التشكيلية «سحر درغام»: التناغم بين الكائنات هو جوهر الحياة

تدور معظم الأعمال الفنية للتشكيلية «سحر درغام» حول الكائنات، حيث تتميز باهتمامها العميق بكل أشكالها وأبعادها، مما ساهم في تكوين علاقة فنية فريدة بينها، كما تعكس لوحاتها «التناغم والانسجام» بين هذه الكائنات. تعمل «درغام» أستاذة بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية، وقد نظمت 10 معارض فردية، كان آخرها معرض «على الحافة»، كما شاركت في العديد من المعارض الجماعية، كما حصلت على العديد من الجوائز.. «باب مصر» أجرى معها الحوار التالي.
-
كيف ترين دور الفن التشكيلي في معالجة القضايا المجتمعية؟
أرى أن البحث عن دور الفنان في وجود شأن قومي أوضح من عدم وجود عنوان كبير واضح كما في عصرنا الحالي. بمعنى أننا في فترة الاستعمار في الماضي القريب كنا كشعب علي قلب رجل واحد، وكان أغلب الفنانين يشاركون بفنهم وأعمالهم للمقاومة.
وفي فترة ظهور زعيم قائد، كان الفنان مصدقا قلبا وقالبا لرومانتيكية الأحداث وطفولتها العذبة، وكانت طرق التعبير تعتمد على المباشرة بشكل كبير جدا، سواء بالانتماء إلى الواقعية أو الرمزية. أما الآن، ماذا لدينا في هذا العصر؟ في هذه الألفية، لدينا كشف وتعري لكل شيء، سواء أحداث أو سياسات أو وقائع. كذلك لدينا سجلات من التاريخ ووثائق مفتوحة ومتاحة للجميع.
في خضم كل ذلك، ما الذي نطالب الفنان به؟ نطالبه بالصدق مع ذاته الإنسانية والفنية. أن تكون أيديولوجياته من نفسه ولنفسه، أن يتابع جيدا عصره في مجتمعه وفي عالمه، أن يتسم بحسن المتابعة، وأن يستشعر الأشياء والأحداث، وينظر داخل شعوره ويحاول البحث بداخله عن معنى لكل ما حوله ومردوده بداخله ليتحقق في عمله الفني. إن دور الفنان الحقيقي أن يعيش بكل جوارحه، وتكون حياته هي مصدر الإلهام لأعماله الفنية. وطالما مارس الفنان صدقه في عمله، من المؤكد أنه سيؤثر في محيطه بلا نزاع، حتى وإن افتقد إلى المباشرة في أعماله الفنية.
-
ما رأيك في وضع الفن التشكيلي في مصر وما هي التحديات التي تواجه الفنانين التشكيليين؟
الشكل دائما متنوع ومتغير ومرتبط بحقب. في أوقات تكون سلطة الحقبة مرتبطة بالدولة، وأوقات أخرى مرتبطة بالأفراد أو التجمعات المستقلة. عصرنا يسيطر عليه حقبة التجمعات المستقلة، كما في سيطرة الجاليريهات الخاصة على المشهد الفني المصري. ونفوذ وقوة الجاليريهات الخاصة هو نفوذ استحقاق لا محالة، مرتبط بتحليل للمشهد الفني العالمي المعاصر.
ففي كل المحافل الفنية الهامة حاليا، لابد من وجود جاليري خاص يمثل الفنان ويتحدث بأعماله، ويدير خطواته ويسوق للفرص المتاحة له والإمكانيات المتوقعة من قراءة أي مشهد، خاص أو عام.
إذن من منطلق ذلك، نستنتج أن التحديات التي يقابلها الفنان المصري المعاصر شيئين هما: تمويل فنه والعمل علي إدارته، وإيجاد جاليري أو عدة جاليريهات تتحمس لفنه، ويبدأ في التحدث باسمه ويدير التحاق الفنان بأحداث قومية محلية وأحداث عالمية.
-
حدثينا عن تجربتك في بينالي فينيسيا الدولي وسراييفو وكيف أثرت تلك المشاركات على رحلتك الفنية؟
اعتبر بينالي فينيسيا الدولي أو كما أحب تسميته القديمة لغويا “بينالي البندقية الدولي” من الأحداث الفنية الكبرى وأهمها على الإطلاق. كانت مشاركتي فيه بدون توقع مني نهائيا، إنما هي هبة قدرية أو مثلما يشعر المؤمنون من حين لآخر أنه كان في الوقت المناسب في المكان المناسب، دون أن تعلم أو تتدبر، وأن شغلك الفني هو من تحدث عنك.
كنت مدرسا مساعدا أعد للدكتوراه، وجاءت لحظة المناقشة بالجامعة، واختار مشرفي لجنة المناقشة والحكم، وكان من ضمن الأساتذة الكبار الذين ناقشوني الأستاذ الكبير فرغلي عبد الحفيظ، والذي كُلف من وزارة الثقافة مؤخرا بالقيام بالقيام بمهمة قوميسير بينالي البندقية لهذا العام للجناح القومي المصري هناك.
كنت قبلها بعام قد حصلت على جائزة المورد الثقافي لتمويل مشاريع الفنانين الشباب، ونفذت تجهيزا للفراغ في حديقة معهد جوته بالدقي عام 2006 معتمدا على تشكيل التربة، وإعادة تجهيزها بشكل معاصر. كل ذلك كان مرفقا كصور في ملفي الفني. بعدها بفترة بسيطة تلقيت هاتفا بأنني من ضمن الفنانين الذين سيذهبون بفنهم إلى فينيسيا في ذلك العام، وكان ذلك في سنة 2007. كانت دهشة كبيرة لي، وتحديا عالي السقف، لم يكن لدي أي توقعات حول ما سنقدمه أو نواجهه. تم تكليف ستة من الفنانين المعاصرين: أربعة من القاهرة واثنان من الإسكندرية، وسافرنا نحن الستة.
كانت فرصة هائلة نواجهها بخبرات شخصية متواضعة مع مجريات المشهد الفني العالمي عن قرب، وليس عن طريق ثقافة المراجع والكتب والمجلات الفنية. ورغم أنه لم تتح لنا الفرصة للبقاء في فينيسيا فترة بعد الافتتاح لنشعر بالآراء والانطباعات عن مشاركتنا المصرية، إلا أنها كانت فرصة فنية نادرة، أشعر بها وفيها بالامتنان والتقدير لكل من رشحني وقدمني، ولكل زملائي الذين تساندنا معا لإخراج مشهد فني لجناحنا القومي.
-
تعاملتٍ مع العديد من الخامات والوسائط الفنية المختلفة، فأي خامة تفضلين الآن؟
كنت مهتمة سابقا بالتجريب في وسائط مختلفة عن أنواع الفن التشكيلي التقليدية مثل الرسم والتصوير، فالفيديو والإنستاليشن والأعمال المركبة والتقنيات المتعددة كانت تشغلني كثيرا. رغم إنتاجي الفني القليل وقتها، إلا أنني أقدمت على تجارب متقدمة. أما الآن، فالرسم والتصوير هما الأهم. التعبير عن طريق الخط واللون هو الأقرب إلى شعوري وانفعالي عن ذاتي.
في الأعمال المركبة والفيديو والإنستاليشن كنت أحاول أن أتحدث مع الآخر وأترجم شعوري لخامات تقترب كثيرا من البيئة، أما اليوم، أحاول حثيثا أن أتحدث إلى نفسي، أنصت إليها وأحاول أن أسبر أغوارها الدفينة. وعليه، أجد أن اللون هو الصديق الصدوق المعبر عن كل ذلك برقة شديدة وبرفق. اللون هو الشعور ذاته وفي أغلب الأحيان، أجد أن اللون والخط هما أنا.
-
كيف ترين العلاقة بين الفن والتأويل وهل تقصدين ترك مساحة للمشاهد لتفسير أعمالك برؤيته الخاصة؟
العلاقة بين الفنان والمتلقي هي علاقة مفتوحة. من حق المتلقي أن يشعر بالعمل كما يحب وأن يعبر عنه كما يتراءى له. ليس من المهم أن يشرح الفنان عمله أو يحكي عن تفاصيل وخطوات العمل، الأهم أن يترك الفنان للمتلقي فسحة لنظرة أولية، وبعدها يتلاقون ويتحدثون ويتناقشون عن شعورهم المشترك حول العمل الفني.
-
هل تفضلين مدارس فنية معينة؟ وهل أنتِ مع تصنيف الأعمال لمدارس فنية؟
لا يهم تصنيف العمل الذي يقدمه الفنان على أنه يتبع مدرسة فنية معينة أو اتجاه فني ما، الأهم أن يعبر الفنان عن شعوره بدقة. ربما يجلس الفنان ليتحدث عن بعض المدارس الفنية التي أحبها وتأثر بها في شبابه، وبالنسبة لي دائما الوحشية والتعبيرية. إلا أنه لا يتأثر بهما أو ينقل عنهما لسبب بسيط وهو أنه مع الاطلاع الواسع، لا يلتصق بك شيء بل تختبر مفهوم التقبل والمرونة.
-
كيف ترين تطور أدوات وأساليب الفن التشكيلي في ظل الثورة الرقمية؟ وهل تؤثر التكنولوجيا الحديثة على مستقبل الفن التشكيلي؟
بالنسبة للثورة الرقمية والتكنولوجيا، لابد أن نعامل هذا النوع من الفنون المتأثر بالتكنولوجيا والمبني عليها على أنه صنف آخر تولد في عصر حالي له مواصفاته من السرعة والمعلومات الغزيرة. وليس لهذا النوع من الفن أي علاقة بالفنون التقليدية الأصيلة كالرسم والتصوير والنحت والطباعة.
فبالرغم من اعتماد فنون الجرافيك الحديثة والبرامج الكمبيوترية التي تعطي تأثيرات يدوية، إلا أنه يبقى هذا النوع ملاصقا للكمبيوتر وبرامجه، وليس له علاقة بالفنون اليدوية التي يمارسها الفنان بيده وينفعل فيها بجسده.
وعليه، أنا لا أخاف على الرسم أو التصوير من الكمبيوتر، وذلك لأن الذي يبقى هو الفن الأصيل كونه المصدر الذي لا ينضب.
-
وكيف توازنين بين الحرية التي تمنحها التجريدية وبين الحاجة إلى إيصال فكرة أو رسالة محددة؟
عن مفهوم الحرية داخل أعمالي، فقد سمعت هذه الكلمة من عدة زوار للمعرض وشعرت بالاستغراب. حقيقة الأمر بالنسبة لي، ليس هذا من المفترض أن نتحدث عنه، بل ينبغي استبدال تلك الكلمة بكلمة “الصدق”. الصدق في التعبير بشحنة عاطفية متدفقة يشعر بها المتلقي فيسميها بالحرية، وأنا أسميها شجاعة.
-
لديك فكرة تعملين عليها ذكرتٍ أن بناؤها الأساسي يقوم على فكرة “التسامح والانسجام”. فما هي تلك الفكرة؟
تولدت الفكرة وتنامت من تقبل الحياة والطبيعة بكل كائناتها، والشعور بالتمهل والتخلي عن الانسحاق في السرعة المفرطة لزمننا. إذ أن الشعور بالتمهل يعزز التأمل والمراقبة وييسر زمن الوصول إلى الفطرة الطبيعية. يصبح سطح العمل مرادفا للبرية وللطبيعة بتحضيرات تجريبية للألوان، وإذا بتنوع من الرسوم للكائنات التي تتعايش وتتوائم علي السطح. كائنات متعايشة بين المرح واللعب، وظهر التلاحم بين الإنسان والحيوان.
-
وهل تلك الكائنات ترمز إلى شيء ما تريدين إيصاله؟
هذه الكائنات ليست رموزا لشيء ولا تقبل التأويل. هي كائنات خلقت ببساطة كأي مخلوقات أخرى على سطح كوكبنا الأرض. كائنات خلقت لتتعايش، لتعضد فكرة الحياة ذاتها. إن أبسط الأشياء هي أقوى الأشياء، وما أكثرنا احتياجا لها.
-
وما الهدف من وراء تلك الكائنات الخاصة بك والتي تظهر بأحجام كبيرة وأشكال قد تكون غريبة بعض الشيء؟
لقد فرغت من تكوين كائناتي المُخلقة عبر سنوات من التثقيف والتفكير والجثو قريبا من عمقٍ شخصي. هذه الكائنات موجودة بغرض المرح، كغرض وجود الكون والحياة. وفي جوهر الأمر، أن تزدهر الحياة وأن تزدهر حيوات كائناتها، معناها أننا نحقق الغرض الحقيقي من وجودنا. هكذا أصبحت كائناتي لا تحمل هما، أكثر من كونها متحققة لذاتها فقط، وهكذا الفنان مبدعها.
فعلي سطح العمل، يتراءى فيه مخلوقات ما بين الضخامة والضعف، والغرائبية، وبين أناس متنوعي الضخامة يستشعرون فراغ اللوحة ويتمركزون بها. محيطهم الذاتي شاسع، يكبر حجمهم ويصغر الفراغ ويتحداهم.
-
إذن أنت تلعبين على الأحجام في اللوحة؟
بالفعل أصبح مشروعي الآن هو اللعب بدون هوادة على الأحجام، وعلى حلول الفيجرز، على التناغم بين تلك الكائنات أو التنافر فيما بينها، على كسر القواعد لاختبار التجديد. إلي أي مدى سوف تعطيني مساحة لوحتي حلولا تدهشني وتجدد انجذابي إليها؟ إلى أي مدى أستطيع أن أجرب هذه المرة في هذه اللوحة حلولا جديدة لا لأصطنعها، إنما أتوصل إليها وأختبرها.
عادة، أريد التواصل مع اللوحة، وإذا فقدته، أتوقف عن العمل فترة، ثم أعاود النظر فيها، ربما يتجدد الحوار من جديد. ومن هذه النقطة أنطلق لإنهائها.
اقرأ أيضا:
حوار| «أحمد عطا الله»: التراث الغنائي المصري يحمي نفسه بنفسه