أسرار الرسامين الأوائل: كيف بقيت لوحات «وجوه الفيوم» 1600 عام؟

لا تزال لوحات وجوه الفيوم تمثل لغزا فنيا كبيرا، مجالا لدراسات فنية وعلمية فى كل العالم. ولا تزال محاطة بالأسئلة، ماذا تكشف هذه الوجوه الواقعية عن الهوية والمكانة؟
ونجحت لوحات الفيوم في البقاء لآلاف السنين، لتعد شاهدا على براعة الفنانين القدماء الذين استخدموا تقنيات خاصة لحفظها. تعود هذه اللوحات إلى الفترة ما بين 200 و400 ميلادي، وكانت جزءا من طقوس التحنيط المصري التي نفذها رسامون يونانيون استقروا في مصر. وكان الهدف منها منح الخلود لأصحابها عبر تصوير وجوههم على المومياوات.
بمناسبة إعادة طباعة كتاب «صور الفيوم الغامضة.. وجوه من مصر القديمة» الفنانة يوفروسين دوكسياديس بمقدمة جديدة للروائية أهداف سويف الصادر عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة، نطرح السؤال: فما سر بقاء هذه اللوحات لامعة طول 1600 عام؟ ومن هم الرسامون الأوائل؟
لوحات وجوه الفيوم
عند التوجه نحو الجنوب في مصر، تصل إلى فجوة في جرف الصحراء، ثم ستصل إلى دائرة واسعة من اللون الأخضر، أشجار الزيتون، حقول الشعير، وبيوت من الطين المجفف بالشمس.. هنا في واحة الفيوم حيث عاش ناس وماتوا، وحرصوا على توثيق شكلهم فوق جثثهم المُحنطة، بلوحات واقعية لوجوههم.
هذه اللوحات الواقعية، كانت أولى اللوحات التي تمثل فن البورتريه، وسميت خطأ “لوحات قبطية”، واستخدمت كأقنعة على المومياوات. أبدعها رسامون يونانيون استقروا في مصر واحتفظوا بعادات التحنيط المصرية.
الرسم للخلود
سرد الفيلم الوثائقي «بورتريهات الفيوم: لوحة جنائزية لمصر الرومانية» إنتاج متحف المتروبوليتان الأمريكي عام 1988 جزءا من تاريخ رسم لوحات الفيوم. استعرض الفيلم تقنية رسم اللوحات المتشابهة، حيث اتسمت بتفاصيل دقيقة لكل وجه، بما في ذلك الشعر والمجوهرات ومنحنى عظام الخد، مع تصوير العيون داكنة وكبيرة الحجم وغير مركزة.
تحدث المؤرخ الفني “ريتشارد بريليانت” عن تقنية الرسم المُتبعة في لوحات وجوه الفيوم، وقال إن الرسامون القدماء استخدموا شمع العسل المشبع بالألوان النباتية وطبقوه على شرائط رقيقة من الخشب سواء الأرز أو السرو. وعندما يبرد الشمع ويصبح صلبا، كان على الفنان أن يعمل بسرعة، مما يفسر نضارة اللوحات غير العادية.
«الرسومات بالنسبة لهم وسيلة للخلود، وخطأ واحد يصبح طريقا للنسيان» يتابع بريليانت، أنه تم رسم هذه اللوحات بواسطة حرفيين محليين باستخدام مجموعة محدودة من الأشكال، لكن نجح الرسامون في توثيق جوهر الموضوعات الإنسانية.
من هم أصحاب لوحات وجوه الفيوم؟
تتسم هذه اللوحات بأنها واقعية، مرسومة بالشمع على ألواح خشبية. ويمكن مشاهدة هذه اللوحات الشهيرة في المتاحف الأثرية الكبرى حول العالم. حاليًا، يوجد حوالي 900 صورة مومياء معروفة تم اكتشافها في مقابر منطقة الفيوم في مصر.
وكشف “بريليانت” الكواليس وقال إنه تم رسم اللوحة والشخص على قيد الحياة. وبعد الانتهاء منها يتم تعليقها في منزل الشخص المعني. وعلى حد وصفه، تظل موجودة لسنوات عديدة حتى وقت الوفاة، ليتم بعدها تحنيط الجثة وتوضع الصورة على وجه المتوفي كقناع.
كما وصف بريليانت الحالة الاجتماعية لأصحاب هذه اللوحات، وقال: “عدد قليل منهم كانوا أثرياء، ولكن معظمهم من ذوي الدخل المتواضع، مثل التجار والحرفيين وربات البيوت الذين كانوا يعيشون على هامش الإمبراطورية الرومانية. هؤلاء الناس كانوا يونانيين، وبعضهم من اليهود ومن بلاد الشام، وبعض البيروقراطيين الرومان الذين جاءوا بعد غزو مصر على يد الإسكندر”.
وعن حياتهم في مصر، تابع: “بحلول القرن الثاني، كانوا قادرين على التحدث والكتابة مثل اليونانيين، وارتداء الملابس من الكتان مثلهم، ولكن عند الوفاة يموتون مصريين. وفي تلك الرحلة إلى الحياة الآخرة استدعوا حماية الإله أنوبيس”.
الرسامون الأوائل
يرجع الفضل في رسم لوحات وجوه الفيوم بشكلها الحالي إلى تقنية الشمع التي طورها “باوسياس”، وهو رسام يوناني عاش في النصف الأول من القرن الرابع. عمل باوسياس على تطوير طريقة الرسم بالشمع، التي تعود إلى العصور القديمة، وكانت تحمل اسم “إنكاوستيك” من الكلمة اليونانية “إنكاوستيكوس”، التي تعني “الحرق”، في إشارة إلى عملية دمج الألوان بالحرارة. وتعتبر هذه العملية أساسية لتصنيف الرسومات ضمن فنون الإنكاوستيك. وفقًا لموقع “allthingsencaustic”، يقال إن بوسياس كان أول من ابتكر هذه التقنية، حيث قام بتطبيقها في رسم أسقف المنازل أيضًا. وكان فخورًا بقدرته على إتمام لوحته في غضون 24 ساعة فقط. ومن أبرز أعماله الفنية هو رسم “التضحية”، الذي قام ابنه أريستولاوس بتحسينه لاحقًا.
وذكر المؤرخ بليني الأكبر أن الإمبراطور نيرون أمر برسم صورة ضخمة له باستخدام “كتان”. مما يشير إلى احتمالية استخدام الشمع على القماش لتطبيق الأعمال الفنية.
توفر لوحات مومياوات الفيوم، التي أنجزت تحت التأثير اليوناني في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، دليلاً قاطعًا على أن هذه اللوحات كانت تُنفذ على القماش. يتم تحضير القماش بطرق مشابهة لتلك المستخدمة في تحضير الخشب، ويشد على لوح خشبي أو يتم تجميع أوراق معًا لتشكيل سطح موحد.
من هم أصحاب لوحات وجوه الفيوم؟
لا تحمل معظم لوحات وجوه الفيوم بيانات عن أصحابها، لكن كتاب “صور الفيوم الغامضة – وجوه من مصر القديمة” للباحثين يوفروسين دوكسياديس وأهداف سويف، (The Mysterious Fayum Portraits Faces from Ancient Egypt) يعرض تاريخ هؤلاء الفنانين. بحسب الكتاب، تعود اللوحات إلى منطقة الفيوم في مصر الرومانية، خلال القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد. حيث كان سكان المنطقة مزيجًا من اليونانيين والمصريين والرومان والسوريين والليبيين والنوبيين واليهود.
في التقليد المصري القديم، كان يتم تحنيط جثث الموتى مع وضع صورة مرسومة على المومياء للحفاظ على ذكرى الشخص بطريقة فنية ودائمة. تم اكتشاف أكثر من 1000 صورة من مختلف الأشخاص من جميع الأعمار والأجناس- رجالًا ونساءً وأطفالًا.
تعرض يوفروسين دوكسياديس، في كتابها تحليلات حديثة وتقدم حوالي 200 صورة من أفضل الأمثلة التي تم تصنيفها حسب أماكن اكتشافها في الفيوم. دراسة دوكسياديس تُظهر أيضا كيف أن لوحات الفيوم مرتبطة برسم الأيقونات البيزنطية. مما يربط هذا التقليد الفني بالفن اليوناني القديم وعصر النهضة.

سيد إيزيدورا
تحمل إحدى لوحات وجوه الفيوم توقيع “سيد إيزيدورا”، وهو الاسم الذي أطلق على الفنان الذي رسم صورة مومياء مميزة لامرأة في مجموعة متحف جيتي. تم استنتاج اسم الفنان من كلمة “إيزيدورا” المكتوبة على جانب الكرتوناج. ويُفترض أنها تشير إلى اسم المرأة المرسومة في الصورة.
عمل “إيزيدورا” في مصر الرومانية في أوائل القرن الأول الميلادي. واشتهر باستخدامه الماهر للملعقة الصغيرة لتطبيق الطلاء الشمع، مما ساعد في إظهار دقة الألوان مثل الأصفر والبني والوردي والنحاس الأخضر.
كيف ظلت لوحات وجوه الفيوم لامعة؟
تتمتع لوحات وجوه الفيوم بأهمية تاريخية، إذ تعكس المهارة الفنية التي صاحبت تحنيط الأموات في تلك الفترة. كما أن هذه اللوحات تعد دليلًا على متانة تقنية الرسم بالشمع. وفي هذا السياق، يوضح “رالف ماير” في كتابه “دليل الفنان للمواد والتقنيات” (الطبعة الخامسة) أن “صور الدفن في الفيوم المصنوعة من الشمع على ألواح خشبية قد نجت ببراعة لأكثر من خمسة عشر قرنًا. مما يثبت قدرة الوسيط الشمعي على الصمود”. ويفسر سبب صمودها، بوجود درجة حرارة ورطوبة مستقرة، وغياب الضوء. وبحسب موقع “allthingsencaustic”، فإن الرسم بالشمع هو تقنية فنية يتم فيها خلط الصبغات مع الشمع السائل الساخن. يمكن للفنانين تعديل قوام الطلاء بإضافة الراتينج أو الزيت، الذي يستخدم عادة على القماش، إلى الشمع.
وبعد تطبيق الطلاء على السطح، سواء كان خشبًا أو جصًا أو قماشًا، يتم تسخين السطح باستخدام عنصر خاص. مما يؤدي إلى دمج آثار الفرشاة أو الملعقة في طبقة موحدة من اللون. هذا الحرق الضروري للألوان هو عنصر أساسي في تقنية الرسم بالشمع. يتمتع الشمع المستخدم في هذه التقنية بالعديد من خصائص الطلاء الزيتي، مثل إعطاء تأثير لامع وجذاب. مع توفير مجال كبير للتعبير عبر ضربات الفرشاة الأنيقة والمعبرة. ومع ذلك، فإن الحفاظ على درجة حرارة الشمع دافئًا يمثل تحديًا عمليًا كبيرًا.
تطور الرسم بالشمع
مع سقوط الإمبراطورية الرومانية، اختفى فن الرسم بالشمع إلى حد كبير. وبحسب موقع “allthingsencaustic”، استخدم الإغريق القدماء الشمع والراتينج لعزل وتزيين سفنهم. حيث كانت هذه المواد تحمي السفن من تأثيرات الرطوبة والعوامل الخارجية.
يشير هوميروس، الذي كتب في حوالي 800 قبل الميلاد، إلى السفن الحربية المطلية التي كانت تبحر إلى طروادة. مما يبرز أهمية هذه التقنية في حماية السفن وتعزيز مظهرها (فن الرسم بالشمع، جوان ماتيرا، ص15). ويتمتع شمع العسل بقدرة عالية على مقاومة الرطوبة، مما يجعله مادة مثالية للإغلاق والحفظ. وقد أشار المؤرخ الروماني بليني الأكبر في كتابه “تاريخ الطبيعة” إلى أن “الرسم باستخدام الشمع. خاصة عند تطبيقه على الأواني، لن يتأثر أبدًا بتأثيرات الشمس أو الرياح أو الماء المالح”.

النهضة الحديثة
في القرن العشرين، جعلت الكهرباء والأدوات الحديثة عملية الرسم بالشمع أكثر سهولة. بدأ الفنان الجداري المكسيكي “دييغو ريفيرا” في استخدام الرسم بالشمع في عشرينيات القرن العشرين. كانت أول جدارية بتكليف من الحكومة لريفيرا، Creation (1922-1923)، وهي مرسومة بالشمع وورق الذهب.
وفي عام 1938، بدأ كارل زيرب، الكيميائي المتدرب، في البحث والتجريب باستخدام الشمع والأصباغ. على مدار العامين التاليين، عمل على التوصل إلى صيغة للرسم بالشمع وأعاد تقديم هذه التقنية. وكان رئيس قسم الرسم في مدرسة متحف الفنون الجميلة في بوسطن.
اقرأ أيضا:
في معرض بهولندا.. أسرار لوحات الفيوم الأثرية وكواليس خروجها من مصر
خريطة تهريب آثار مسروقة من مصر إلى مطار «جون كينيدي» الأمريكي|مستندات رسمية
طبيب مصري يعترف بتهريب 590 قطعة أثرية في مطار أمريكي| مستندات