمه وأبيه، وبالنساء والكتّاب والجوائز والانتكاسات، وعلى رأسها فقدانه بصره.
يسلط الكتاب الضوء على حادثة فقدان الشاعر الأرجنتيني لبصره في الخمسينات من عمره بسبب مشاكل في الشبكية عانى منها منذ صغره، لكنها تطورت لدرجة أنه صار يرى كل شيء باللون الأصفر، ثم لم يعد يرى شيئا نهائيا. لكن بورخيس مثل طه حسين عندنا لم يستسلم أبدا كأديب لتلك الأزمة الحادة وانطلق منها محولا إياها لخاطرة ملهمة فكتب عن العمى، وعاش حياته مثل أي إنسان طبيعي، فكان يدوّن أرقام من يهمه أمرهم في حواشي كتبه وأوراقه ويتركها في أماكن تظل عالقة بذاكرته. وكثيرا ما كان يتهكم على آفته الجسمانية حتى أنه مرة في في حفل توقيع اشتكى لمرة أولى في حياته أنه لا يرى جيدا فاندهش الجميع، وزادت دهشتهم لما وجدوه يستعير نظارات الحاضرين ليجربها، وقضى الأمسية بأكملها مرتديا نظارة ليست ملكه، هو الذي فقد بصره منذ زمن.
وفي اليوم التالي كانت معظم الصحف نشرت صورا لشاعر الأرجنتين الأول الأعمى مرتديا نظارة بصرية. ومرة أخرى كان في أحد المولات التجارية وذهب ليقضي حاجته، لكنه ضل طريقه واتجه لحمام السيدات، فما كان من سيدة إلا أن أخذت بيده ووجهته للباب الصحيح. ومرة ثالثة كان بصحبة الصحافي مؤلف كتاب سيرته في الحمام أمام المبولة، لكن بورخيس لعجزه بال على حذاءه دون أن ينتبه، ولما نبهه صديقه أجابه بورخيس ببساطة أنه وُلد وعاش في القذارة.
علاقة بورخيس بالسياسة
كان بورخيس معارضا للحكم العسكري في بلاده، الأمر الذي أفقده منصب إدارته لإحدى المكتبات الشهيرة وجعله كاتبا يعيش في الظل لسنوات طويلة. لكن تلك العزلة والتهميش لم يحرما الكاتب الأرجنتيني من شهرته، لدرجة أن النساء كانت تهتف باسمه متى رأوه يسير بجانبهم في شوارع بوينس آيرس، وانتشرت أشعاره وسط فئات الشعب لدرجة أن سائقي التاكسي كانوا على إلمام بها، وكانوا يستشهدون بها في بعض الأحيان وهو لا يزال على قيد الحياة.
ورغم كراهية بورخيس للعسكريين إلا أنه كان ينحدر من عائلة معظم رجالها من قيادات الجيش، وفي حقب تاريخية متفاوتة، ورغم عدائيته لقادة بلاده لكنه كان مفتونا ببطولات أسلافه الذين كان يؤمن بشدة أنهم شاركوا في بناء حضارة الأرجنتين في الأزمنة الغابرة. ومن المواقف التي تبرز كيف كانت السياسة مؤشرا محركا لحياة بورخيس علاقته بالكاتب التشيلي بابلو نيرودا، إذ رغم ثورية الأخير ومصيره المُلاحَق من قبل الديكتاتوريين إلا أن بورخيس أعاب عليه صمته في أحيان كثيرة حينما كان الشيوعيون يلقون عذابا واضطهادا بسبب أفكارهم. وفي أحد التصريحات أقر نيرودا بأن بورخيس لا يعرف كثيرا عن العالم، وبالمثل بورخيس صرح بأن نيرودا يفكر مثل ديناصور. وبذلك وجدا شيئا أخيرا يتفقا عليه سوية حسب رأي بورخيس.
ماذا كتب بورخيس؟
عُرف أكثر كشاعر لكنه كتب أيضا القصص القصيرة والمسرحيات والافتتاحيات والكتب النقدية، وفي مرحلة من حياته توقف عن تأليف المقالات لأنه وجدها تتطلب منه نوعية من القراءة لم يعد مناسبا لها. أما بخصوص الروايات فقد كان يراه النقاد روائيا نصف موهوب، وللغرابة لم يختلف هو معهم في الرأي، واعترف أكثر من مرة أنه له روايات كثيرة لم يشأ أن يحرر أوراقها من أدراجه، ومنها رواية عن والده، لأنه رآها روايات سيئة جدا.
المفاجئ في حياة بورخيس أنه رغم اعتباره أيقونة أدبية في بلاده، بل في أمريكا اللاتينية بأكملها، إلا أنه لم يعتبر نفسه سوى محض نتاج للظروف التي عايشها في طفولته وشبابه، لدرجة أنه لم يألف لفظة إبداع أو تأليف وكان يعتقد أن الأعمال الجيدة حقا تتوالد من تلقاء نفسها بداخلنا، وتنسلخ عنا حالما تنضج بنفس القدرة دون أدنى تدخل منا. أي أنه اعتبرنفسه مجرد وسيط بين الوحي والكتابة، ولذلك لم يكن ينزعج البتة من أي انتقاد يوجه له من أي أحد.
خورخي لويس بورخيس
كاتب أرجنتيني وُلد في بوينس آيرس لأب يعمل محاميا وأستاذا لعلم النفس، ظل قدوة للابن طيلة حياته حتى بعد مماته. تولى بورخيس منصب رئيس جميعة الكتّاب الأرجنتينيين (1950-1953)، وأستاذ للإنجليزية والأدب الأمريكي في الجمعية الأرجنتينية للثقافة الإنجليزية (1950-1955). حصل على جوائز عدة منها “فورمنتر” مشاركة مع صامويل بيكيت، ومنحته إليزابيث الثانية وسام الإمبراطورية البريطانية، كما حصل على وسام جوقة الشرف الفرنسية وجائزة كيرفانتس.
الكتاب صادر باللغة العربية عن دار المدى عام 2002، وصدرت منه الطبعة الثانية عام 2014 من ترجمة دكتور عابد إسماعيل في 303 صفحة من القطع المتوسط.
اقرأ أيضًا:
عرض لكتاب| باولو كويلهو.. اعترافات مسافر حاج
عرض لكتاب| «حرائق السؤال».. لقاءات صحفية لكُتاب عالميين
عرض لكتاب| «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه».. قراءة في أحد روائع «ماركيز»
عرض لكتاب| الفلاحون.. لأنطون تشيخوف
10 تعليقات