«طب وثقافة وناس»: ميتافيزيقا الألم والإيمان والعرق

في منتصف التسعينات من القرن الماضي، سافرت إلى واحدة بلدان الخليج للعمل كطبيب بأحد المستشفيات الحكومية. كان المرضى من أبناء البلد في قسم الطوارئ يطالبون بتوقيع الكشف الطبي عليهم قبل المرضى من الجنسيات الأخرى، حتى لو كان الأجنبي هذا في حال شديدة السوء ويستحق رعاية عاجلة.

كان بالإمكان فهم أن كل الأغراب هنا خدم، وكان بالإمكان دائما السيطرة على الفوضى. لكنني لم أفهم وقتها كيف ينهزم الإنسان حين يتقاطع التقسيم الطبقي مع الحق في الرعاية والعلاج.

في أيامي الأولى في البلد الخليجي نفسه نصحني طبيب مصري قديم في المستشفى قائلا: إذا تلوى أمامك بنجالي من شدة الألم، فلا تأخذه على محمل الجد. أما إذا اشتكى إيراني أو باكستاني بألم بسيط في البطن فخذه فورا إلى غرفة العمليات. قلت: غريب، فقال: تعرف الفارق بين “عتبة الألم” و”القدرة على تحمل الألم“. قلت: العتبة هي مقدار الألم الذي يتحمله الجسم قبل أن يبدأ الإحساس بالألم، فقال لدى البنجالي عتبة ألم واطئة وقدرة ضعيفة على تحمل الألم. أما الإيراني والباكستاني فعتبتهم عالية وقدرتهم على تحمل الألم أعلى بكثير من قدرة البنجالي على تحمل نفس القدر من الألم.

**

ورغم أن كتب الطب تتحدث عن الاختلاف الطبيعي في العتبات وقدرة الناس على تحمل الألم. ورغم أن التجربة العملية صدقت ما قاله الكتاب وما قاله الخبير، إلا أنني لمحت أثرا من تقسيم البشر إلى أعراق ثلاثة أو أربعة، وربما خمسة، ويزيدهم البعض إلى سبعة رئيسية. وثلاثين عرقا فرعيا: القوقازي والمنغولي والأسود. الأسود في ذيل التصنيف العام، والهنود والبنغال في ذيل القوقاز.

وفي حديث جانبي مع طبيب صديق، يكتب الشعر العامي، ويترجم الروايات القصيرة، مختص بأمراض النساء، ويعمل مع أطباء بلا حدود في بنجلاديش وفيتنام. حكيت له عن هذه الخبرة التي أعتبرها غريبة. فنفى الغرابة وقال: إنهم أجروا في بنجلاديش دراسة حول قدرة النساء على تحمل آلام الولادة، فأكدت التجربة أن البنجاليات المسلمات كن الأٍقل قدرة على تحمل الألم.

وأضاف أن تحمل الألم جزء من إيمان المسيحيات والهندوس، لكنه ليس جزءا من ثقافة المسلمات أو المسلمين عموما. قلت حتى في مؤخرة السفينة، يقسم البشر أنفسهم إلى مجموعات، وقلت أيضا: انظر كيف يكون تحمل الألم فصلا في اكتمال الإيمان.

(1)

وقبل أن ينتهي القرن العشرين الطويل نشر، أطباء أوربيون دراسة عن مجموعتين متماثلتين إلى حد التطابق، في العمر والمرض والعلاج الجراحي الجذري لسرطان المثانة وتحويل مجرى البول. المجموعة الأولى من الطليان، والمجموعة الثانية من أحفاد الڤايكنج في السويد.

موضوع الدراسة هو اختبار تأثير العوامل السابقة كلها على “نوعية الحياة” التي يعيشها المرضى بعد هذا الإجراء الجراحي العنيف. كانت توقعات الأطباء تصب في مصلحة الڤايكنج. نظرا لارتفاع مستوى الحياة وتفاصيلها في السويد الغنية مقارنة بإيطاليا الفقيرة نسبيا. لكن النتائج الفعلية خالفت التوقعات، وانحاز ميزان المنحنى لصالح الطليان.

لم يجد الأطباء تفسيرا علميا لمخالفة الظن وخيبة التوقعات، فانحازوا إلى الميتافيزيقا: يتمتع الطليان بإيمان كاثوليكي، جعلهم يحتملون واقعهم المرضي. والأثر الجانبي لاستئصال المثانة وكيس البول المتدلي من ثقب أسفل البطن، وما ينطوي عليه من كسر لصورة الجسد، بقلب عامر بإيمان مسيحي. يرى المحنة اختبار إلهيا، يغفر به خطاياهم، ويخفف حملهم الثقيل في ملكوت السماء، فحسن الإيمان بجنة الآخرة نوعية ما تبقى لهم من حياة على الأرض.

يفتقد الڤايكنج إلى مثل هذا الإيمان، فتعاملوا مع المحنة كعقاب على ذنوب مجهولة، أو ذنب لم يرتكب من الأساس. لا يتقبل الإنسان بسهولة فكرة العقاب، وغالبا ما يتحول هذا الإنكار إلى عذاب. وبعد الإنكار يستسلم المرء غاضبا فيكتئب، وتنهار نوعية الحياة. اختبار من الله أم عقاب؟ أم فصل آخر من صعوبة الفن وسلطة الإيمان.

(2)

اختيار أم عقاب؟

يميز الباحثون في الفلسفة والعلوم بين التعريف والمفهوم.

يقال إن التعريف هو موجز المعلومات عن شيء معين. وذكر الخصائص التي تميزه بهدف تحديده، ووصفه بدقة، وتقديمه إلى الآخرين. باختصار، إن من يعرّف شيئا يعني أنه أحاط به علما.

وهذا يعني أن تعريف الأشياء هو اختصاص حصري لأهل العلم المختصين بالمجال الذي يدور فيه الشيء المقصود. وبما أن العلم يعني بما هو نسبي، وبما هو قابل للتغير، يتسع أفقيا بالبحث ورأسيا بالتراكم. فهذا يعني ضمنا أن التعريف محكوم عليه بالتغير، وفق سرعة تدفق المعلومات وتغير العالم.

أما المفهوم فهو تلك الفكرة التي تتكون في الذهن، نتيجة لما اكتسبه من خبرات متتالية فيما يتعلق بأمر ما أو تجربة من التجارب التي يخوضها بنفسه. فإذا عدنا إلى تعريف الثقافة كشبكة من الخيوط، أو العلاقات، تتشكل من جماع خبرة الأفراد كعقل جمعي، كمخزن خبرات جماعي.كبيت مال رمزي يحفظ فيه الأفراد ودائعهم، ويسحبون منه كل يوم دون أن ينفد الرصيد. نجد أن “المفهوم” هو فكرة الجماعة عن شيء ما، وأنه نتاج الحياة اليومية والعمل المشترك.

باختصار التعريف عمل فردي، والمفهوم عمل جماعي. التعريف مجاله العلم، والمفهوم جذره في الثقافة. التعريف متغير، والمفهوم يتغير أيضا. لكن ببطء شديد، بطء يقترب من الثبات. باختصار آخر فيما يخصنا هنا: رؤية الأطباء للمرض تعريف، ورؤية المريض لمرضه مفهوم.

(3)

قبل عام أو أكثر قليلا أصبت بجلطة مفاجئة في واحد من شرايين القلب، كان الألم الذي أيقظني من نومي عنيفا ومخيفا بالفعل. وهو ما استدعى دخولي غرفة العمليات بشكل عاجل لتركيب دعامتين بشرايين القلب.

نجوت، وفي أول زيارة لطبيب القلب المعالج بعد التدخل الطارئ قال لي مبتسما: أرجو ألا تقع في السؤال الذي يقع فيه مرضى القلب عموما، قلت مستغربا ما السؤال؟ قال: لماذا أنا!! وماذا فعلت لكي أستحق هذا العقاب!! قلت مبتسما لا، لم أفكر في هذا، ولا بهذه الطريقة. فما حدث هو نتيجة متوقعة لطريقتي المتوترة في الحياة ولمعدلات التدخين العالية التي عشت بها طوال أربعين عاما.

في الكتب التي تعنى بتاريخ الطب يقال إن الطب بدأ في مواجهة غموض الطبيعة والمصير الإنساني بالسحر، ثم أصبح دينيا، ومع التقدم والتطور أصبح علميا تجريبيا. ومع هذه المسيرة الطويلة من السحر إلى العلم تغير تعريف المرض ومفهومه أيضا، وبما يتوافق مع هذا التطور.

تغير التعريف مبكرا، وبطريقة معقدة سنعرضها فيما بعد. أما مفهوم المرض فكان أكثر التزاما بالمراحل: مفهوم سحري، ثم مفهوم ديني” اختبار/عقاب”، ثم مفهوم علمي. الأغرب هو أن هذه المفاهيم جميعا ما تزال متجاورة وحاضرة بقوة في العقل الجمعي للبشر.

لكن الباحثون في هذا المجال يؤكدون أن أكثر هذه المفاهيم حضورا في الزمان وانتشارا في الكوكب الأزرق هو المرض كعقاب. ويقولون أيضا أنه ظهر أولا فيما بين النهرين قبل آلاف السنين. ومع السبي البابلي انتقل إلى العهد القديم، ومنه إلى العهد الجديد، ثم عبر المتوسط وأصبح مفهوما عالمي الآفاق.

ربما لعبت الأديان دورا في سيادة هذا المفهوم، سينحاز المسلمون للاختبار، وينحاز اليهود للعقاب. مرض الفرد اختبار، والوباء عقاب جماعي لخطيئة فرد واحد في بعض الأحيان، أو انتقام الرب ممن أساءوا لشعبه المختار!

العقاب غالبا يخص الأغيار، فلماذا يتبنى الأغيار أنفسهم مفهوم المرض كعقاب؟

(4)

الألم الذي أيقظني من النوم وجعلني أطلب النجدة، والألم الذي يدفعك لسحب يدك بسرعة بعيدا عن وعاء ساخن أو من لسعة النار، أو الذي يدق رأسك مباشرة حين يلتهب عصب الضرس أو الأسنان، ليس هو المرض، بل جرس الإنذار الذي يبعد يدك عن النار أو يسحبك من اليد نفسها إلى الطبيب. ويعقد بينكما اتفاقا ضمنيا على التقليل من حدته وجعله محتملا، أو إيقافه، أو التخلص منه -الآن – مع وعد بعدم التكرار.

ورغم التطابق التشريحي والتخطيط الفسيولوجي لجميع البشر تقريبا. إلا أن تجربة الألم هي تجربة فردية تماما وشخصية جدا. يختلف توزيع مستقبلات الألم في الغلاف الخارجي للجسم عن توزيعها داخله، ويختلف توزيع مستقبلات الألم في الوجه والشفاه عن توزيعها في الكف وباطن القدم.

بعض أْعضاءنا الداخلية لا تستجيب لمثيرات الألم المعتادة: عنق الرحم يحتمل الكي دون تخدير، والمهبل لا يؤلم إلا عند الاتساع، الكبد والحويصلات الهوائية لا يسبب التعامل معها أي شعور بالألم، وبعض الآلام لذيذة مثل ألم الجماع والأورجازم. ولأن الفسيولوجيا علم يبحث في وظائف الأعضاء والقوانين العامة التي تحكم هذه الوظائف وهذه التجارب الفردية.

**

ولأن الألم واحد من هذه التجارب فكان لابد أن يخضع للبحث العلمي. قضت المعتقدات القديمة حول اختلاف النساء عن الرجال، واختلاف أحوال النساء باختلاف دورة الهرمونات شهريا ومع التقدم في العمر باستبعاد النساء من البحث التجريبي في فسيولوجيا الألم وقصر البحث التجريبي في الألم على الرجال!! غالبا وبحكم ذكورية العلم في القرن التاسع عشر التأسيسي وبحكم التاريخ الذكوري الطويل.

وباعتبار أن الرجال أقوى من النساء، قر في الأذهان أن النساء أقل قدرة من الرجال على تحمل الألم. كأن أحدا لم ينتبه مثلا أن مريم العذراء اعتزلت بحملها وولدت المسيح عيسى وحدها. فهل وضعت السيدة مريم حملها دون ألم؟! أم أن الأمر كله كان معجزة إلهية، ضد القانون الطبيعي، وضد الألم؟!!، ولم ننتبه نحن المعاصرون أن امرأة هندية تعمل في مزارع الشاي، تضع حملها وحدها، وتربط الحبل السري وتحمل وليدها على ظهرها. ثم تعود بعد ساعة أو ساعتين إلى عملها القسري، تجمع أوراق الشاي الأغلى في العالم من قمم الجبال لكي يعتدل مزاجنا نحن ونقول إنهن أقل قدرة على تحمل الألم!!، وهذا يطرح سؤالا حول الدور الاجتماعي للجندر في تأطير البحث العلمي ونتائج التجارب العلمية.

**

هل اختفى هذا الدور عندما أدرجت النساء في تجارب الألم؟ بعض الأبحاث التي أجريت على الحيوانات أثبتت عدم وجود اختلاف في عتبة الألم ولا في القدرة على تحمله بين الذكور والإناث. وبتطبيق الأبحاث نفسها على البشر بعض التجارب توصلت للنتيجة نفسها، وبعضها توصل إلى وجود اختلاف بين الرجال والنساء، وبعضها توصل لاختلاف حساسية النساء للألم باختلاف توقيت إجراء التجربة قبل وبعد وأثناء للدورة الشهرية، وبعضها لم يرصد هذه الاختلافات.

الأغرب أنه في واحدة من هذه التجارب التي أجريت على الشباب والشابات تبين أن عتبة الألم والقدرة على تحمل الألم لدى الذكور ترتفع إذا كان الباحث أنثى عما إذا كان الباحث رجلا!! كأن الرجل بإمكانه أن يحتمل ألما فوق طاقته، من أجل صورة للذات في خياله، أو موعد غرامي محتمل!!

هذه النتائج تشكك في قدرتنا على الوصول إلى قياس حقيقي للألم، أو استنباط قوانين عامة تحكم ما هو فردي تماما، وفي الوقت نفسه خاضع للعقل الجمعي، وللخبرات النفسية، وللطموح الجنسي، وربما للجينات والوراثة أيضا.

اقرأ أيضا

«طب وثقافة وناس»: شعراء كرة القدم.. شعراء غرفة العمليات

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر