خزان نجع حمادي.. ملاذ المواطنين في شم النسيم

 

على بعد 5 كيلومترات من مركز أبوتشت، تقع منطقة الخزان كما يعرفها سكان المدينة والمراكز المجاورة دشنا وفرشوط ونجع حمادي، أو “قناطر نجع حمادي” كما هي مسماها بالأوارق الرسمية، التي تتبع الوحدة المحلية لقرية بخانس، مركز أبوتشت، شمالي قنا.

منذ بداية المنطقة تسبق أذنيك ناظرك لتستمع إلى أصوات الباعة و”الزمارة”، يبدأ المشهد بأطفال صغار يلهون بـ”الطراطير” الورقية الملونة، ومرورا بالشارع تستهل إليك رائحة الأسماك من داخل المطاعم المتخصصة والفسيخ و”الملوحة” المنتشرة هناك هكذا يستمر المشهد لمدة 3 أيام متتالية فى نفس الموعد في تلك المنطقة من كل عام.

سارة منصور، إحدى سكان المنطقة، تقول إنها لا تعلم منذ متى بدأت الاحتفالات في منطقة الخزان التي تقام كل عام، مشيرًا إلى أن والدها يروي أنه أيضًا ولد على هذا الاحتفال السنوي.

وتضيف: تبدأ الاحتفالات قبل يوم شم النسيم بيومين، فنخرج للتنزه والفسحة طوال تلك المدة محتفلين بعيد الإخوة الأقباط وشم النسيم، الأطفال عادتنا والكبار أيضًا يشترون الطراطير الملونة وحلويات وألعاب أطفال و”ملوحة” وأكل السمك عمومًا.

البعض يرجع الأعياد إلى أيام المصريين القدماء، فيقول الدكتور بكر عبد السلام مصطفي، مدرس اللغة المصرية القديمة بكلية الآثار – جامعة جنوب الوادي، إن الاحتفالات تعود إلى الاحتفالات بربة الحصاد في مصر القديمة.

ويضيف: أعتقد أنه يرجع لعصر الدولة الوسطى أو أبعد من ذلك ويعكس لنا ذلك أسماء الأشهر المصرية القديمة التي سجلت في منطقة منف منذ عصر الدولة الوسطى، وانطلاقًا من هذا الاحتفال فقد احتفظت الذاكرة المصرية بالحصاد والاحتفال بربته رننوت.

ويوضح عبدالسلام: يعد توصل المصري القديم لطريقة يؤرخ بها نقلة حضارية أتت كنتيجة متوافقة مع معرفته للزراعة والاستقرار وتوصله لنظام الكتابة فيبدأ العام عند المصري القديم في منتصف شهر يوليو أي مع بداية موسم الفيضان، مقسمًا السنة إلى ثلاثة فصول تعكس أسماء هذه الفصول “الفيضان- النماء- الحصاد” بطبيعة السنة الزراعية عند المصري القديم.

شم النسيم أو عيد الربيع يأتي في فصل الحصاد والذي يبدأ من منتصف مارس ويستمر حتى منتصف يوليو هو آخر فصول السنة عند المصري القديم، وكان يطلق عليه اسم “شمو” وكان يحتفل في هذا الفصل بربة الحصاد رننوت.

ويعتقد مدرس اللغة المصرية القديمة أن أصل تسمية عيد شم النسيم يرجع للكلمات المصرية القديمة الدالة على اسم فصل الحصاد باللغة المصرية القديمة وهي “شمو” وكلمة أعشاب أو نباتات وهي “سمو” وعند اتصال الكلمتين ببعضهما تنطق هكذا “شمو إن سمو”.

ويكمل: كلمة “شمو” غير أنها دالة على فصل الحصاد فهي تعني الذهاب أي ذهاب المحاصيل والنباتات من الأراضي وهو ما يتفق مع معنى الحصاد، وكلمة “سمو” والتي نطقت في القبطية “سيم sim” وتعني بشكل عام أعشاب أو نباتات.

“الفسح” والبيض الملون

وعن مظاهر الاحتفال فما هي إلا محاكاة لما كان الفلاح المصري القديم يفعله أثناء الحصاد من الخروج من المنزل مبكرًا مع أهله وقطعًا جيرانه -لأن المجتمع الزراعي مجتمع تعاوني يقوم على تعاون أفراده- مصطحبين معهم الماء والطعام وما يعينهم على العمل.

وكانت أطعمتهم بسيطة تكاد تكون هي نفسها التي تؤكل في هذا اليوم حتى الآن وهي نفسها التي يصطحبها أي فلاح أثناء ذهابه لحقله، والناظر المتمعن في عادات الفلاح المصري الآن يستطيع بكل سهولة القول بأن الفلاح المصري لم يتغير وأنه ورث عن أجداده كل التقاليد الزراعية وما يرتبط بها من مظاهر احتفالية مع اختلاف المسميات.

وحول تلوين البيض يقول عبدالسلام إنه مصور على جدارن المعابد مع باقي القرابين وهو ملون أيضًا في الدولة القديمة، لافتًا إلى أن البيضة تعني لدى القدماء نشأة الخلق أو الميلاد والتكوين واستخدمت علامة دالة على الابن فيما بعد.

الفسيخ

وعن ارتباط نوع معين من الأطعمة في هذا اليوم بالتحديد مثل “الفسيخ” مثلا، يقول الدكتور عبدالسلام: لا يوجد على حد علمي مرجع تاريخي يؤكد أن المصريين القدماء كانوا يتناولون الأسماك المملحة في هذا اليوم تحديدًا بل الملاحظ أن السمك المملح – وهي طريقة الحفظ المعتادة للأسماك عند المصري القديم- كان طعامًا موجودًا عند المصريين القدماء يأكلونه طوال العام.

أصل شم النسيم

الدكتور وائل النجمي، الناقد والباحث في الموروثات الشعبية، يقول إن الأصل في يوم شم النسيم هو احتفال كافة الأسرة بالخروج للهواء الطلق ومعاينة الطبيعة والكون في اليوم الذي يرمز من منظور قدماء المصريين إلى بداية خلق الكون، وبداية بعث الحياة، في طقوس معروفة يكاد يكون أغلبها مستمر حتى الآن.

يضيف النجمعي: مع الوقت اختفت منه أشياء واستبدلت أشياء، فمثلًا اختفى وضع البصل المقطع على أعتاب المنازل حتى يطرد الأرواح الشريرة ويطرد الأوبئة والأمراض، كما دخلت بدائل مع أكل الملوحة مثل الرنجة والسردين وغيرها، مع ملاحظة أن الصعيد لا يعرف الفسيخ الذي هو السمك البحري “البوري غالبًا”، ويتناول بدلًا منه الملوحة التي هي السمك النيلي المملح.

ويكمل أن هناك بدائل ظهرت لخروج الأسرة إلى الحقول الخضراء، خاصة مع نقص مساحاتها، لتحل محلها الأندية، وبعض المناطق المخصصة للترفيه، وتراجع خروج كامل الأسرة لصالح خروج الشباب فقط في الغالب.

الباحث في الموروثات الشعبية يشير إلى أن شم النسيم يعد موسمًا لزيارات الأهل لبناتهم المتزوجات، فالكثير من الأسر تحرص على تناول الغداء في هذا اليوم في تجمع عائلي، يجمع مختلف أطراف الأسرة، وباعتبار أقرب الأماكن للترفيه في الصعيد هي الأقصر والغردقة، فغالبًا ما تشهد تدفق من الشباب إلى هذه الأماكن.

ويوضح أنه يجدر ملاحظة أن الصعيد يضم بداخله نسيج متنوع من القيم والعادات والثقافات، فما قد يكون عادة في قرية قد لا يكون له نفس القيمة الاجتماعية في قرية مجاورة لا تبعد عنها إلا أقل من كيلومتر واحد.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر