أوراق جدودنا: من أجل تاريخ جديد

كيف يعثر المؤرخون والمؤرخات على التاريخ؟

يظن البعض أن التاريخ واحد كنهر النيل، وأن مجراه يسير دائمًا في نفس الاتجاه وبنفس السرعة منذ قديم الأزل وإلى الأبد. بحسب هذا التصور، يشكل التاريخ مجمل الأحداث البشرية الهامة، والمؤرخون هم مَن يوثقون سير الأحداث، أو في حال أنهم لم يعاصروا الأحداث بأنفسهم، هم مَن ينقلون كتب التاريخ السابقة كي يوثقوا الأحداث الصحيحة، وتتعقب على كل جيل أجيال أخرى تزوّد كتب التاريخ بالأحداث اللاحقة، وهكذا إلى آخر الزمن.

إذن يسود الظن بأن المؤرخين يعثرون على التاريخ من الخبرة المباشرة أو من مؤرخين آخرين، سواء كانوا أحياء أو أموات. ربما ينطبق هذا الوصف على ممارسة المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون سير الأمم والملوك بناءً على الإسناد الشفاهي ونقل المراجع السابقة، ولكنه وصف لا ينطبق على ممارسة المؤرخين والمؤرخات المعاصرين، الذين يعتمدون بشكل رئيسي على الوثائق المكتوبة والصور والتسجيلات التي ينتجها الفاعلين والفاعلات التاريخيين بأنفسهم– وهي ما تُسمى بـ”المصادر الأولية” في المنهج التاريخي، أي المصادر الأرشيفية التي يعتمد عليها البحث العلمي.

أوراق أجدادنا
أوراق أجدادنا

التاريخ والأرشيف

في التصور الشائع، الأرشيف هو المبنى الحكومي الضخم الذي يضم جميع الوثائق الهامة في دولة ما، ويرتبط الأرشيف هكذا ارتباطًا وثيقًا بالدولة القومية الحديثة. يجسد مبنى الأرشيف نفسه قوة الدولة وتاريخها وقيمتها، ولابد أن أي دولة ذات أهمية تعتز بأرشيفها الخاص. لذلك يظن الكثيرون أنه لا يوجد أرشيف إلا في العاصمة أو في الإدارات الإقليمية التابعة للعاصمة، ومن هنا يفهم أن الأرشيف يوجد فقط في القاهرة وليس في الأقاليم.

يبتعد هذا التصور تمام البعد عن واقع الأرشيف القومي المصري. الأرشيف المركزي غير مكتمل، وليس فقط بسبب عجز الجهاز الإداري على تجميع الوثائق الهامة والاحتفاظ بها، بل أيضًا (وبشكل أوسع) بسبب الممارسات الإدارية التي تنتهي إلى محو وثائق العمل الحكومي. كما لا توجد متابعة صارمة لأرشفة الأوراق الإدارية مثل المذكرات والكتب الدورية والتقارير ومحاضر الاجتماعات في جميع الإدارات الحكومية.

الوثائق الفنية و التاريخ

ومن هنا لا تنتهي “الوثائق الفنية” في الأرشيف القومي دائمًا، بل كثيرًا ما ينتهي بها الأمر إلى البيع في أسواق الورق والكتب القديمة، أو البقاء في الأوراق الشخصية وأضابير الإدارات والمؤسسات الصغيرة.

إذن لا يضم الأرشيف المركزي جميع آثار الممارسات الحكومية اليومية، فضلا عن أفعال المواطنين والمواطنات خارج إطار الدولة المباشر. يدعو هذا الوضع إلى تشاؤم وتأسف البعض، ويدعوهم أيضًا إلى مقارنة مصر ببلاد العالم “المتقدم” حيث تعتني الدول بأرشيفها بكفاءة. يفترض هذا التصور أن الأرشيفات الأوروبية متكاملة (وهذا غير دقيق) وأن المادة الأرشيفية الوحيدة هي تلك التي توجد في الأرشيف (وهذا غير صحيح). إني أرى بالعكس أن الوضع الراهن يدعو للتفاؤل. في سياق أصبح فيه شبه مستحيل الوصول إلى الأرشيفات الحكومية عمومًا بالنسبة للكثير من الباحثين والباحثات، هناك فرصة جادة للحصول على المواد الأرشيفية الهامة خارج نطاق الأرشيف الرسمي.

أرشيف في كل منزل

فإذا تصورنا معًا أن جميع بيوت مصر وأقاليمها تضم مخازن ورق ووثائق بمثابة الأرشيف الصغير.. وأن الكثير من المواد الموروثة عبر التراكم العائلي أو المؤسسي تبقى في تلك البيوت.. إذن من الواضح أن أمامنا فرصة استثنائية لاستخراج المادة التاريخية من أوراق ووثائق البشر.

ويستخدم البعض كلمة “الأرشيف” للتعبير عن تلك الأوراق والوثائق الشخصية مجازًا.. ورغم أن هذا الاستخدام يفقد المصطلح من دقته التقنية.. فهو يعبر عن المهمة التي تقع أمام المهتمين والمهتمات بالشأن التاريخي حاليًا.. وهي إعادة بناء تاريخ مصر عبر آثارها المكتوبة والمرئية والمسموعة خارج سطوة الحكومة.. عبر الأوراق والوثائق والصور والتسجيلات التي تنتشر في جميع البيوت.. وربما تشكل مصادر غير مسبقة لكتابة تاريخ آخر للبلاد.

ترك جدودنا أكوامًا هائلة من الوثائق، ولا يهتم الكثير منا بها، أو يعتني بترتيبها، أو يقدر قيمتها.. وغالبًا ما نتعامل معها كأطلال من الأوراق المتربة. ولكن في كل كومة من تلك الأكوام، وفي كل وثيقة من تلك الوثائق هناك شذرة من تاريخ اجتماعي ينتظر من يكتبه.. ليس تاريخ الرجال المهمين والأحداث الهامة، بل تاريخ الناس التي عاشت قبلنا.. وعلاقتها بالأحداث السياسية والاقتصادية، وارتباطها بالحاضر وبالمستقبل.

تاريخ أسلافنا

ربما يلقي هذا النوع من التاريخ ضوءًا جديدًا على أسلافنا.. وقد لا يتقيد بالضوابط المهنية للمؤرخ القومي، الذي يعتمد على أرشيف الدولة ويعكس رؤيتها المركزية.. إذ ربما يبدأ هذا التاريخ الجديد بأوراق الجدود أينما وُجدت.. خاصةً خارج القاهرة وخارج النطاق الحكومي.. وتترتب عليه روايات جديدة عن الماضي تذهب أبعد من الروايات المعتادة، التي تصب مثل النيل في بحر واحد.. ولا تنظر إلى جميع البشر التي سكنت على ضفتيه.

شهاب الخشاب – باحث في الانثروبولوجيا بجامعة كمبريدج.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر