الأنشودة النائمة: استيقظوا.. وترنموا

لقد أجهض الشارع العربي والمصري تحديدا، الساحة الفلسطينية ثقافيا وفنيا. فبدلا من خلق وابتكار عديد من أشكال التعبير الثقافية والفنية المساندة لما يجري على الأرض المحتلة، وبدلا من أن تتحول أروقتها وساحاتها إلى مفاعل فني وثقافي يؤجج ما يحدث الآن ويعبر عن الإسهام الثقافي المؤازر لفصل المقاومة والتحدي. فضلا عن الهزال الحاد الذي أصاب الإعلام المصري في برامجه ومادته التي بثها تعبيرا عن الانفعال بالقضية الفلسطينية. فلقد غلب على البث الإعلامي سمة شعائرية وطقسية باهتة و”مكلمة” جوفاء فضلا عن التزييف والتضليل الإعلامي الذي ابتسر جزءا هائلا مما يجري في الأرض المحتلة. فصار البث أشبه بمناحة خائبة تعبر عن تضامنها مع الحدث. ومن زاوية أخرى، لم نر على صعيد مؤسسات المجتمع المدني، فعاليات تعبر عن التلاحم والتمازج مع الأحداث، بل سادت الشعارات والكتابات الساخنة التي سرعان ما تؤجج المشاعر والعواطف وسرعان ما تفتُر.

فلم نشاهد معرضًا للفن التشكيلي يحمل عمقا فنيا معبرا عن صمود الشعب الفلسطيني وتحديه للسلطة الإسرائيلية الطاغية، ولم نر فيلما يمثل علامة ما يتعرض للانتفاضة. ويتماشى مع الحدث بصورة تليق بتعاظم المشهد الفلسطيني. ولم نشاهد عرضا مسرحيا يمثل “فلتة مسرحية” للانتفاضة ويجتذب الشارع المصري الذي عبر عن ظمأه للمشاركة في الفصل السياسي والثقافي. بل اجتاحت مشاعر الشارع الغضب والإحباط!! بعكس ما لمسناه إبان الستينيات من تساند وتضامن مع القضية الفلسطينية، رغم أن الأحداث لم تكن على مستوى تصاعدها الآن.

***

فقد كانت السينما تعبر عن حس يتماشى مع القضية، فكان فيلم “الظلال في الجانب الآخر” لغالب شعث و”المخدوعون” لتوفيق صالح على سبيل المثال. وفي المسرح كانت عروض “وطني عكا” و”النار والزيتون” أعمال تكتب وتسجل شهاداتها عما يحدث في الأراضي المحتلة، وتسجل كشوفها ونبوءتها التي تجاوزت مع تردي الأوضاع في المنطقة العربية آنذاك والآن.

وما نراه من صمت جلل الآن، وجمود في الساحة الثقافية والفنية، ليس بعيدا عن الحِداد الذي يليق “في ظننا” بشعب يموت شامخا. بل تعبر عن حالة العجز والانكفاء التي تشملنا لأننا لا نبقي سوى الموت المجاني وفقط!! وبعكس ما نراه ونشهده على مستوى الضمير الإنساني العالمي من يقظة عديد من المثقفين والمفكرين والفنانين الذين أفاقوا على ما يحدث في الأرض المحتلة. فعبَّروا عن إدانتهم واستنكارهم لما يجري الآن، وشرعوا في التفكير في منجز فني وثقافي يتعرض للقضية ويتفاعل معها، ويساند الحال الفلسطيني، “ستيفن سبيلبرج” الأمريكي، و”فانيسا ريدجريف” الإنجليزية وآخرين، يحملون راية الانتفاضة في أعمال فنية واعدة. ليصيروا عربا أكثر من العرب أنفسهم، ولا عزاء للعرب.

مشهد من فيلم "الظلال في الجانب الآخر” للمخرج الفلسطيني غالب شعث
مشهد من فيلم “الظلال في الجانب الآخر” للمخرج الفلسطيني غالب شعث
***

لقد صارت “الصورة” في الانتفاضة الفلسطينية هي البطل، فالصور والمشاهد النضالية والتي تعبر عن فداحة المأساة والكارثة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. هي مثال بليغ للصمود والمقاومة التي تجلت في صورة التحدي الشامخ إزاء عدوان إسرائيلي وحشي وسافر.

تلك “الصور” صارت ذخيرة حية لجميع صُناع السينما التسجيلية والروائية، ولم نعد بحاجة إلى مشاهد تمثيلية مفبركة. فلقد صار الواقع أرقى من الفن، وأكثر دلالة على التعبير الفني. وصرنا أمام حدث تراكمي ومكثف، والذي جعلنا بمنجاة في انتظار تاريخ طويل من التراكم الفني لكي نصنع مصنفا فنيا عميقا في شحنته الشعورية أو منتجا سينمائيا ضخما يحتشد بأحاسيس ومشاعر متدفقة.

باختصار، صار لدى صُناع السينما – فضلا عن المعنيين بأشكال التعبير المرئية المختلفة والعديدة – كنز هائل من الصور والمشاهد التي تسجل نضالات الشعب الفلسطيني، والتي لابد من توظيفها فنيا سواء على المستوى التسجيلي أو الروائي.. في صناعة أشكال تعبير فنية تحمل نبض المقاومة والكفاح.

فلابد وأن يكون لمنتج فني، يشكل هما فنيا وسياسيا على المدى الطويل. خاصة وأن الحدث حَفِلَ بعديد من الحكايات والأحداث الروائية والمواقف الإنسانية التي تمثل “المادة الخام” لصناعة سينمائية أو مسرحية.. يتوازى مع المصنف الفني الفلسطيني أو اللبناني والذي عبر بصدق عن الحال الفلسطيني في عديد من الأفلام التسجيلية والروائية الفذة.

***

وحتى لا يغيب عنا أن ما يحدث الآن متماس فنيا وسياسيا مع الحال العربي والمصري على وجه الخصوص. فلابد من التضفير والمزج بين ما يحدث على الأرض المحتلة وما يجري في الوجدان العربي من أحاسيس ومشاعر طاغية، وأن يكون انفعالنا بالقضية، ليس انفعالا طقسيا أو احتفاليا. بل أداء فني يمثل منجزا فنيا وتاريخيا، منجزا سينمائيا أو مسرحيا يسجل اللحظات المعبأة بمخزون المشاعر والانفعالات. ويبقى إحدى العلامات والبصمات الفنية عبر تاريخنا الفني والسياسي. وشاهدا على ما يحدث، وليس في ظننا تسجيل “المناسبة” وفقط ولكن إنجاز معمارا فنيا، وفعلا ثقافيا يظل امتداد لأشكال تعبير عديدة تلمست القضية وتحسست نبضها.

ربما كان تصور التعبير دوائر غير مكتملة، إلا أننا لدينا الآن منجما فنيا ووافيا. لابد وأن يكون بداية لاستمرارية خلق وإبداع أعمال فنية في هذا المضمار، تمثل طاقة ومثيرا لجميع المبدعين.

طاقة لا تُفنى ولا تُخلق من عدم.. حتى لا ينزوي هذا المنتج الفني، ويصير مطمورا في حضيض النسيان. وحتى لا تكتسحه سيول التفاهة التي تغالبنا دائما. فلدينا فرصة ذهبية سانحة لابتكار “مصدات” و”روافع” فنية تُمثِل الصور والمشاهد النضالية أحد الأدوات الفعّالة لفعل “الميتابوليزم” إعادة بناء ما تهدَّم. وحتى تظل الصور زاهية ولتأصيل وجودنا في لحظة وجود آنية صورته “فلو” فمن يرى ومن يموت.

***

لقد ظل شعر المقاومة الآن وسابقا، اللحن المميز، والسمة البارزة لمدارنا الأدبي والثقافي. وتفسير ذلك الطغيان الشعري، أننا مازلنا أسرى اللغة وجماليتها، ومازلنا رهائن الظاهرة الصوتية. فعاطفتنا المتأججة، صارت “المفرزة” الأساسية للإبداع الشعري بكافة صوره وأشكاله البلاغية والمجازية. في الوقت الذي بهتت أو صمتت رواية المقاومة بكل ما تحمله من تجارب وخبرات عميقة ورؤى رحِبة وفسيحة. وصارت رواية المقاومة من كلاسيكيات إبداع الكتابة. لم يتبق لنا سوى أن نعيش على الرائحة التاريخية لمنجز الرواية العربية. على سبيل المثال أعمال غسان كنفاني وسحر خليفة وجبرا إبراهيم جبرا وهدى بركات ورجاء نعمة وآخرين. تلك الأعمال التي ظلت علامة بارزة من علامات الإبداع. وبصمة تمثل تجارب أُمة حفلت بالنكبات والنضالات، الانكسارات والانتصارات، وصارت من “ريبتوار” رواية المقاومة. ورغم أن أحداث الانتفاضة الفلسطينية جديرة بأن تفجر إبداعا روائيا. إلا أن هذا الفعل الروائي مازال غائبا عن ساحتنا الثقافية والفنية.

رغم تعاظم الحدث الذي يبعث طاقات الكتابة التي تتماس مع فعل المقاومة، فتوثقه وتبدعه في آن واحد. لقد صرنا لا نرى أبعد من أنوفنا، وصار إبداعنا غائبا أو مبتسرا في مجال رواية المقاومة. ربما لأن انفعالنا صار انفعالا طارئا تمثل في كتابات وإبداعات عابرة وسطحية أو أن حِسَنا الروائي تمركز في الكتابة عن السيرة الذاتية والذات. وصار همنا الحكي واستعادة تذكارات الذات أو أن انفعالنا مازال رد فعل لحدث يشكل قيمة عميقة وهائلة. فكل المنتج الثقافي في فضاء الرواية يغلب عليه السردية الذاتية أو الكتابة عن الحدث بشكل هامشي. رغم أن اللحظة الراهنة تشهد صراعا محتدما سواء على الصعيد العالمي أو على الصعيد الإقليمي. لبروز التناقض الحاد بين جبهة غمة السلب والنهب وجبهة مسروقة مقدراتها كل يوم.

***

وباءت كافة محاولات تمييع الصراع بالإخفاق والخسران، لأننا في أتون معركة طاحنة وحامية الوطيس مثالنا في ذلك الكتابات الأدبية الغربية لكُتاب ومناصرين للقضية العربية. تلك الكتابات الحرة التي تماست مع الأفق الإنساني والسياسي، فكانت التعبير بجرأة عن مأساتنا فضلا عن تصوير أداء المقاومة وإبرازه.

على سبيل المثال كانت كتابات “جان جينييه” و”خوان غويتسليو” وفوتوغرافيا وسينما ومسرح كافة المبدعين والفنانين في كافة أرجاء العالم. فهل لدينا مَلَكة استشراف الغد العربي والفلسطيني لنتعاط التعبير الروائي بشكل أكثر فعالية؟!.. ولكي نبرهن على أننا لسنا أبناء زمن غفل. ونبرهن على أن إبداعنا المؤمل عليه لن يتأتى إلا بخلق فعل “الدوندي” لدينا على حد تعبير “لوركا”.

لقد صار طرحنا وهتافنا بضرورة تجسيد نضال الشعب الفلسطيني متجاورا مع تاريخنا الكفاحي فنيا وثقافيا، أشبه بالآذان في مالطا والنفخ في قِرْبة مقطوعة. فما زالت هناك فجوة واسعة وهائلة بين ما يحدث في الشارع الفلسطيني من صور المقاومة وبين الانفعال بتلك الأحداث فنيا بصورة عميقة وفعالة.

بل عكست الأحداث نفسها في احتفاليات طقسية ومهرجانات رسمية لا تتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة. والمتأمل لساحات مدن المحروسة، لا يعثر على أعمال نحتية فنية وتماثيل متقنة تجسد تاريخنا في المقاومة ومسيرة بسالتنا إزاء الاحتلال بكافة صوره وأشكاله. وتعبر عن نضالنا عبر سنوات طويلة. هذا النضال الذي سجلته كتابات وأغنيات كانت ذات يوم “فلتة فنية” صارت الآن مبعثا للسأم والضجر.

لا نشهد في ساحات مدننا سوى تماثيل وأعمال فنية لرموز حركتنا الوطنية. فكل التماثيل لرموز أسهمت إبان إرهاصات الحركة الوطنية ضد الاحتلال بدور فعال وبارز وصارت قيِّمة في زمنها الآن أيضا، سعد زغلول، مصطفى كامل، عرابي، عبدالناصر.. إلخ.

***

لقد جسدنا دور الفرد ولم نجسد الدور الشعبي في تصديه وصموده في وجه العدوان والطغيان. فلقد حفل قوس قزح وادينا من الشمال للجنوب بثورات شعبية عارمة ظلت علامة بارزة في تاريخنا. وبصمة ذات قيمة في حياتنا السياسية والاجتماعية، لقد غاب عنا أو تغافلنا عن المنـجز الفني في هذا المضمار. تحديدا “النُصُب التذكارية” التي تخلد ذكرى الشهداء من أبناء الوطن الذين مازالت تتردد أصداء جروحهم وأصواتهم في وجداننا وقلوبنا.

وإذا كنا قد خضنا العديد من المعارك العديدة، والتي حفلت بنضالات وكفاحات أسطورية. فمن الأجدى أن نصور ونجسد تلك التجارب القتالية والتي تعبر عن تحدٍ وصمود لا يذوى. مثالنا في ذلك ما أنـجزته بلدان عديدة نحتت بسالة شعوبها في الساحات والميادين. فهل يفجر فينا ما يحدث الآن في الأرض المحتلة طاقاتنا الفنية؟ ويثير حسنا الفني لنجسد صمود الشعب الفلسطيني في عديد من الأعمال الفنية النحتية البارزة. فضلا عن جداريات تحكي تاريخ النضال الفلسطيني بشكل فني ذو قيمة عالية.

وهل يدفعنا ما يحدث الآن إلى أن نفكر في تأمل إبداعنا النحتي؟ لنجسد بصورة مثلى ونموذجية تاريخنا النضالي العريق، وأمجادنا الحقيقية. لتظل تلك التماثيل قِبلَة نحج إليها وليست مجرد أوثان ننحر لها القرابين.

اقرأ أيضا:

عن الميري.. وترابه

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر