تجريف التربة وطوب خرساني.. ماذا يحدث داخل حديقة «المسلة» التراثية؟
مشروع استثماري جديد يهدد مصير حديقة «المسلة» التراثية في حي الزمالك، التي يزيد عمرها على 150 عاما. إذ تظهر الصور تجريف قطعة أرض داخل الحديقة وجلب مواد بناء إليها، تمهيدا لإنشاء مقاهي ومطاعم عليها، مما يثير المخاوف بشأن التأثير على الطابع التاريخي للحديقة.
تهديد لتراث حديقة المسلة
تأتي الأعمال الخرسانية المجهولة في الحديقة التراثية بغرب القاهرة بعد مرور ثلاث سنوات على تعاقد محافظة القاهرة مع شركة سياحية لإنشاء “العجلة الدوارة – عين القاهرة” في الحديقة، وهو المشروع الذي تسبب في غضب عارم واعتراضات من النواب في ذلك الوقت على المساس بالحديقة التراثية. ويتجدد الجدل الآن مع تجريف التربة وجلب مواد البناء إلى الحديقة التراثية، التي تبلغ مساحتها 12600 متر مربع. وهو ما دفع سكان حي الزمالك للتعبير عن غضبهم ومخاوفهم من المشروع المزمع إقامته داخل حديقة المسلة.
من جانبها، أعربت جمعية تنمية الزمالك عن قلقها، وطالبت بتشكيل لجنة مختصة لترميم حديقة المسلة التراثية. وفقا لقوانين وأسس الدولة للحفاظ على الحدائق التراثية وترميمها. كما دعت إلى الالتزام بالدليل الإرشادي للجهاز القومي للتنسيق الحضاري فيما يخص تطوير الحدائق التراثية. والذي يتضمن عدم المساس بسور الحديقة أو فتحه على الرصيف. ووقف قطع الأشجار والتوسع في المساحات الخضراء.
مشاريع تجارية تهدد التراث
أكدت الجمعية أن المشروع يشكل تهديدًا كبيرًا للتراث التاريخي للحديقة من خلال تحويل جزء كبير منها إلى منشأة تجارية. كما حذرت من تفاقم الأزمة المرورية في المنطقة وزيادة مستويات التلوث، رغم توجيهات الدولة ومحافظة القاهرة بالحفاظ على المساحات الخضراء كمتنفس طبيعي.
ورغم إدراك الجمعية لأهمية التطوير، فإنها ترى أن هذا النوع من المشاريع التجارية لا يتناسب مع طبيعة الحديقة التراثية التي تشكل جزءًا من الهوية الثقافية لحي الزمالك. وطالبت نيابة عن سكان الزمالك بتجميد الأنشطة التجارية داخل الحديقة، والاكتفاء بمطعم واحد يتم إنشاؤه بشكل غير دائم.
حديقة المسلة.. من مشروع العجلة الدوارة لمشروع مطاعم
من جانبها، تساءلت النائبة سميرة الجزار، عضو مجلس الخطة والموازنة بمجلس النواب، عن مصير حديقة المسلة المطلة على النيل. وكانت الجزار قد دافعت عن تراث الحديقة في وقت سابق، خلال عام 2021، بعد الإعلان عن تنفيذ مشروع “العجلة الدوارة – عين القاهرة”. الذي تعاقدت على تنفيذه محافظة القاهرة مع شركة هاواي للسياحة والاستثمار في ذلك العام على أرض حديقة المسلة.
تم إيقاف المشروع بعد العديد من المناشدات، وتقديم النواب طلبات إحاطة، ومن بينهم الجزار التي ناقشت وزيرة البيئة في 27 يناير 2021 عن المشروع، وسألتها عن عدم تدخلها لوقف وزارة التنمية المحلية التي وافقت على إقامة العجلة الدوارة على أرض حديقة المسلة. مع استحالة تنفيذ المادة 19 من الاشتراطات البيئية للمشروع طبقا لقانون البيئة رقم 4 لعام 1994.
وتقدمت النائبة سميرة الجزار بطلب عاجل إلى رئيس مجلس النواب في مطلع أكتوبر الماضي بناء على استغاثات من سكان حي الزمالك.
وقالت: “الآن، وبعد مرور ثلاث سنوات، فوجئنا وفي الخفاء أن هناك عبثا في حديقة المسلة مرة أخرى. فلماذا الإصرار علي إقامة مشروع سيحول هذا الحي السكني الراقي إلى ملاهي؟ ولماذا الإصرار على تنفيذ ما لا يريده الناس؟”.
وتستكمل: “هناك شخص أو جهة معينة مصممة على تنفيذ ما لايراه سكان الزمالك في مصلحتهم. وكل سكان القاهرة متضامنين معهم لأن هذه الحدائق هي المتنفس الوحيد المتبقي لهم في حي الزمالك، مع القليل مما تبقى من مساحات خضراء. بالإضافة إلى قيمتها التاريخية التي دفعت الدولة في السابق لضمها إلى قائمة المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز”.
تفاصيل المشروع
تواصل «باب مصر» مع المهندس محمد أبو سعدة، رئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، لمعرفة سبب وجود مواد بناء وتجريف تربة حديقة المسلة التراثية، وحقيقة إنشاء مقاهي ومطاعم بها. وهو ما يتنافى مع مواد الدليل الإرشادي للحدائق ذات الطابع المعماري المتميز. ويتعارض أيضا مع ميثاق فلورنسا العالمي لكيفية التعامل مع الحدائق التراثية، والذي وقعت عليه مصر.
وقال رئيس جهاز التنسيق الحضاري في تصريحات خاصة لـ«باب مصر»: “حديقة المسلة مسجلة ضمن الحدائق التراثية. وجاري التنسيق مع محافظة القاهرة للاطلاع على مشروع التطوير المقترح”.
وتابع: “سيتم اعتماد المشروع من الجهاز القومي للتنسيق الحضاري والمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية طبقا للأسس والمعايير الخاصة بالحفاظ على الحدائق التراثية”.
طلب إحاطة عاجل
في طلب الإحاطة العاجل، أبدت النائبة سميرة الجزار قلقًا شديدا مما وصفته بمحاولة تحويل مفهوم “التطوير” إلى إضافة مبان تجارية استثمارية داخل حديقة المسلة. واعتبرت أن هذا الأمر غير مقبول، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحدائق الأثرية والتاريخية التي تشكل جزءًا من هوية العاصمة.
وأضافت النائبة أن هذا النوع من المشاريع قد يهدد القيمة البيئية والتراثية للحدائق، حيث إن تحويل المساحات الخضراء إلى منشآت تجارية قد يغير الطابع التاريخي للحديقة بشكل جذري.
وقدمت طلب الإحاطة، إعمالا بأحكام المادة (134) من الدستور، والمواد (212، 213، 214) من اللائحة الداخلية لمجلس النواب، إلى كل من: المهندس مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، والدكتورة ياسمين فؤاد، وزيرة البيئة، وعلاء فاروق، وزير الزراعة واستصلاح الأراضي، والدكتورة منال عوض ميخائيل، وزيرة التنمية المحلية.
مخالفة للدستور
تشير النائبة إلى أن محاولات تطوير وتغيير طبيعة الحدائق، خاصة تلك التي تتمتع بمكانة تاريخية وثقافية، تتعارض مع المبادئ الأساسية التي ينص عليها الدستور المصري، وهي:
1- مخالفة للمادة 32 من الدستور:
تنص المادة 32 على أن “موارد الدولة الطبيعية ملك للشعب، وأن الدولة تلتزم بالحفاظ عليها وحسن استغلالها، وعدم استنزافها، مع مراعاة حقوق الأجيال القادمة فيها”.
2- مخالفة للمادة 45 من الدستور:
تنص على أن: “الدولة تلتزم بحماية بحارها وشواطئها وبحيراتها وممراتها المائية ومحمياتها الطبيعية. ويحظر التعدي عليها أو تلويثها أو استخدامها بما يتنافى مع طبيعتها، وحق كل مواطن في التمتع بها مكفول. كما تكفل الدولة حماية وتنمية المساحة الخضراء في الحضر، والحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية والسمكية، وحماية المعرض منها للانقراض أو الخطر، والرفق بالحيوان، وذلك كله على النحو الذي ينظمه القانون”.
3- مخالفة للمادة 46 من الدستور:
تنص على أن: “لكل شخص الحق في بيئة صحية سليمة وحمايتها واجب وطني، وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليها وعدم الإضرار بها. والاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية بما يكفل تحقيق التنمية المستدامة وضمان حقوق الأجيال القادمة فيها”.
4- مخالفة للمادة 50 من الدستور:
تنص على أن: “تراث مصر الحضاري والثقافي، المادي والمعنوي، بجميع تنوعاته ومراحله الكبرى، المصرية القديمة، والقبطية، والإسلامية، ثروة قومية وإنسانية. تلتزم الدولة بالحفاظ عليها وصيانتها. وكذلك الرصيد الثقافي المعاصر المعماري والأدبي والفني بمختلف تنوعاته. والاعتداء على أي من ذلك جريمة يعاقب عليها القانون. وتولي الدولة اهتماما خاصا بالحفاظ على مكونات التعددية الثقافية في مصر”.
وتوضح النائبة أن تطوير حديقة المسلة يتطلب تجريف جزء من الحديقة وأحيانا بعض الأشجار لعمل مطاعم أو مقاهي أو محلات أو جراجات. ما يعد تدميرا للحديقة ولتاريخ القاهرة. وتشويها للأثر والتراث. بما يخالف القانون رقم 119 لسنة 2008 واللائحة التنفيذية التي تخص معايير التنسيق الحضاري للمباني والمناطق التراثية ذات القيمة المميزة.
الدليل الإرشادي لترميم الحدائق التراثية
طالب سكان حي الزمالك بتشكيل لجنة متخصصة لترميم حديقة المسلة التراثية. وفقًا لقوانين وأسس الحفاظ على الحدائق التراثية. ويشمل ذلك الالتزام بالدليل الإرشادي للجهاز القومي للتنسيق الحضاري الخاص بالحدائق ذات الطابع المعماري المتميز. والمعتمد من المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية، في جلسته رقم 25 المنعقدة بتاريخ 28 سبتمبر لعام 2021، والذي يحمل القرار رقم 44-09-21- 8.
ويتضمن الدليل أسسا ومعايير للتنسيق الحضاري بهدف الحفاظ على الحدائق ذات الطابع المعماري المتميز في مصر. ويعتبر مرجعا أساسيا لإدارة الحدائق التراثية التي تعود إلى القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. حيث تنطبق عليها المعايير والمواصفات المنصوص عليها في القانون 144 لعام 2006. وقرار رئيس الوزراء رقم 2276 لسنة 2006. ويشير إلى عدم التعدي على أي جزء من الحديقة أو استغلالها في غير أغراضها الأصلية.
حدائق مصر التراثية
عرفت مصر إنشاء الحدائق وتنظيم المتنزهات والبساتين في أوائل القرن التاسع عشر. وقد تعرضت العديد من الحدائق التراثية للتدمير والتشوية في الآونة الأخيرة. يشير دليل ترميم الحدائق التراثية إلى أنه تم البناء على العديد من هذه الحدائق. رغم وجود ميثاق فلورنسا العالمي لعام 1982، الذي وقعت عليه مصر ويحدد كيفية التعامل مع الحدائق التراثية والإجراءات القانونية للحفاظ عليها.
وتشمل أسس ومعايير الحفاظ على الحدائق التراثية، الحفاظ على تكوينها الطبيعي، وطابعها التراثي، وفوائدها البيئية، ورسالتها:
1- يحظر التعدي على أي جزء من الحديقة أو استغلالها في غير أغراضها الأصلية.
2- ضرورة الحفاظ على المزروعات وحمايتها في صورتها الأصلية طبقا للتخطيط العام وتنسيق الموقع في الحديقة.
3- الحفاظ على العناصر المعمارية والإرشادية والمكونات الجمالية القائمة وعناصر المياه الجارية والمتحركة وفقا لطابعها الأصلي.
4- عدم عزل الحديقة التراثية عن محيطها المباشر. سواء كان عمرانيا حضريا أو ريفيا أو طبيعيا.
تاريخ حديقة المسلة التراثية
بحسب دراسة “الخطة المتبعة لترميم وإحياء الحدائق الأثرية في مصر” لياسر محمد السيد، أستاذ مساعد بكلية الفنون الجميلة حلوان، تُعد حديقة المسلة من حدائق النهر التي تم إنشاؤها بعد افتتاح كوبري قصر النيل القديم عام 1872. الذي أقامه الخديوي إسماعيل لربط منطقة الإسماعيلية (ميدان التحرير) بجزيرة الزمالك. وكانت الحديقة جزءا من شريط ممتد من الحدائق على شاطئ النيل.
وقد عُرفت الحديقة بهذا الاسم نسبةً إلى مسلة الملك رمسيس الثاني، التي كانت موجودة بها ثم نقلت منها لمتحف العلمين بمدينة العلمين الجديدة. يُعرف الموقع الرسمي لمحافظة القاهرة حديقة المسلة بأنها من الحدائق الأثرية الهامة في القاهرة. إذ تحتوي على كنوز وثروات مصرية، وكانت مقصدا سياحيا هاما. كما احتوت على العديد من القطع الأثرية النادرة مثل تمثالين من الجرانيت الأسود للملك رمسيس الثاني. وتمثال من الجرانيت الوردي للإله حورس.
تم نقل التمثالين من الحديقة في عام 2018 تمهيدا لوضعهما في المتحف المصري الكبير. بعد أن كانا في الحديقة منذ عام 1962، حين تم نقلهما من منطقة آثار المطرية إلى حديقة المسلة.