مهن لا تعرف الكورونا.. عم كحلاوي يصلح وابور الجاز من 50 عام

الساعة تدق الرابعة عصرا، لم يتبق سوى ساعة واحدة على بداية تطبيق الحظر على المحال، دكان صغير ذو باب خشبي قديم، بعطفة الروم في الدرب الأحمر، وإذ بالعم محمد يهرول بدراجته ناحية الدكان، بعد أن انتهى من عمل خارجي كان فيه.

يفتح العم محمد الباب ويجمع عدد من المعدات، التي يبدو عليها القدم من لونها الأسود، ويضعها في جوال ومعها وابور الجاز، يبدو أنها المهمة المنزلية التي سيعمل عليها بعد أن يذهب بيته وهى تصليح وابور الجاز.

مهنة

ما إن جمع العم محمد ما أراد من عمله، أخذ نفسًا عميقًا ليطمئن به نفسه باستمرار العمل رغم فرض الحظر، ويستضفني بعد اعتذاره عن التأخير لأنه كان في منزل أحد الزبائن يصلح له الوابور والبوتاجاز.

20 دقيقة فقط المدة الزمنية التي أمهلني إياها عم محمد للحديث معه داخل دكانه الصغير، لا يتعدى مساحته المترين، جدران متهالكة غطتها ألسنة اللهب ناتجة عن تصليح الوابور.

داخل محل عم كحلاوي لتصليح وابور الجاز- تصوير: أميرة محمد
داخل محل عم كحلاوي لتصليح وابور الجاز- تصوير: أميرة محمد

“مهنة جدي من الأساس وأنا أخر واحد في العائلة وبالدرب الأحمر بشتغل فيها”، يبدأ العم محمد الكحلاوي، 66 عامًا، حديثة عن البدايات التي يعيش معها حتى الآن.

ويقول: من 80 سنة كان جدي يقف على منضدة خشبية في أول الشارع، ليصلح بها وابور الجاز وكان حينها معروفًا للغاية، حتى استطاع أن يكون له زبائن من أكثر من منطقة مجاورة، ليقم بشراء هذا المحل الصغير، ليقف والدي معه ثم بدأت أتعلم منهم الصنعة وأنا في سن العاشرة.

ذكريات رحيق العمر

يتحدث جلال أمين في كتاب “رحيق العمر” عن ذكرياته مع مهنة تصليح وابور الجاز، قائلًا: “مهنة تصليح وابور الجاز كانت من المهن المهمة في فترة منتصف الخمسينات، فلم نكن نعرف في ذلك الوقت مواقد الغاز أو الكهرباء ولا كان في البيت فرن توضع فيه الصواني وتشوي فيه اللحوم، بل كان مثل هذا يحتاج إلى إرسال الطعام إلى فرن عام، وكانت وسيلة الطهي الوحيدة وكذلك غلي الماء لعمل الشاي أو غيره، أو تسخينه للاستحمام في الشتاء هي الوابور”.

والوابور هو جهاز بسيط للغاية، ولكنه خطر للغاية، ومع ذلك لا يمكن الاستغناء عنه، ولهذا السبب نشأت هذه المهنة المهمة إصلاح وابور الجاز.

هذا ما أكده الحكلاوي حين حكا ذكرياته في وجود والده وجده.

ويكمل: “كانت الناس تقف بالطابور حاملة وابور الجاز في انتظار دورها لتصليحها، ليجد نفسه الجد يعمل طوال اليوم دون كلل أو ملل، حتى في مرحلة بعد توارث المهنة للأب ومن بعدها له، كانت الناس تأتي على اسم وشهرة محل الكحلاوي “كنا ناخد ساعة واحدة في اليوم نروح البيت للغداء أنا وأبويا ونرجع نلاقي الناس وقفة طوابير لدرجة أن في أجنبية في مرة افتكرت أنه عزاء وتأثرت وقالولها أنه محل تصليح وابور الجاز”.

أجزاء وابور الجاز داخل محل عم كحلاوي- تصوير: أميرة محمد
أجزاء وابور الجاز داخل محل عم كحلاوي- تصوير: أميرة محمد

شركة بريموس

تعلق شركة “بريموس” وهي من أقدم شركات الشرق الأوسط في تجارة المواقد، على صورة إعلان وابور الجاز الخاص بها على صفحتها بـ”الفيس بوك”، وتقول إن وابور الجاز هو كلمة أصلها فرنسي Vapeur و تعني بخار الكيروسين الممتزج بالدخان.

وانتشر الوابور بين الناس حتى في القرى فيما بعد، حيث يمثل الراحة للسيدات وربات البيوت من عناء إشعال نار الحطب والنفخ وجرف الرماد وغبار الفحم ورائحة الدخان.

وفي هذه الأيام ما زال العديد من كبار السن الجدات والأجداد في الريف العربي يتعاملون مع البريموس بكل شوق ودفء حيث ينظرون إلى (موقد الغاز الحديث) نظرة شك وعدم اقتناع.

وابور جدتي

تحكى أم محمد، جدتي، صاحبة الـ77 عامًا، التي مازالت تحتفظ بوابور الجاز في غرفتها العتيقة مع أشياء ثمينة أخرى مر عليها أكثر من 50 عام، “طبخت أكل سنين طويلة عليه أنا وأمي، وحتى بعد الجواز من جدك، مر عليا سنين وإحنا بنستخدمه، ولم استغن عنه حتى بعد ظهور البوتاجاز، دة يتشرب أحلى كوباية شاي منه”.

يعاود الكحلاوي الحديث قائلا إن الوابور يتكون من ثلاثة أرجل ورأس وفونية وخزان ومكان للتنفيس محكم الإغلاق، من خلاله ينطفئ الوابور ويوضع من خلاله الجاز داخل الخزان، منوهًا بأنه له العديد من الأنواع أشهرها: “أبو فونية”، “أبو شرايط” و”السربتاية” وهي تلك التي لا يزال البعض يفضلها في عمل القهوة.

أما عن أعطال الوابور، فتتعلق بـ(جلبة الكبس والفونيا والتنفيس من الرقبة)، يتم إصلاحها بسهولة، وبعضها يتم تغيير قطع منها، وذلك باستخدام المكواة ومياه النار والقصدير والنشادر ومفتاح صغير.

أما عن الزبائن فيؤكد الكحلاوي أنه هناك عدد قليل لازال يحتفظ به، وهو الذي يعمل من خلالهم، فهم الزبائن القديمة والحريصة على التمسك بكل ما هو أصيل، حتى وإن اختلف الاستخدام، فأغلبهم يستخدم الوابور في أعمال منزلية بسيطة أو اقتصاره على عمل القهوة فقط.

وأوضح أنه في الفترة الأخيرة طور من نفسه وتعلم صيانة البوتاجاز ولكن الإصدارات القديمة وليست الحديثة.

منطقة عطفة الروم بالدرب الأحمر - تصوير: أميرة محمد
منطقة عطفة الروم بالدرب الأحمر – تصوير: أميرة محمد

حظر التجوال

يوضح الكحلاوي أن ما تأثر به هو غلق المحل مبكرًا عن المواعيد الرسمية له طبقا لمواعيد الحظر، خاصة وأن المحل بالنسبة له مكان عمله ورفاهيته أيضًا، إذا يضيع الوقت به ويعيش فيه مع ذكريات والده.

أما عدد الزبائن فهو من الأساس قليل، لذا لن يتأثر قوت يومه كثيرًا بفرض حظر التجول، وقد تمر أيام عليه يغلق المحل فيها بالكامل، تطبيقًا للحظر المنزلي، إلا أن يتصل به أحد طالبًا إصلاح شيئَا ما، فيفتح المحل ويمارس عمله.

 

 

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر