القمص صرابامون الشايب: الشهيد ومحبة الحياة

لا يوجد من المتغيرات الثقافية التي حدثت للشخصية المصرية أسوأ من تقهقر قيمة التسامح، وهذه النظرة تقوم على معطيات واقعية، لكننا نبالغ في التشاؤم، لأن الواقع يقدم لنا أرضية صالحة للبناء طالما توفرت الرغبة والإرادة، ويقدم لنا نماذج تعد آيات في التسامح، ومنها نموذج القمص صرابامون الشايب، أمين دير القديسين بالطود، الرجل الذي يوحد في شخصيته الفريدة بين رجل الدين والمثقف، على نحو عملي مدهش.

لم يكتسب القمص صرابامون الشايب {1951ـ 2021} حضوره الطيب على مستوى الوعي المتميز، وتفكيره العقلاني المستنير فقط، بل على مستوى السلوك في المقام الأول، حيث كانت أفعاله تتناغم مع أفكاره، وهو في الحقيقة لم يقدم مواعظ أو أفكارا عن التسامح، والوعي النقدي، ودعم الحق أينما كان وغيرها، بقدر ما قدم سلوكا رائعا تجلت من خلاله تلك الأفكار.

صورة الشهيد

وُلد الأستاذ مراد فرح رزق الله في الأقصر يوم الثامن من مايو عام 1951. وحصل علي ليسانس الآداب، قسم الفلسفة من جامعة الإسكندرية، وتم تعيينه أمينا لمكتبة مدرسة الأقصر الثانوية الصناعية، وأثناء عمله حصل علي دبلومة في العلوم الفلسفية، ورشِّح لمنحة دراسية في الخارج، وبدلا من السفر إلى فرنسا، توجه إلى دير الأنبا باخوميوس الشايب، وسلك طريق الرهبنة.

ودَّع طالبُ الفلسفة اسمه بالميلاد، وحمل اسم واحد من رموز المسيحية وهو القديس صرابامون أسقف نقيوس، والذي تعرض للتعذيب الشديد على يد رجال الملك دقلديانوس في مصر، ثم أخذوه إلى نقيوس بلده، وهناك قطعوا رأسه ونال إكليل الشهادة.

القمص صرابامون الشايب
القمص صرابامون الشايب
القمص صرابامون الشايب مع الشاعر زين العابدين فؤاد
القمص صرابامون الشايب مع الشاعر زين العابدين فؤاد

صورة القديس الشهيد تنعكس في حياة القمص صرابامون، وتنفصل عنها بشكل مثير، تنعكس في روحه الثورية الشجاعة، وتنفصل عنها في دعوته إلى محبة الحياة، وهذا في تقديري انفصال واتصال العمْلة التي تحمل وجهين، الأول هو الاستعداد للتضحية في مقابل المبادئ أو القيم المقدسة، والآخر هو الحفاوة بالحياة، ولا تعارض لأن القيم المقدسة تكتسب أهميتها من مبدأ الحفاظ على الحياة، أي أن الشهادة صورة من صور الحفاظ على الحياة، وليست صورة من صور الموت. لقد ظهرت روحه الثورية الشجاعة في مواقف كثيرة جدا، وكشفت عن امتلاكه لشخصية مستقلة، تجلت في قدرته الكبيرة على التحدي والدفاع عن قناعته وما يراه متناغما مع ضميره.

محبة الحياة

أما محبة الحياة، فقد كانت من الشعارات التي رفعها الرجل ليتعرض بعدها لانتقادات شديدة، لأن الثقافة السائدة تكرس لتعارض محبة الحياة مع حياة الرهبنة التي يمثلها، وتلك النظرة خاطئة في تقديره لأن الحياة نعمة من الله وقد وهبها لنا كي نعيشها، وهكذا كان يدعو في أيامه الأخيرة إلى ضرورة المحافظة على أجسادنا لأنها هياكل الله وفق قوله، وهذا بالطبع لا يتعارض مع الرهبنة، لأن محبة الجسد لا تعنى محبة الخلاعة والمجون. بشكل شخصي كانت تعجبني علاقته بالثقافة والمثقفين، بخلاف معظم رجال الدين الذين يقيمون جدارا غريبا بينهم وبين عالم المثقفين، وأعتقد أن تلك العلاقة أضافت لشخصيته قدرا من الثراء والقوة، وأعتقد أن تلك العلاقة تمتد جذوها للمناخ الفكري لمصر في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، كما تستمد قوتها من دراسته للفلسفة وتفوقه فيها.

أكثر ما كان يبهرني في شخصية القمص صرابامون هو هويته الإنسانية كما تتجسد في سلوكه، لقد كان إنسانا قبل أن يكون أي شيء آخر، وهذا ما يظهر في شهادات عدد كبير من  المسلمين الذين تعاملوا معه، خاصة المقيمين في محيط دير القديسين بمدينة الطود بالأقصر، حيث كانت كلمة شعب الكنيسة لا تميز في خطابه بين المسلم والمسيحي.

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر