دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

الباحث حسام جاد: تفكيك السردية السائدة عن التاريخ الاجتماعي للقاهرة أصبح ضرورة

تتقاطع الطبقات الاجتماعية في القاهرة مع تحولات الزمن لتطرح أسئلة معاصرة حول تحولات المدينة، لا يراها حسام جاد، الباحث في التاريخ والأنثروبولوجيا التاريخية لدى جمعية الفكر العمراني «مجاورة»، من خلال السردية الرسمية، بل يتطرق إلى أدوات أخرى لفهم التاريخ، مثل الأرشفة والحكاية الشفهية والتحليل الأنثروبولوجي، إذ لا ينتمي إلى المدرسة التقليدية في قراءة الماضي، بل يعيد بناء التاريخ من موقع المهمشين، باحثا عن الصوت الحقيقي للمدينة.

ناقش جاد مؤخرا رسالته للماجستير في تاريخ النظم المالية والاقتصادية للجاليات الأوروبية في عصر المماليك. ويعمل اليوم على توثيق الذاكرة الشفوية لأحياء القاهرة التاريخية (الخليفة – قرافة الإمام الشافعي). ضمن مشروعه في جمعية «مجاورة». وهو حاصل على زمالة «الجيل الجديد» من المجلس العربي للعلوم الاجتماعية «بيروت».

وقد شارك في مجموعة متنوعة من الدورات التأسيسة في الكتابة التاريخية وأدوات التاريخ الشفوي. إضافة إلى عدد من ورش العمل حول نظريات العلوم الاجتماعية والدراسات الحضرية. والأسس المنهجية لقراءة وتحليل الوثائق التاريخية (المملوكية والعثمانية). كما قام بتيسير مجموعة من الورش حول تاريخ مدينة القاهرة وأشكال الحياة الاجتماعية فيها. بالإضافة إلى تدريبات أخرى حول أدوات التاريخ الشفوي.

وإلى جانب ذلك، نشرت له العديد من المقالات عن تاريخ المدينة وتأثير كل من الصراع السياسي والتغير المناخي في طبيعة الحراك الاجتماعي التاريخي. فضلا عن دراسة بحثية ضمن كتاب (سلام ترام: “أرشفة المسارات المفقودة لترام القاهرة”). تناولت تاريخ وطبيعة التطور العمراني لمنطقة الأزبكية ودور النخب السياسية في إدارة المدينة.

ويتحدث جاد عن منهجيته في قراءة التاريخ في حوار خاص مع «باب مصر». وعلاقته بالناس والمدينة، وكيف يمكن لمهنة مندثرة أن تكتب تاريخا جديدا. مشددا على ضرورة العمل على تفكيك السردية السائدة للتاريخ.

  • بدايةً، ما الذي دفعك لاختيار الدراسة الجامعية في التاريخ والحضارات الأوروبية القديمة؟

بعد انتهائي من مرحلة الثانوية العامة، كنت شغوفا بدراسة ما يشبه ميولي واهتماماتي. وكان التاريخ ضمن نطاق قراءاتي، فاخترت الالتحاق بكلية الآداب كتخصص جامعي. وكان قسم الحضارة الأوروبية القديمة جديدا في كلية الآداب بجامعة المنصورة، وجذبني بشدة، خاصة بعد اطلاعي على مقرراته التي تضمنت الأدب اليوناني واللغات القديمة. صحيح أن اختياري لم يكن تقليديًا، وكان أقرب إلى “المجازفة” أو “الطيش” بحسب وصف البعض. لكنني تمسكت برأيي، وأكملت دراستي حتى تخرّجي عام 2011. وهو العام الذي شهد أحداثا سياسية واجتماعية كبيرة في مصر.

التحقت بعد التخرج بالخدمة العسكرية، وخلال هذه الفترة راودتني أسئلة أعمق حول التاريخ والمجتمع والسياسة. وفي عام 2012، ازدادت تلك الأسئلة عمقا. فدَفعتني إلى القراءة المكثفة في التاريخ الوسيط، والتاريخ المصري الحديث والمعاصر، والتاريخ العربي الإسلامي.

  • وكيف انتقلت بعدها للاهتمام بالتاريخ الاجتماعي المصري والعصر المملوكي؟

قررت الانتقال إلى القاهرة للالتحاق بجامعة القاهرة واستكمال دراساتي العليا، لأنني شعرت أن القراءة وحدها لم تعد تكفي. وعلمت بوجود برنامج الدبلوم العام في التاريخ، الذي يمتد لسنتين في كلية الآداب، فالتحقت به ودرست تاريخا عاما شمل فترات مثل العصر المملوكي. وتاريخ مصر بعد الفتح العربي، والفترات البيزنطية والعثمانية. وتتلمذت خلال هذه المرحلة على يد مجموعة من كبار أساتذة التاريخ.

وتعرفت إلى الدكتور عماد أبو غازي، أستاذ الوثائق والمكتبات بكلية الآداب جامعة القاهرة. وكان لهذا اللقاء أثر بالغ في نفسي، إذ انفتحت أمامي آفاق جديدة. كما درست في المعهد الفرنسي للآثار الشرقية (IFAO). وتعمقت في دراسة الوثائق المملوكية، ومناهج الكتابة البحث التاريخي. وبدأ شغفي الحقيقي بهذا العصر. وقد منحتني خلفيتي في دراسة الحضارة الأوروبية القديمة – أو الكلاسيكيات – منظورا مختلفا في فهم التاريخ الإسلامي، وخاصة تاريخ مصر في العصر المملوكي.

وتبلور هذا الإدراك مع مرور الوقت، ومع تفاعلي مع الدكتور عماد، رأيت كيفية إثراء فهمنا للعصور الإسلامية من خلال دراسة الكلاسيكيات. وهي رؤية تبناها الدكتور طه حسين، الذي أشار إلى أن فهم الدولة العربية الأولى، بنظمها الإدارية والاقتصادية، لا ينفصل عن الامتداد التاريخي للحضارة الرومانية. وما ورثته من مؤسسات ونظم كانت مطبقة في ذلك الزمن.

  • كيف ساهمت دراستك في المعهد الفرنسي في اختيار موضوع رسالتك عن النظم الإدارية للجاليات الأوروبية في عصر المماليك؟

بدأت دراسة التاريخ في المعهد الفرنسي على مدار عدة سنوات، تحت إشراف عدد من الأساتذة المميزين مثل د. عماد أبو غازي، ود. نيللي حنا، ود. مجدي جرجس، ونيكولا ميشيل. وجميعهم ينتمون إلى المدرسة التاريخية المعروفة بـ”الحوليات”. التي تركز على قراءة التاريخ من زوايا متعددة. وتُعنى بتحليل البُنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على المدى الطويل، بدلاً من التركيز فقط على الحدث السياسي اللحظي.

من خلال هذه المدرسة تبنيت نظرة أكثر انفتاحا للتاريخ، تقوم على تعدد وجهات النظر، والربط بين الأحداث المحلية والسياقات الإقليمية والدولية. فعلى سبيل المثال، يمكن قراءة تاريخ مصر ضمن سياق أوسع يشمل منطقة البحر المتوسط. ويرتبط بأنظمة الحكم والإدارة السائدة في شرق المتوسط، أو بصراعات كبرى مثل التنافس بين إسطنبول والقاهرة.

وقد أثر هذا التوجه الفكري بشكل مباشر في اختياري لموضوع رسالتي، التي تناولت النُظم والمالية الاقتصادية للجاليات الأوروبية في عصر سلاطين المماليك. ولا شك فقد ساهم أستاذي د. حامد زيان غانم في بلورة محاور هذا البحث.

مناقشة الماجستير لحسام جاد الباحث في التاريخ والأنثروبولوجيا التاريخية
مناقشة الماجستير لحسام جاد الباحث في التاريخ والأنثروبولوجيا التاريخية
  • شاركت في زمالة «الجيل الجديد».. هل ساهمت في تطوير أدواتك البحثية أو رؤيتك للتاريخ من زاوية أنثروبولوجية واجتماعية؟

في عام 2020، انضممت إلى “زمالة الجيل الجديد للعلوم الاجتماعية”، وهي مبادرة يشرف عليها “المجلس العربي للعلوم الاجتماعية” ومقره بيروت، تحت إدارة أستاذة الأنثروبولوجيا حنان السبع. شكلت هذه الزمالة نقطة تحول مهمة في مسيرتي الأكاديمية. وأدركت أن منهج البحث التاريخي وحده لم يعد كافيا لفهم تعقيدات الواقع.

بدأت التعمق في دراسة الأنثروبولوجيا والتاريخ الشفهي. وتعلمت أدوات البحث الميداني، والإثنوغرافيا، وكيفية جمع المعرفة من الواقع الحي، وليس فقط من الوثائق والمصادر المكتوبة. وساعد هذا التداخل في بناء فهم أكثر شمولاً للتاريخ، وأصبح وسيلة لفهم الحاضر أيضا.

  • في رأيك، ما أهمية إدماج أدوات الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية في دراسة التاريخ المصري؟ وهل ترى أن هذا الاتجاه يجد مساحة كافية في الأكاديمية المصرية؟

في الوقت الذي تتجه فيه الأكاديمية المصرية نحو مزيد من الفصل بين الحقول المعرفية، تتجه الأكاديمية الغربية في المقابل نحو تكريس الدراسات البينية التي تفتح مساحات للتكامل بين التخصصات المختلفة. ورغم هذا التباين، يبدو أن عجلة الزمن ستدور في النهاية لصالح إعادة التفكير في هذا الفصل، وعودة الزخم للدراسات التي تجمع بين أكثر من مجال معرفي.

هذا هو التوجه السائد حاليا في عدد من المؤسسات الأكاديمية الغربية، وتبرز أهمية الدمج بين تخصصات مثل التاريخ والأنثروبولوجيا. إذ تُمكِن الأنثروبولوجيا التاريخية الباحث من تتبع الأصول الاجتماعية والثقافية للأفكار والممارسات المعاصرة.

وهو ما نفذته في مشروعي البحثي بعنوان “الوباء والغلاء وتحجيب النساء”، الذي قام على تتبع الجذور التاريخية لفكرة ربط الغلاء بالحجاب. في هذا البحث استخدمت أدوات الأنثروبولوجيا التاريخية لفهم نشأة بعض الخطابات والمقولات الشعبية الراهنة. وربطها بسياقات تاريخية تعود إلى القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين.

  • عن التاريخ المملوكي والبحث الأكاديمي.. حاليًا تعمل على رسالة ماجستير حول دولة المماليك. ما الزاوية التي تركز عليها في هذا البحث؟

تناول بحث الماجستير الذي أعددته تاريخ النظم الاقتصادية والمالية للجاليات الأوروبية في مصر خلال عصر سلاطين المماليك. واخترت هذا الموضوع بعدما جاء في سياق سؤال أكبر كنت أبحث عن إجابته: ما طبيعة العلاقة بين المصريين والحضارة الغربية؟ وهل كان هذا الاحتكاك الثقافي والمعرفي وليد الحملة الفرنسية فقط، كما هو شائع؟

ما توصلت إليه أن هذا التفاعل مع “الآخر الأوروبي” أقدم بكثير، ومر بمراحل وأشكال متعددة سبقت الحملة الفرنسية بعدة قرون. فالأوروبيون، بتنوع خلفياتهم، كانت لهم علاقات ممتدة مع مصر. سواء من خلال التجارة أو غيرها، وترك هذا التفاعل أثره في البنية الاقتصادية والاجتماعية للدولة المملوكية. وحاولت أن أُبرز نتيجة هذا التفاعل وكيف أدى إلى نشوء أدوات محلية ونُظم جديدة.

  • ما هي الأدوات التي استعنت بها لرصد تحولات التاريخ الاجتماعي المصري؟ وهل واجهت فجوات توثيقية أثناء العمل على أبحاثك؟

عند البحث في تحولات الحياة الاجتماعية خلال العصر المملوكي، كان من الطبيعي أن أواجه واحدة من أكبر التحديات التي تعاني منها الدراسات التاريخية في مصر. وهي ندرة إتاحة الوثائق وصعوبة الوصول إلى الأرشيفات. فالوصول إلى دار الوثائق أو المحفوظات العامة. سواء من حيث الإجراءات أو من حيث إتاحة المواد نفسها، يمثل عائقا أمام الباحثين.

لكن هذا التحدي فتح أمامي سؤالا أعمق: هل يمكن كتابة تاريخ دون الاعتماد على الوثيقة التقليدية؟ والحقيقة أن الإجابة بالنسبة لي هي نعم. هناك ربط شائع ـ وأحيانا خاطئ ـ بين الحقيقة التاريخية والوثيقة. كأنها المصدر الوحيد الموثوق لكتابة التاريخ. لكن الواقع مختلف. لأن الوثيقة نفسها ليست محايدة؛ فهي منتج اجتماعي وسياسي، صادرة عن مؤسسة معينة وفي سياق معين، وغالبا ما كانت تكتب لهدف يتعلق بالسلطة.

واستعنت بأدوات ومصادر بديلة: مثل الأدب، والسرديات الشفهية، والمواد الأنثروبولوجية، التي يمكن من خلالها استنباط دلالات اجتماعية وثقافية مهمة. كما أن هناك اتجاها بين الباحثين اليوم نحو “التأريخ من خارج الوثيقة”، بالاعتماد على أشكال متعددة من النصوص.

  • هل ترى أن الدولة المملوكية ما تزال بحاجة إلى إعادة قراءة من منظور اجتماعي؟

هناك رأي شائع مفاده أن الدراسات حول العصر المملوكي لم تعد تقدم جديدا، لكنني لا أوافق على هذا الطرح. أرى أن هناك إمكانيات كبيرة لإعادة قراءة تاريخ الدولة المملوكية من زوايا جديدة. مع توظيف مناهج معاصرة أكثر مرونة، قادرة على تفكيك الروايات التقليدية وتقديم رؤى متعددة للحدث التاريخي الواحد.

وهناك اتجاهات بحثية حديثة، مثل مدرسة نقد الاستشراق، وما بعد الحداثة، ومناهج العلوم الاجتماعية، تساعد في تجاوز التصنيفات الإيديولوجية والأخلاقية التي طالما صبغت قراءاتنا للتاريخ. مما يمكننا من الابتعاد عن الأحكام المطلقة مثل “عصر عظيم” أو “فترة انحطاط”. والتوقف عن تكرار الأسئلة الثنائية المغلقة من نوع: هل كان ذلك غزوا أم فتحا؟ احتلالا أم تحريرا

ويفتح التحرر من هذه الأطر الضيقة المجال أمام طرح أسئلة أعمق: ما هي الأسباب الحقيقية التي جعلت الدولة المملوكية قوية في لحظة ما. أو ضعيفة في لحظة أخرى؟ لماذا فشلت في مواجهة تحديات خارجية بعينها؟ وكيف أثرت الظروف البيئية والاقتصادية والاجتماعية على مسارها؟

مناقشة الماجستير لحسام جاد الباحث في التاريخ والأنثروبولوجيا التاريخية
مناقشة الماجستير لحسام جاد الباحث في التاريخ والأنثروبولوجيا التاريخية
  • كيف طبقت هذا المنهج في أبحاثك؟

في أحد أبحاثي، على سبيل المثال، حاولت أن أطبق هذه الرؤية من خلال دراسة العلاقة بين التغير المناخي وانهيار الدولة المملوكية. بحثت في أدلة علمية تشير إلى أن مطلع القرن الخامس عشر شهد موجة من التغير المناخي تعرف بـ”العصر الجليدي الصغير”.

وأوضحت كيف يمكن أن يكون لهذا الحدث تأثير مباشر على الاقتصاد، والزراعة، والاستقرار السياسي في مصر. هنا، يصبح البحث التاريخي متكاملا، لتتلاقى أدوات المؤرخ مع معطيات علمية من الجيولوجيا والمناخ، لتقديم تفسير مختلف ومنطقي لسقوط الدولة.

  • كيف ساهمت مؤلفات مثل «بدائع الزهور» لابن إياس و «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي في رسم صورة ذهنية للأزمات البيئية كبلاء إلهي لا كظاهرة يمكن فهمها علميا؟

لفهم ذلك، علينا أولا أن ندرك الذهنية السائدة في تلك الحقبة. في العصر المملوكي. كان الإطار الفكري العام متأثرا بالفلسفة الطبيعية، التي ترى أن العالم مكّون من أربعة عناصر أساسية: الماء، الهواء، التراب أو الطين، والنار. وأي خلل في توازن هذه العناصر كان يعد سببا مباشرا لحدوث الأوبئة مثل الطاعون.

وانتشر هذا التصور بين العلماء والمثقفين حينها. رغم وجود بعض الأصوات التي حاولت تقديم تفسيرات أكثر واقعية وعملية، مثل ابن حجر العسقلاني في كتابه “بذل الماعون في فضل الطاعون”. حيث تحدث عن طرق للوقاية والتعامل العملي مع المرض.

لكن من جهة أخرى، تبنت السلطة سردية معينة عن الوباء، تميل إلى تفسيره كعقوبة إلهية، وهو ما انسجم مع الخطاب الديني الذي تبناه بعض الفقهاء المقربين من دوائر الحكم. وبالتالي، فإن الروايات التي وصلتنا اليوم، كما تظهر في مؤلفات مثل “بدائع الزهور” و”عقد الجمان”. تعكس هذا التفكير السلطوي الذي يعتمد على آراء الفقهاء في إنتاج خطاب يربط الوباء بالغضب الإلهي والتوبة الجماعية.

  • في رأيك، لماذا تظل دولة المماليك غامضة رغم غناها السياسي والاجتماعي؟ وهل ترى أن المناهج التقليدية أسهمت في ذلك؟

الغموض أو الصورة النمطية التي تحيط بدولة المماليك في الوعي العام ترجع، في جزء كبير منها، إلى الطريقة التي قرأنا بها هذا التاريخ. خاصة خلال النصف الأول من القرن العشرين. فعندما بدأت مصر في بناء هويتها كدولة مستقلة عن الدولة العثمانية، ظهرت حاجة سياسية لإعادة صياغة التاريخ. بما يخدم المشروع القومي الحديث.

وتأثر هذا التوجه بالإيديولوجيا الليبرالية في تلك الفترة، وتمت قراءة التاريخ المملوكي من منظور قومي ضيق، باعتباره فترة الامتداد التاريخي للدولة المصرية الحديثة. وبالتالي، جرى تهميش الكثير من التفاصيل المتعلقة بالحياة اليومية والبُنى الاجتماعية والاقتصادية التي شكلت هذا العصر.

***

كما أن المدرسة التاريخية التقليدية، التي تأسست في بدايات القرن العشرين واستمرت في التأثير حتى منتصفه. تعاملت مع الدولة العثمانية باعتبارها مجرد “مرحلة من الانحطاط”. دون محاولة لفهم السياقات التاريخية التي أدت إلى دخول العثمانيين، أو كيف استمرت نظم المماليك داخل إطار الحكم العثماني.

ما نحتاجه اليوم هو إعادة نظر تتجاوز ثنائية “العظمة والانحطاط” أو “الخير والشر”، التي رسختها قراءات القرن العشرين. فالتاريخ ليس أبيض وأسود، ويجب أن نفهمه في سياقاته المتعددة. وبعيدًا عن إصدار الأحكام على المدرسة التقليدية، من المهم أن نتساءل: كيف تكونت السرديات السائدة عن الفترة الممتدة لأكثر من 500 عام. سواء في عصر المماليك المستقل أو في ظل الحكم العثماني؟

  • في دراستك المنشورة ضمن كتاب «سلام ترام» تناولت تاريخ الأزبكية. كيف أثرت سياسات النخبة على التطور العمراني للقاهرة؟

أنا من المؤمنين بأهمية الدراسات البينية، التي تدمج بين أكثر من تخصص لفهم الظواهر التاريخية والاجتماعية بشكل أعمق. ورغم أن هذا التوجه لا يزال غير شائع بالقدر الكافي في مصر. إلا أن تجربتي في “زمالة الجيل الجديد للعلوم الاجتماعية” وتعرضي للدراسات الحضرية ساعدا في تشكيل وعي جديد لدي حول أدوات البحث في المدينة وتاريخها.

وشكل انضمامي إلى برنامج “سرد” لأرشيف شبرا، وهو برنامج تعليمي يهتم بالتاريخ الشفهي، جزءا مهما من تكويني البحثي. إذ أتاح لي فرصة تطبيق مناهج متعددة، والربط بين التاريخ الاجتماعي والمجال العمراني.

من هنا، بدأت أطرح سؤالا مفتوحا أثناء العمل على أرشفة مسارات الترام المفقودة في القاهرة: هل يمكن أن تخبرنا التغيرات العمرانية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر بشيء عن شكل المدينة اليوم؟ كان السؤال في البداية غير واضح المعالم. لكن أثناء العمل البحثي بدأت تظهر ملامح الإجابة، التي تناولتها في ضمن كتاب “سلام ترام”.

***

تتبعت في هذه الدراسة التحولات العمرانية التي شهدتها القاهرة. وركزت على مساهمة سياسات النخبة الحاكمة في دفع المدينة نحو التمدد غربا باتجاه النيل. ومع الزمن، أدت هذه الديناميكية إلى تمركز النخب السياسية والثقافية في منطقة الأزبكية. ثم انتقالهم لاحقا إلى القاهرة الخديوية، وبهذا أصبحت الأزبكية بداية انطلاق لخطوط الترام الأولى في مصر في أواخر القرن التاسع عشر.

جاء هذا الامتداد العمراني نتيجة قرارات مدروسة للنخب الحاكمة، التي أعادت تشكيل المدينة بما يخدم مصالحها. وحين ننظر إلى التحولات الجارية في القاهرة اليوم. نكتشف أن هذه الديناميكيات تتكرر، وربما بأشكال جديدة، وبهذا تتأثر المدينة دوما بالسلطة.

  • ما أبرز الفروقات التي لاحظتها في تنظيم المدينة، خاصة فيما يتعلق بالبنية التحتية والتنقل داخل القاهرة؟

في دراستي لاحظت وجود انفصال واضح بين النخبة وعوام الناس، وهو أمر تكرر مرارا. وكان هذا الانفصال اجتماعيا وعمرانيا. بسبب سعي النخب السياسية باستمرار للحفاظ على مسافة بينها وبين عموم الشعب، محققة نوعا من العزلة في مناطق مثل الأزبكية. التي كانت بمثابة حي نخبوي بامتياز، ثم لاحقا في القاهرة الخديوية.

ولعب الترام دورا فريدا في ظل هذا الانفصال، من خلال الربط بين عالمين مختلفين داخل المدينة: من جهة، القاهرة الخديوية الحديثة التي نظمت على الطراز الأوروبي. ومن جهة أخرى، القاهرة الإسلامية التقليدية القديمة، بكل اختلافاتها الاقتصادية والاجتماعية.

وأصبح الترام وسيلة تنقل جديدة، مختلفة عن الوسائل التقليدية مثل السيارات وعربات الكارو والحمير، وجمع بين العالمين المتمايزين. ونتج عن هذا الاختلاط وعي عمراني وطبقي جديد، إذ أصبح الترام منصة لاحتدام سياسي واجتماعي بين الفئات المختلفة. واختتم هذا الاحتدام بلحظة احتراق الترام عام 1919، باعتبارها نقطة محورية تؤكد دوره كأداة للوعي السياسي والطبقي.

  • هل تعتقد أن المدن المصرية فقدت «ذاكرتها الاجتماعيةبفعل التطورات العمرانية الحديثة؟

تحمل القاهرة تاريخا طويلا ومعقدا من الهدم وإعادة البناء، مثل الكثير من المدن التاريخية. وفي أبحاثي أتحدث عن مفهوم “القاهرتين” الذي استعرته من المستشرق ستانلي لين بول. وأرى أن القاهرة ليست مدينة واحدة متجانسة، بل هي قاهرة متعددة، مركبة من طبقات متراكمة من تغييرات عمرانية عبر الزمن.

وتؤثر هذه التحولات العمرانية بشكل كبير على الذاكرة الاجتماعية للمدينة. لأن ليس كل ما حدث في الماضي يترك أثرا في الذاكرة الجماعية. لكن هناك أحداث معينة تستمر في البقاء وتعيد تشكيل تصور الناس للماضي بشكل انتقائي.

ويترك التغير العمراني بصماته في الذاكرة، لكن الأمر يعتمد على كيفية النظر إليه: أهو خطوة نحو التطوير والتحديث. أم هدم يقضي على حياة اجتماعية قائمة؟

  • وكيف يمكن للمؤرخ أن يستعيد هذه الذاكرة؟

الذاكرة الاجتماعية ليست ثابتة، فهي مجال مستمر للصراع بين قوى متعددة تتنافس على تفسير ما هو إيجابي أو سلبي. ورسم السردية العامة للمدينة وتاريخها. وهنا تتضح أهمية خلق سرديات تعكس أصوات أهل المناطق التي تشهد تغييرات عمرانية. بما يبرز أهمية التاريخ الشفهي وتوثيق القصص والسرديات المهمشة، التي غالبا ما تكون غير موجودة في السرد الرسمي.

وأرى أن المدينة تحولت إلى سلعة تخضع لصراعات بين قوى اجتماعية مختلفة. والمؤرخ لا يمكنه أن يكون محايدا، بل يجب الإعلان عن تحيزاته بشكل واضح، لأن الذاكرة الجماعية تؤثر على الهوية الاجتماعية.

  • تعمل حاليا مع جمعية «الفكر العمراني – مجاورة» على توثيق سرديات التاريخ الشفهي في أحياء القاهرة التاريخية. ما أبرز الروايات غير المتوقعة التي صادفتها؟

جمعية “مجاورة” كانت الساحة الأوسع التي مكنتني من تطبيق كل المناهج التي تعلمتها. مثل الأنثروبولوجيا التاريخية، والتاريخ الشفهي، والإثنوغرافيا. ونعمل مع “مجاورة” على بناء سردية تاريخية موازية للسرديات الرسمية. وخلق معرفة حقيقية وعميقة عن حياة الناس اليومية في مناطق مثل القاهرة التاريخية، لمساعدة المختصين في صياغة تدخلات عمرانية واجتماعية.

وقد قابلت مفاجآت غير متوقعة، فعلى سبيل المثال، خلال العمل على تحسين أحد الأسواق الصغيرة بحي الخليفة. تعرفت على عم علي النجار، الذي كان من أعمدة عالم الكاسيت في القاهرة، وأحد أقارب المطرب الشعبي أحمد حفني.

هذا اللقاء فتح أبوابا لعالم غير متوقع، لأنه يحمل ذاكرة حية ونشطة عن حياة أهل الكاسيت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وهو نفسه يعتبر وثيقة تاريخية شفهية تمثل ذلك العصر. لأنه مُحمل بذكريات وثقافات كثيرة حول عالم اختفى. ورغم اختفاء الكاسيت كأداة، فإن الدراسات الحديثة بدأت تهتم بتأثيره على الحياة الاجتماعية والاقتصادية في مصر.

  • تهتم أيضا بتاريخ النضال العمالي، في بحثك عن عمال الترام، وتيسيرك لورشة عن «فرقة العمال المصرية» ودورهم التاريخي. ما الذي يمكن أن نتعلمه عن أشكال التضامن العمالي غير الرسمي في القاهرة التاريخية؟

شهدت مصر في مطلع القرن العشرين، حركة وطنية تميزت بتشكيل مصالح مشتركة جمعت بين الأفندية والعمال. سواء العاملين في شركة الترام أو غيرها من القطاعات. وكانت المحرك الأساسي وراء مطالب التغيير، سواء من خلال تحسين ظروف العمال اليومية أو المشاركة في التغييرات الكبرى التي تجسدت في ثورة 1919. ويتضح من هذا المثال أن العمل الجماعي و الطريق الأمثل لتحقيق التغيير.

  • هل تغير شكل الحراك العمالي الآن؟ وما السبب؟

بلا شك، فالتحولات العمرانية التي شهدتها القاهرة أثرت بشكل كبير على النشاط العمالي. فاليوم، مع وجود المدن الصناعية التي تنفصل عن المناطق السكنية. تغيرت طبيعة التواصل الاجتماعي بين العمال. ففي الماضي، كان العامل بعد انتهاء دوامه يتجه إلى المقاهي ويجلس مع زملائه ليناقشوا قضاياهم. أما الآن، فالعزلة العمرانية تواكبها عزلة اجتماعية حقيقية.

وخروج العمال إلى أطراف المدينة جعل من الصعب استمرار هذا الحراك مقارنة ببداية القرن العشرين. ومع هذا التغير، تتحول المدينة تدريجيا إلى مساحة مفرغة من مضمونها الاجتماعي. رغم استمرار وجود بعض المهن التقليدية في أحياء القاهرة التاريخية.

  • في ورقتك المرتقبة «حمير القاهرة».. هل يمكن اعتبار المهن الشعبية مثل الحمالين أو المكارية أدوات لفهم المدينة؟

كان موضوع الحمار جزءا من بحثنا عن تاريخ وسائل التنقل قبل ظهور الترام. وذكرته كمدخل عن التنقل في القاهرة قبل الترام في بودكاست. خاصة لأن الحمار كان وسيلة تنقل أساسية.

وناقشت ذلك في ورقة عن “حمير القاهرة”، التي تتناول الدلالات الاجتماعية المرتبطة بهذه المهنة، مثل جذور الخزي الاجتماعي المرتبط ببعض الكلمات مثل “لامؤاخذة”، أو استخدام “حمار” كلفظ للإساءة. ومن المتوقع صدور هذه الدراسة قريبًا مع مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية (CEDEJ).

***

كمؤرخ، لا يهمني دقة الأرقام التي ذكرها الرحالة ابن بطوطة عن أعداد الحمير – وقدرت بـ30 ألف حمار في القاهرة -. بقدر ما يهمني رصد حركة حمير القاهرة النشطة والقوية لأول مرة. وهو منظور جاء من شخص قادم من المغرب العربي وشمال إفريقيا. وذكر الجبرتي استخدام الفرنسيين للحمار كوسيلة للترفيه. وتأثير فترة الاحتلال الفرنسي على هذه المهنة. حيث ترك كثير من الناس أعمالهم واتجهوا إلى مهنة “المكارية” لأنها كانت ذات أجر أعلى حينها.

ومن خلال دراسة الحمار ومهنته، يمكن للباحثين تجاوز التقسيمات التقليدية للتاريخ، والتطرق لما أسميته “زمن الحمار”، لفهم تاريخ الحياة اليومية والتحولات في المدينة، والإجابة عن أسئلة كاشفة حول تاريخ القاهرة الحضري والاجتماعي من خلال منهج “الميكروتاريخ” أو “التاريخ المصغر”. وهو نوع من التاريخ يركز على وحدات بحثية صغيرة للوصول إلى فهم أعمق لقضايا تاريخية كبرى.

  • كيف يساعد التاريخ في فهم التغيرات المناخية والسياسات الحضرية المعاصرة؟ وهل هناك أمثلة تاريخية ؟

تتمحور هذه الفكرة حول دور المؤرخ في رؤية الماضي بشكل واقعي، لاكتشاف نقاط الانقطاع والاستمرارية في الأحداث، وربطها بحياتنا المعاصرة. فالمؤرخ لا يكتفي بسرد ما حدث، بل يقدم قراءة متعمقة تساعدنا على فهم كيف يمكن للماضي أن يكون مرآة للحاضر. خاصة في ظل الصراعات والقيم المتغيرة التي نعيشها.

فعلى سبيل المثال، يمنح التاريخ الممتد لصراعات منطقة شرق المتوسط، والقضية الفلسطينية، وصراعاتنا التاريخية مع الحبشة (إثيوبيا)، وإسطنبول. وحتى الحجاز، القائمين على القرار السياسي في مصر أدوات لفهم السياق الإقليمي بعمق.

  • انطلقت دراستك من تصور ابن خلدون للعلاقة بين التاريخ والاجتماع. ما الذي يجعل هذا المنهج صالحا حتى اليوم لفهم الأزمات الاجتماعية في مصر؟

يعتبر ابن خلدون مؤسسا حقيقيا لفهم العلاقة المعقدة بين التاريخ والمجتمع، ويظل منهجه صالحا حتى اليوم. فاعتماد المناهج الحديثة لا يعني التخلي عن الأساس التاريخي الذي وضعه. بل على العكس، تظل نظرياته حول العمران والاجتماع مساهمة في فهم التحولات المجتمعية. خاصة إذا تم دمجها مع الأدوات والمنهجيات الجديدة.

  • أشرت إلى أن التاريخ السياسي عادة ما يقصي الممارسات اليومية للناس. كيف يمكن للمؤرخ إعادة دمجها في السرد التاريخي دون الوقوع في إشكالية التبسيط؟

أعتقد أن هذا يشكل تحديا كبيرا، لأن التبسيط قد يؤدي إلى فقدان الدقة والمعرفة الحقيقية. لذا يجب على المؤرخ أن يتدرب باستمرار على تجاوز هذه الإشكالية. وتكمن المشكلة في وعي المؤرخ ذاته بضرورة استخدام أدوات جديدة في نقل المعرفة. خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والبودكاست، التي غيرت من طرق التواصل والفهم.

كذلك تتضح أهمية اللغة بوصفها الوسيط الأساسي. فاستخدام اللغة المصرية العامية، لغة الشارع، يمكن أن يكون مفتاحًا لإعادة توثيق التاريخ بطريقة أقرب للناس. فعلى سبيل المثال، في كتاباتي عن شخصيات مثل عم علي أو الست منيرة. أدمجت كلامهم ومصطلحاتهم التي لم تعد مستخدمة بشكل واسع اليوم، وهذا يمنح السرد حيوية وصدقًا أكبر.

اقرأ أيضا:

لم يرغب في الكتابة فأصبح أديب نوبل.. عوالم لاسلو كراسناهوركاي السوداء

«تعهد الحدائق».. عريضة شعبية لحماية حديقتي «المسلة» و«الزهرية» التراثيتين بالزمالك

تجريف التربة وطوب خرساني.. ماذا يحدث داخل حديقة «المسلة» التراثية؟

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.