المربع والواو توأمان لأم هي الحكمة: محاولة لفض الاشتباك

كيف نفض الاشتباك بين فنين شعريين ملتحمين، يعلنان الإخوة، ويتشاركان فى الهيئة وينغلقان على حدود “المجتث” حتى أصبحا توأمان لبطن خصيبة هي فنون التربيع، إنهما المربع والواو؟

المربع والواو

هما فنان يزهوان بقيم الشفاهة. يدقان بالصوت على الأذن فتتحقق المتعة من الأداء والمؤدى، فتحدث نشوة الشاعر والمتلقي وهما يصيدان الدلالة. فالمربع فن شعري يعتمد في بنائه وأدائه على مجموعة من القيم الصوتية التي تعمق مع “القول”. وتتنوع تجلياته بين شعرائه الشعبيين ـ ممن امتلك الناس أشعارهم وحفظوها وآمنوا بما تقدمه من منظومة قيم متسقة مع مجمل عاداتهم وتقاليدهم ـ والشعراء الأفراد ـ هل ننسب فنهم للإبداع الشعبي ـ الذين لم يقدر لأسماء بعضهم الذيوع والانتشار. وقد ارتبط هذا الفن تاريخيا بشاعر مصري اسمه ابن عروس.

وقد اخًتلف حول وجوده ومصريته. وإن كانت معظم المراجع مع ما تواتر من نصوصه على المستويين الشفاهي والمدون ـ مربعاته تحفل بخصائص فنية تحيطها حمولتها الاجتماعية من قيم وعادات وتقاليد ومفردات شديدة المصرية ـ تؤكد مصريته، ولا تزال – حكمته ابنة لجماعته. حيث فرض عليه عصره أن يغمّض بعض قوافيه. بل وصل الغموض حتى طال تاريخه واسمه ومكان ميلاده. فضلا عن أن التاريخ الرسمي لم يسجل أسماء الشعراء الشعبيين في سجلاته، لكن تواتر المربعات تشير لوجوده بقوة، وتشير إلى زمنه. من هنا سنجد   مربعه قد ارتبط بالكلام عن الظلم والخضوع للظالم…إلخ.

ولابد من يوم معلوم
تترد فيه المظالم
أبيض على كل مظلوم
واسود على كل ظالم

فقد كان، حسبما دلتنا معظم الروايات، ابنا لظروف يحوطها القهر والبطش والغلظة في عصر المماليك. وفي عصور الفوضى تتكاثر الحكمة، وتينع فنون الناس، ويلاحق البعض القبض على القيم التي ستفنى فيحبسونها في موال أو يؤطرونها فى مربع، ومع تكاثر الفوضى تتكاثر الحكم وتتفرع الأشكال وتنشد الألسنة أوجاعها:

اللى يداديك داديـه

واجعل عيالك عبيده

واللى يعاديك عاديه

روحك مهياش بإيده

 

الصبـر لأبأس بالصبـر

لكـل مـن راح تواسى

قلِّب كفوفك على الجمر

حـتى تنـول الخـلاصى(1)

*************

وكما يطلق على هذا الفن اسم “المربع” نسبة إلى عدد أغصانه. يطلق عليه أيضا اصطلاح فن “الواو”. وإن كان الواو مختلفا عنه فيما يستخدمه من لعب بالصوت والحرف ليصل بالكلمات في نهايات المربع إلى التجنيس الكامل. سواء عبر كلمة واحدة أو عبر عدة كلمات يتم دمجها معا لتحدث الارتطام الصوتي في المربع:

جانى طبيبى ماسكسيف (2)
وقال قبض ولا ديانه(3)
من قال منكم ماسكسيف (4)
ما يعرفشى أمور الديانه (5)

قول مقفول

ورغم أن الواو يأخذ الشكل والميزان نفسيهما، إلا أنه يقوم على التجنيس الكثيف فى قوافيه. ويشترك مع بعض الأشعار الشعبية في خصيصة تغميض القوافى لدرجة أن بعض رواتـه يطلقون عليه مع هذه الفنون “قول مقفول”.

النفس تعبت وطمت (6)
وما كنا نِخْلِف معادى(7)
ادينا غرقنا فى بحر طمت(8)
ومنين تجينا المعادى (9)

*******

سوق البلا فيه مراحات (10)
وعيونى نزلت صبابه(11)
وصفولى علاجى مراحات(12)
تمت جميع الطبابا(13)

*******

سِهيت والليالى فاتتنى (14)
راجل سبع ساكن فى غابت(15)
قلت يعنى ارجع فاتتنى(16) 
قالوا لو الشمس فى الضهر غابت(17)

*******

زين المقادم كرمهم
والصدق ويَّا الأمانه
أما الاندال دولا كرمهم(18)
الكذب ويَّا الخيانه(19)

*******

دخل الطبيب ضحك لى(20)
من الزيت الطيب هاتوله
قالت أم العليل  ضحك لى(21)
وان طاب العليل هاتوله

*******

فارس رمح بترسان(22)
ونَفَسُه يضيق الخليقه(23)
دخل المدينه بترسان(24)
شهدت له كل الخليقه(25)

*******

خبير سَافر بفرسان(26)
ونَفَسُه يضيق الخليقه(27)
ومن العصر والنقر فيسان(28)
لمّا الشمس عليت خليقه(29)

*******

قاعود صغير ما انقطرش(30)
وحموله صفايح صفايح(31)
وصفوله دوا ما انقطرش(32)
قالوا وفين تبرى الجرايح(33)

*******

عيب الدهب الفص و نحاس
وعيب الفارس حصانـه
وعيب القبيله من الراس
وعيب الفتى من لسانه

*******

صبيه تنادم ولدها(34)
من فوق علالى سرايا(35)
لبن الخناصر ولدها(36)
وحسها يزين السرايا

 

والمتأمل للواو سيجد أن عماد تكونه في بنائه من أربع حركات. تأخذ كل حركة اسما اصطلاحيا هي: (1) الطرح  (2) العتب (3) الشد (4) الصيد. ويسير على النسق الرباعى التالى ( أ – ب – أ – ب). كما أنه ينتمى وزنا إلى بحر المجتث “مستفعلن – فاعلاتن – مستفعلن – فاعلاتن “. وهو يرتكز على لعبة التجنيس ليحدث المفارقة الصوتية/ الدلالية في “الصيد”. أي فيما يصطاده الشاعر من حكمة في نهاية مربعه.

لقد بتنا بحاجة ماسة لجمع ديوان الواو ليضم النصوص التراثية والمأثورة التي تحمل قدرا هائلا من اللعب اللغوي والحكمة. وليس عجيبا أن ترى اللغة وهي تتشكل في آتون حكمة الجماعة الشعبية خاصة في صعيد مصر. لكن المدهش حقا أن الميدان يثبت كل يوم أن هذا النوع من الشعر يجمع بين الاجتماعى والجمالي، بين التسلية والمهارة، بين إتقان المبدع الشعبي ومهارة أبناء الجماعة الشعبية وقدرتها على فك الشفرات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش والحواشى:
  • راجع، مسعود شومان، مربعات ابن عروس، دار سما للنشر والتوزيع، القاهرة، 2000.
  • ماسكسيف: مدمجة من مفردتين: ماسك، أي الممسك ـ سيف، مفرد سيوف.
  • ديانة من الدين، وتعنى هنا الاستدانة.
  • ماسكسيف الثانية فمدمجة أيضا وتعنى موسى كيوسف.
  • أي أن من يقول منكم موسى كيوسف فهو لا يعرف أمور الدين.
  • رواية عزت نصر الدين عبر مهاتفة تليفونية في 3 مايو 2013.
  • موعد، أي لا نخلف موعدا.
  • طامى، سيال بالطمى.
  • المعادى: جمع المعدية، وهي مركبة تعبر بالناس من شاطىء النيل للشاطىء الآخر، والمقصود هنا، من أين ستأتى هذه المركبات في وسط الفيضان الجارف/ الطامي.
  • مدمجة: ميه راحت، أي مئة من البشر قد راحوا، أي ماتوا.
  • أي أن الدمع ظل يصب/ الدمع صباب..
  • مدمجة: مرارة حوت.
  • وافقت عليه جميع الأطباء.
  • فاتتنى أي تركتنى، وهي إشارة لرواح الزمن.
**
  • غابة.
  • مدمجة: فتى تانى، أي هل يمكن أن أرجع فتى من جديد.
  • أفلت.
  • كرمهم من الكَرَم، أي أن الكرم زينة لهم وعلامة عليهم.
  • مدمجة: كار امهم، أي أن الكذب كارهم الذى ورثوه عن أمهم.
  • رواه الشاعر عبدالباسط نوح “والبخل ويَّا الخيانه” وحين فك لى الراوى عزت نصر الدين غموض المربع أكد أن ختام المربع هكذا “الكذب ويَّا الخيانه” ووجدنا أن الرواية الأخيرة أكثر اتساقا مع عتبة وطرح المربع.
  • مدمجة: دح كيله لى، أي اطحن كيلة من الحبوب لى ربما شفيت بها.
  • مدمجة: بتار سنه، أي يحمل ثأرا منذ عام.
  • خلقه.
  • مدمجة: بت راسين، أي قطع رأسين.
  • الخلق، أي الناس.
  • فرسان، جمع فارس
  • ضاق خلقه
  • مدمجة: يقرأ يس
  • الخلق: الناس
**
  • لم يقطروه بعد، أى لم لم يخرج للعمل لأنه لا يزال صغيرا.
  • يحملون عليه صفيحة صغيحة لأنه لا يحتمل لصغره، ونختلف مع تفسير الرواى، ونرى أن الطرح، أي السطر الثاني يشير إلى أنه رغم صغر القاعود فإن حموله “صفايح صفايح”، أي أنها ثقيله بما يشير إلى الثقل المادي والمعنوي، وهو ما يستتبع الصياغات التالية التي ساهمت في اتساق المربع.
  • منقار طريشه أي قورتها، منطقة قوتها، والطريشة نوع من الأفاعى الصحراوية التى يقتل سمها من تطاله.
  • قالوا وفين تبرى الجرايح، إشارة إلى الاستحالة، أي أن الجروح لن تشفى لاستحالة الاتيان بمقدمة جسم الطريشة.
  • ابنها، أي تنادى على ولدها.
  • السرايا، مكان لسكنى الأغنياء والحكام.
  • لابان الخنصر ولا يدها، أي لم يبن من جسمها خنصرها ولا يدها وظلت في سراياها.
اقرأ أيضا:

من صغر سني وحب البنات ميراثي: النميم وسواس همس الكلام الجنوبي

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر