بطن القرافة.. مشاهدات خيري شلبي في الجبانة
مع عمليات الهدم التي تعرضت لها أجزاء متفرقة من جبانات القاهرة في الأونة الأخيرة، توالى البحث عن من يدون أيام القرافة ومشاهد من داخلها. لذا لم يكن غريبا أن يطل اسم الروائي الكبير الراحل خيري شلبي (1938-2011)، من نافذة القرافة، فالرجل الذي عرف برواياته عن المهمشين، عاش بين جنبات ترب المجاورين ورصد عوالم مهملة. واكتشف تفاصيل الجبانات المدهشة، والأهم أنه شاهد عيان لأحداث جسام تعرضت لها الجبانات عند شق طريق الأتوستراد قلب الجبانات ثمانينيات القرن الماضي. الأمر الذي يجعل من استدعاء ما كتبه شلبي ليس فقط تذكيرا بما كتب، بل إعادة اكتشاف جديدة للنص على ضوء ما يجري في الجبانات من تعديات حكومية جديدة بنفس المزاعم القديمة.
**
نعرف أن شلبي استقر في حوش بترب المجاورين غير بعيد عن مجموعة السلطان الأشرف قايتباي. “انتجع” الروائي المصري أحد أحواش منطقة المقابر لكي يكتب ويقرأ ويتأمل بعيدا عن صخب المدينة. كان ذلك في ثمانينات القرن الماضي، وهي الفترة التي تم فيها شق طريق الأوتوستراد الذي تعرضت المقابر فيه للانتهاك. وهو ما سجله خيري شلبي كشاهد عيان في الجغرواية (بطن البقرة)، ثم بشكل موسع في (نسف الأدمغة)، التي اعتبرها رواية تسجيلية. يقول في الأخيرة: “من صبيحة ربنا إلى غياب الشمس تقوم الجرافات والكاسحات مع الحفارات بتفجير كل صلابة تعترضها في الأرض. إذ إنها تشق طريق (أوتوستراد) من مطار القاهرة إلى حلوان مخترقًا مقابر المجاورين والغفير والإمام الشافعي والأباجية والهضبة السفلى للمقطم”.
ينقل شلبي اعتراضات ساكني المقابر وحراس الأحواش على التعامل المستهتر مع المقابر وساكنيها الموتى. يقول عن عم وهدان حارس الأحواش الذي يتملكه الغضب من مراقبة: “هذا الهوان البشع الذي يحدث لعباد الله الذين كانوا راقدين في حماية داره الآخرة، وبين يديه سبحانه. فكيف يجرؤ هؤلاء الجبابرة الغلاظ القلوب على انتهاك حرمة الدار الآخرة ودهس الرفات بالمحاريث والجرافات والكاسحات؟”.
حاول شلبي وهو الراوي وبطل الرواية التسجيلية، أن يردد الكلمات الكبيرة التي نسمعها دائما “قلت له كلمات كبيرة كثيرة عن المصلحة الوطنية العامة. وعن ضرورة التضحية بأشياء غالية في سبيل تسهيل حركة المرور في الحياة. ولكن لأنني في الأصل غير مقتنع تماما بما أقول. كانت كلماتي تخبط في جبهة عم وهدان تحت عمامته الصعيدية المفلطحة، ثم ترتد إلى رأسي ساخرة مما أقول ثم تقع على الأرض ميتة”.
**
لكنه يعود ويقدم لنا صورة أكثر رعبا لما جرى في رواية (بطن البقرة). إذ يكتب: “قدر لي أن أشهد تجربة لا أنساها ما حييت، تلك عملية إنشاء طريق الأوتوستراد، وهو طريق مواز لصلاح سالم. يبدأ من نفس البداية لينتهي في حلوان من خلف القاهرة، فكانت البلدوزرات تشق قلب المقابر في قسوة جهنمية بشعة. بمحاريث تغوص في قلب التربة فترمي بعظام الموتى على الجانبين، لكي يجئ وابور الزلط فيدوس الأرض… وكان المنظر مؤلمًا وسخيفًا. وباعثًا على الحزن والكآبة… وكان لابد أن نفعل شيئًا نريح به خواطرنا الغاضبة. فكونا فريقًا كنت على رأسه، واشترينا مجموعة من الزكائب. وصرنا نمضي خلف البلدوزرات والوابورات نجمع الأشلاء نعبئها في الزكائب… وحفرنا في بقاع كثيرة لندفن هذه الزكائب”. وهو نص نراه مرة أخرى بصيغة مقاربة في (نسف الأدمغة).
أهمية نصوص خيري شلبي ليس فقط في شهادته كشاهد عيان لما جرى من إهانة للموتى ولمباني الجبانات ونسيجها العمراني. بل أنه يكشف عن جماليات جبانات القاهرة بصورة غير مسبوقة في العصر الحديث. ففي الوقت الذي كتب فيه شلبي ما كتب عن الجبانات كانت الأخيرة قد وصمت بكل ما هو سيئ ومدنس. حتى أنها أصبحت محل نظرة احتقار طبقي من سكان أحياء المدينة لمن يسكن الجبانات. وهو ما جسده ببراعة إحسان عبدالقدوس في قصته القصيرة (أنا لا أكذب ولكني أتجمل)، التي تفضح هذه النظرة الاستعلائية التي تنظر لمن يسكن المقابر باعتبارهم أقل من البشر. لذا يتوقف خيري شلبي عند أسرة خرجت من القرافة لتحقق نجاحات كبيرة داخل مصر وخارجها. يقول “حاجة تفرح فعلا أن قرافة المجاورين المصرية تهدي للعالم عقولا نيرة”.
**
لكن هذا ليس كل شيء بل أن الروائي الواعي يقدم نماذج بشرية من لحم ودم لسكان الجبانات. نماذج إنسانية معجونة بطين هذا البلد، لا تختلف هذه النماذج عن شقيقاتها التي يقدمها نجيب محفوظ من عالم الحارة المصرية. وهنا يستعيد خيري شلبي عالم الجبانة من الاحتقار الفئوي، كما سبق وأن فعل النجيب في إعادة الاعتبار لسكان الحارة. ليس غريبا أن نجد الشخصيات الفاسدة والشريرة في رواية (نسف الأدمغة) قادمة أساسا من قلب المدينة. هنا التصور واضح في ذهن المؤلف؛ الشرور كلها تسكن في المدينة. وما تجده من انحرافات في الجبانات هو انعكاس لأصل موجود في المدينة وليس لشذوذ في القرافة نفسها.
جاء خيري شلبي وكشف بجلاء حجم الثراء والتنوع الجمالي غير المكتشف بين جنبات الجبانات. لذا لا غرابة أن نجده يصف أحد الأحواش بـ”القصر المنيف وبستانه الكبير”. إذ تطرق حديث الروائي المصري -الملقب بسفير المهمشين- عن الجبانات لجوانب لم يرصدها في زمنهأحد قبله. فتحدث بصراحة عن حجم اندهاشه من انتشار الأشجار في أحواش الجبانات بشكل لم يتصوره، وبصورة لا نجدها عادة في شوارع المدينة.
كعلي بابا عندما صرخ في مغارة الأربعين حرامي. نرى خيري شلبي يصرخ “حدائق غناء، بساتين، بساتين، بساتين، جنات تجري من تحتها نهر النيل”. فاستخدام مفردة البستان حاضرة في رواية (نسف الأدمغة) طوال الوقت، كأنها أحد الاكتشافات الكبرى التي خرج بها شلبي من تجربة “الانتجاع” في الجبانة.
**
إن ما يقدمه خيري شلبي، تجربة حية يمكن الاعتماد عليها في استخراج بواطن الجمال من الجبانات. فنحن أمام تجربة رجل عاش فترة في ترب المجاورين، ولمحت عيناه بواطن الجمال. فلماذا لا نعيد التجربة بشكل سياحي يحقق الدخل ويحفاظ على روح المكان؟ أن نحول الأماكن المعدة للسكنى في الأحواش إلى أماكن سياحية. يشير شلبي في (نسف الأدمغة) إلى عادة المصريين في زيارة المقابر يوم الخميس والجمعة وفي أيام الأعياد. عادة تصنع حالة من البهجة تنقل صخب الأعياد وترياق الحياة إلى الجبانات المعدة لمثل هذه الحركة الإنسانية النشطة. فلماذا لا نستغل كل هذا الصخب وكل هذه الإمكانات ونطورها سياحيا؟
يقدم صاحب (ثلاثية الأمالي) تجربة بديعة ومختلفة للباحثين عن المغامرات في شتى أنحاء العالم. أن تسكن بجوار الموتى، وتحيط بك جنات غناء، وأمامك تحف فنية بديعة التقاسيم. كل هذا تحت سماء القاهرة الساحرة، هذه تجربة تستحق أن تعاش. إذ يرغب الكثير في أن يعيش فلسفة مصرية خالصة تتمازج فيها تفاصيل الحياة مع الموت حتى تتشابك في سبيكة ذهبية تعبر عن حياة المصريين وخصوصيتهم الثقافية. وهي تجربة لن تجدها في مدن بلاستيكية تشتري الحداثة لكنها لا تمتلك عراقة مدن مصنوعة بمداد حياة ملايين البشر.
اقرأ أيضا
قبل الكارثة.. جرد أولى لـ مقابر القاهرة التراثية المهددة
«حوائط القرافة».. خبايا تاريخية تنتظر التنقيب
هشاشة القرافة.. لعنة التاريخ ورسائل الحكومة
أسفار الجبانة.. شهادات تاريخية تدين المحو الحكومي
الخطوط الذهبية.. روائع القرافة المنسية
الباب السحري.. القرافة مفتاح كتابة تاريخ مصر
جبانات القاهرة.. متحف مفتوح للعمارة المصرية