العصا من نبوت الفتوة إلى لعبة التحطيب
وقد استخدم العرب الرحل العصا في البادية لمعرفة الاتجاهات والوقت من خلال تثبيتها بشكل عمودي علي الأرض وقياس انحراف الظل لمعرفة الوقت والاتجاهات.
وفي وقت الحر يضع رداءه فوقها هي ليستظل بها، ويظل أشهر ذكر للعصا في الثقافة العربية ارتباطها بالتأديب، لتشتهر أمثال عربية مرتبطة بالعصا مثل “العصا لمن عصى” أو ارتباطها بالعبودية، فيقال للقوم إذا استذلوا ما هم إلا عبيد عصا أو يقال العبد يضرب بالعصاوالحر تكفيه الملامة.
ومن أشهر الأدبيات التي قيلت في العصا البيت الشهير الذي قاله المتنبي في هجاء كافور، حين قرن بين العصا والعبد فقال: لا تشترِ العبد إلا والعصا معه / إنّ العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ…
ونلاحظ ارتباط العصا في التراث العربي بمدلولها اللغوي، إذ يقال للعصا عصا، لأن الأصابع واليد تجتمع عليها، وهو مأخوذة من قول العرب عصوت القوم أعصوهم، إذا جمعتهم على خير أو شر.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا المدلول السلطوي للعصا مأخوذ من عصا الراعي، لذا شاع بين العرب قديمًا أن يصفوا الحاكم القوي يقولهم “صلب العصا”، بينما وصفوا الحاكم الضعيف بـ”ليّن العصا”.
في الموروث الديني والصوفي
ارتبطت العصا في الموروث الديني بعصا موسى وقدرتها الخارقة، التي استطاعت أن تقهر سحرة فرعون وتلتهم ما يأفكون، لتصبح عصا موسى رمزا من رموز قدرة الخالق في هزيمة أهل الضلال ويتخذها البعض كسلاح يكتسب قوته من حامله، سواء كان نبيا أو عبدا صالحا.
ففي قصة سيدنا موسى ما كانت عصاه إلا ليتوكأ عليها أو ليهش بها على غنمه، لكن بإرادة الله تحولت إلى ثعبان عظيم التهم ما صنعه سحرة فرعون، وبعد ذلك فلقت البحر إلى نصفين، وهي نفس العصا التي استسقى بها موسى لقومه، وجاء في الأمثال إذا جاء موسى وألقى العصا / فقد بطلَ السحرُ والساحرُ…
وعند الصوفية العصا هي سيف الرجل الصالح، تطيعه وتنفذ أوامره، وذهب البعض إلى الاعتقاد أن العصا في يد الرجل الصالح يمكن أن تتخذ أية صورة، بل يمكن أن يعالج بها من الأمراض.
أمثلة ذلك كثيرة، منها العصا ذات الشعبتين، التي تشبه عصا موسى، وقد حملها الشيخ أحمد أبو الحسن، وهو من قبيلة الجعافرة بأسوان وكان من تلاميذ الأمام العربي الإدريسي.
ويروي بعض تلامذة الشيخ بعض الكرامات التي استخدم فيها عصاه ذات الشكل الغريب، التي تسمى “شعبة”.
ومن الأمثلة الذائعة الصيت في محافظة قنا، وتحديدًا في مدينة دشنا عصا الشيخ كحول، الذي كان من أهل الجذب، وتوفي في التسعينيات وشاع عنه أنه كان يحب اقتناء العصي بأنواعها، خصوصا النبوت الذي كان لا يفارقه وروي عنه أنه كان إذا ضرب أحدًا بعصاه شفي من علته.
وفي دشنا أيضا كرامة تروى عن العارف بالله أحمد السنجق، الذي عاش في فترة الحكم العثماني بمصر، تقول القصة إن بعض عساكر السلطان أغاروا على البلدة في محاولة لجني المزيد من الضرائب وخطف الأطفال، فتصدي لهم السنجق مستخدما عصاه الخشبية، والتي تحولت في يده إلى بندقية، ما أثار الرعب في قلوب العساكر، فولوا هاربين، بعدها منحه السلطان العثماني لقب السنجق، وهي رتبة تركية تعني الحاكم وفي هذه الكرامة قال حفيده القاضي محمد العمراني:
يقوّم نار الحرب دون ذخيرة / من البندق الخربان في عسكر الجبر
ومن الشائع في أوساط معظم الصوفية أن العصا المصنوعة من فرع الرمان أو الزيتون، لها صفات روحية خاصة، وأصل هذا الاعتقاد يستند إلى ذكر الزيتون والرمان في القرآن والاعتقاد بأن أفرعهما مباركة.
ويحكي أحد تلاميذ الشيخ إبراهيم أبو خليل، شيخ الطريقة الخليلية، أن أحد تلاميذ الشيخ ألح في أخذ العصا من شيخه تبركا بها، ولكن الشيخ رفض قائلا له: لن تستطيع تحملها، ولما أصر أعطاها له، لكن العصا ضاعت منه وبحث عنها في كل مكان، وخشي أن يقابل الشيخ لأنه أضاع عصاه، إلى أن أرسل الشيخ في طلبه ولما حضر وجد الشيخ مستندا بيده وذقنه علي العصا ونظر إليه في عتاب قائلا: ألم أقل لك إنك لن تستطيع تحملها.
من هذه القصة نكتشف أن العصا عند الصوفية ليست مجرد قطعة من الخشب يحملها الرجل، بل هي رمز روحي يكتسب قوته من قوة إيمان صاحب العصا.
من نبوت الفتوة إلي لعبة التحطيب
وفي فترة حكم العثمانيين، وتحديدًا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهي الفترة التي اتسمت بتراخي الحكم العثماني وعودة المماليك للسيطرة على مقاليد الأمور بالبلاد وتكوينهم جماعات مسلحة تتقاتل فيما بينهم، لتعم الفوضى بالبلاد.
ليظهر ما يعرف بـ”الفتوة”، الذي اكتسب شرعية وجوده من الشعب أو الحرافيش، ليصد بنبوته أو عصاه أي عدوان يقع علي الحارة سواء كان من المماليك أو غيرهم.
الفتوات كان لهم دور كبير في صد العدوان الفرنسي في ثورة القاهرة الأولى والثانية حين تخاذل المماليك وفروا من أمام مدافع نابليون وقف الحرافيش بعصيهم أمام مدافع الفرنسيين في منطقة إمبابة يتقدمهم فتوات الحسينية لتحصدهم مدافع الفرنسيين حصدا، حتى ضاق بهم نابليون وسماهم “الحشاشين البطالين” وأصدر منشورًا ناشد فيه الأهالي عدم الانصياع لأوامرهم.
وكان للإبداع الروائي لنجيب محفوظ فضل كبير في تخليد ذكر الفتوات في سلسلة الروايات، التي كتبها وتحولت إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية، والتي تحكي عن عاشور الناجي وأبنائه، التي أبرزت دور الفتوات في حفظ النظام والانتصار للمظلوم في وقت غاب فيه دور الدولة المدنية.
ومن أشهر فتوات الحسينية عتريس وحكورة وعفيفي القرد فتوة حي بولاق أبوالعلا، ومن الغريب أن النبوت لم يقتصر استخدامه على الرجال فقط، بل سجل التاريخ ظهور بعض النساء الفتوات ومن أشهرهن المعلمة توحة فتوة حي المطرية وزكية المفترية فتوة سوق الخضار.
ومع بدايات العصر الحديث وظهور الدولة المدنية تراجعت سلطة النبوت أو العصا، وانتهى عصر الفتوات لتصبح الشرطة المدنية هي الفتوة الجديد، الذي يحفظ النظام وينظم العلاقة بين المواطنين.
وأصبحت قصص الفتوات مجرد سير شعبية تروى في المقاهي على أنغام الربابة، لتعود العصا إلى سيرتها الأولى كمتكئ لكبار السن أو رمزا للوقار والهيبة، لكن يظل الاستخدام الأكثر شهرة في مصر حاليًا، وهو استخدام العصا في لعبة التحطيب، الذي استمد فنونه وأساليبه من قتال الفتوات بالعصا لكن دون إيقاع الأذى بالخصم لتتشابه رياضة التحطيب مع الرياضات القتالية الاستعراضية.
وبالرغم من تراجع دور العصا كأداة قتال في العصر الحالي إلا أن لعبة التحطيب ما زالت من الألعاب المحببة إلى قلوب الرجال ويقبل الأهالي على مشاهدتها خصوصا في موالد الصالحين، التي تنتشر في صعيد مصر، فتنصب حلقة يتجمع فيها اللاعبين ويتبارون على أنغام المزمار البلدي، وتبدأ اللعبة بالسلام بالعصا بالتلويح بالعصا بشكل معين ثم يبدأ النزال ويكفي أن تلمس العصا جزءا من جسد اللاعب ليُعلن فوز الخصم.
المراجع
1- الرمز والاسطورة في مصر القديمة -تاليف رندل كلارك -ترجمة احمد صليحة
2- كتاب سير الان جاردنر “دروس في اللغة المصرية القديمة من الدرس الاول وحتي الدرس العاشر “
3-http://godofmuseums.blogspot.com.eg/ موقع المتحف المصري
4-بحث منشور في جريدة الحياة الدولية بعنوان “تراث العصا وواقع الحال” -الكاتب ك:الفت التنير -العدد رقم 12780-صفحة 21
5- د. سمية حسن ابراهيم , العادات المصرية القديمة في العصر الاسلامي , القاهرة :مكتبة غريب 1977, ص 63-64
6- عبد الرحمن زكي، موسوعة مدينة القاهرة في ألف عام، القاهرة: مكتب الأنجلو المصرية، 1987، ص57.
7- حمد الصباحي عوض الله خليل، المهارات والألعاب الشعبية: فرعونية ريفية مصرية، القاهرة: دار الكتاب العربي، ؟؟19، ص 9- 11.
3 تعليقات