محمد حمام .. أسرار صاحب «بيوت السويس» في سيرة وديوان وفيلم تسجيلي
رحلة استمرت 14 عاما استطاعت خلالها الباحثة المصرية ريم بشيري جمع وتوثيق تراث المناضل السياسي والفنان النوبي الراحل محمد حمام، بعد مقابلة قصيرة استمرت لمدة 35 يوما فقط جمعتها به في أيامه الأخيرة، وكانت متواجدة معه بشكل يومي أو شبه يومي قبل رحيله في عام 2007، ليبدأ شغفها في كشف أسرار ابن الجنوب ومعاصرة أيام وتفاصيل حياته رغم غيابه.
أسرار ابن الجنوب
تروي الباحثة ريم بشيري رحلة جمع وتوثيق تراث الفنان محمد حمام، وتقول لـ«باب مصر» إنها تمت بعد التواصل مع أهله ومنهم مصطفى حمام، شقيقه الأصغر، ومجموعة من محبيه لجمع تفاصيل حياته المتاحة، وتقول: “كان فنانا شاملا بدأنا بجمع مقتنياته وأعماله الفنية الغنائية ورسوماته وقصائد شعر متفرقة وتوثيق الأفلام التي شارك بها كممثل أو مطرب فقط”.
بدأت بشيري بعد وفاته بشهرين، من خلال تدشين فريق لجمع أعماله، ولم تعرض عليه فكرة التوثيق في حياته نظرا لمرضه الذي استمر لمدة 10 سنوات قبل وفاته، وكذلك عدم اهتمامه بالشهرة والأضواء خلال تقديمه الأعمال الفنية، “لم يقل جمالا وقوة وعذوبة في الصوت عن زملاؤه المشاهير في نفس الحقبة الزمنية ولكن ربما اهتمامه بالعمل والمناضلة السياسية كانت سببا في التأثير على شهرته” كما قالت لـ«باب مصر».
استمرت ريم بجمع تراثه، حتى استطاعت توثيق ما يقرب من 95% من سيرته الذاتية، وكل شخص كانت تقابله للحديث عنه كان سببا في فتح أبواب أخرى لمعرفته إنسانيا وفنيا وعمله كمهندس، ونتج عن عملية التوثيق، تدشين صفحات بمواقع التواصل الاجتماعي تحمل اسمه لنشر أعماله الفنية، وتقول: “تواصلنا مع مركز توثيق التراث التابع لمكتبة الإسكندرية لفيلم تسجيلي عنه وتحدث فيه زملائه عن الفن وحياته البسيطة ونضاله وتحدثوا عن تجاربه وسيتم إذاعته خلال الفترة المقبلة”.
كذلك بالتعاون مع هيئة قصور الثقافة الجماهيرية يتم العمل على إصدار الديوان الوحيد لمحمد حمام لمجموعة أشعار كتبها في بداية حياته، وفي الفترة التي كان فيها في المعتقل وبعد خروجه منها، والديوان سيكون شامل لكل هذا مع تحليل عنه للدكتور أحمد مجاهد، وكذلك سيتم نشره في الأيام المقبلة، مع العمل على كتاب سيرة ذاتية عنه سيتضمن كل المعلومات التي تم جمعها من صور نادرة وأوراق بخطه وقصة حياته.
مناضل سياسي
بحسب سيرته الذاتية التي جمعتها ريم، بدأ وعي ابن الجنوب ونضاله السياسي منذ أن كان في الخامسة عشر من عمره، حيث اشترك في مجموعة سياسية وانفصل عنها، وقضى سنوات طويلة انشغل فيها بالعمل السياسي وبعد خروجه من المعتقل قرر تسخير موهبته كفنان لخدمة هذا العمل السياسي أيضا، وكان يرى أنها أكثر أهمية من إجراء أي محاولات للسعي وراء “النجومية”.
وكان السبب أيضا في عدم سعيه لتوثيق أرشيفه كملحن ومطرب أو كاتب، والسبب الثاني أنه كان شخص محبوب وسط أقرانه على المستوى الشخصي وهذا كان كافيا بالنسبة له.
فترات صعبة مر بها المطرب الراحل نتيجة نضاله السياسي دخل على إثرها المعتقل مرتين، الأولى استمرت لمدة 5 أشهر، والاعتقال الثاني في عام 1959 استمر لمدة 5 سنوات، وتقول ريم عن هذه الفترة: “كانت تجربة مريرة لم يتحدث عنها مطلقا، وكل ما وثقته عن هذه الفترة من خلال زملائه داخل أو خارج المعتقل”.
موهبة خلف القضبان
أصيب بأضرار نفسية بالغة وخرج من المعتقل وجد زملائه تخرجوا في كلية الهندسة وبدأوا حياتهم المهنية، بينما هو ما زال طالبا، ولكن “رب ضارة نافعة” وبرغم ضرر التجربة النفسية، إلا أنها سمحت بلقاء العديد من الفنانين لإيجاد سبيل للحياة حيث خلقوا لأنفسهم حياة طبيعية خلف قضبان السجون، وكانت فترة المعتقل هي السبب في اكتشاف موهبته الفنية.
وتقول موثقة سيرته الذاتية: “بداية اكتشاف موهبته في الغناء وتقديرها كانت خلال فترة المعتقل حيث احتفل حمام مع المناضلين بعيد ميلاد أحد زملائهم السجين معهم، وكنوع من التخفيف عنهم غنى محمد حمام وتفاجأ بترحيب وإشادة زملائه، الأمر الذي جعله تفاجأ لأنه مثل معظم النوبيين الغناء بينهم في الجنوب شائع”.
خلال فترة المعتقل أقنعه زملائه في السجن بأنه فنان ذو صوت قوي وجذاب، خاصة الفنان حسن فؤاد الذي دعمه لخوض المشوار الفني بعد خروجه من المعتقل، وكانت هذه هي البداية لمشواره الفني الداعم للنضال السياسي.
في بيتنا رجل
هروبه من الشرطة السياسية قبل عام 1959 والتجارب التي خاضها، كانت سببا في إلهام الكاتب إحسان عبدالقدوس في أن يستلهم قصة هروب الفنان محمد حمام من الشرطة في كتابة رواية وسيناريو فيلم «في بيتنا رجل» الذي تم إنتاجه عام 1964، خاصة أن تجربة هروبه والاختباء كانت ثرية بالأشخاص والأحداث.
وبالفعل اختبئ في منزل زميله بالجامعة ويدعى “عفت رزق” ولكنه كان تقليدي على عكس حمام ولم يخض تجربة الأنشطة السياسية، وتقول ريم: “اختلفت الحبكة الدرامية في الحقيقية عن الفيلم، وبالفعل كان لدى رزق شقيقة وساعدت محمد حمام في الاختباء والهروب بمساعدة الأم ولكنه لم يقع في حبها مثل أحداث الفيلم”.
«جوكر» النوبة
تعددت مواهب المهندس المعماري، حيث استغل فترة المعتقل في كتابة الأشعار جمعها في ديوان غير مكتمل عن القضايا السياسية، وكذلك كان يرسم نظرا لأنه مهندس معماري وخريج كلية الفنون الجميلة، فضلا عن موهبته في التمثيل حيث شارك كممثل في فيلم «ظلال على الجانب الآخر» مع الفنانة نجلاء فتحي، وفيلم «العشق والسفر» وكان أول بطولة للفنانة حنان ترك، وتم تصويره كاملا في النوبة تحديدا في قرية محمد حمام.
وشارك أيضا كممثل في فيلم من إنتاج فرنسي تونسي تدور أحداثه عن العرب المهاجرية إلى عاصمة الحب “باريس”، والمشاكل التي يتعرضوا لها، وكذلك فيلم من إنتاج كويتي لم يكتمل عن النوبة والحنين إليها، وشارك كمطرب في فيلم «آلو أنا القط».
وبرغم تعدد الأغاني التي قدمها كمطرب وملحن، إلا أنه اشتهر بأغنية واحدة وهي “بيوت السويس” إنتاج عام 1967، وتروي ريم بشيري قصة تسجيلها مما جمعته عن سيرته الذاتية، حيث تمت إذاعة هذه الأغنية بعد خروجه من مبنى الإذاعة والتليفزيون بحوالي نصف ساعة فقط بسبب قوة الكلمات واللحن والأداء، وكتب كلماتها الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي، ولكنها لم تكن مجرد أغنية حماسية كتبها الأبنودي.
ودليل على إيمان محمد حمام بقضيته ونضاله رأى أنه الأهم تسخير الفن لتوعية الجمهور السياسة، خاصة أنه بدأ حينها في جذب الأنظار إليه، لاختلافه عن المطربين الموجودين بالساحة الفنية في الستينات بسبب أنه مطرب جنوبي ويغني لون متفرد به لمساندة المجهود الحربي في ذلك الوقت، كما أوضحت ريم.
وبعد نجاح هذه الأغنية انتقل للإقامة في مدينة السويس، ونظم حفلات تشجيعية للأهالي بهدف التخفيف عنهم بالتعاون مع فرقة “ولاد الأرض” التي أسسها الراحل كابتن غزالي، مستغلا مكانته لدعوة الفنانين لزيارة المدينة ومساندة ومواساة المصريين بالسويس لصالح المجهود الحربي.
عقد من الصمت
وبحسب ما وثقته الباحثة ريم عن سيرته الذاتية، بعد خروجه من المعتقل كان قد انتقل إلى الجزائر لمساعدة المناضلين هناك في الستينات، وظل يمارس العمل السياسي حتى قرر المشاركة في انتخابات مجلس النواب في أوائل التسعينات عن طريق الترشح في حزب التجمع.
وعن حياته الشخصية تزوج ثلاث مرات ولكن لم تدم أيا منها، واستمر في النشاط الفني حتى منتصف التسعينات وفي هذا الوقت أصيب بجلطة في المخ أدت إلى إصابته بشلل نصفي لم يسمح له بممارسة عمله كفنان أو عمله السياسي، وظل قعيد الفراش حتى وفاته في عام 2007.