قوص في «ألف ليلة وليلة».. السلطة والحكاية

تظهر قوص في كتاب «ألف ليلة وليلة» وذلك في أحداث الليلة رقم 345، والليلة 346، لتعكس المكانة العظيمة لقوص باعتبارها عاصمة الصعيد في زمن الحكاية، ومقرا للوالي وعساكره. كما تعكس الوجود العميق لظاهرة قطاع الطرق في الصعيد، كما تعكس صورة من صور تهميش الناس والسكوت عنهم. وتعكس أخيرا صورة من صور التشويه السياسي للخصوم.

قبل الحديث عن تلك الأمور، سوف نورد هنا نص الحكاية، التي تأتي تحت عنوان “حكاية والي قوص وقاطع الطريق”. وفي بعض نسخ الليالي تأتي بعنوان “حكاية والي قوص مع النصاب” ويأخذ العنوان الأول شرعيته من اعتراف بطل الحكاية بأنه قاطع طريق. وتأتي شرعية العنوان الآخر من مضمون الحكاية التي تدور حول الوالي الذي تعرض للنصب. لكن هوية قاطع الطريق هي الأنسب، لأنها تأتي بشكل مباشر وواضح في الحكاية.

أولا: متن الحكاية

حكاية والي قوص وقاطع الطريق

ومما يُحكَى أن علاء الدين والي قوص كان جالسًا ذات ليلة من الليالي في بيته، وإذا بشخص حسن الصورة والمنظر، كامل الهيئة، قد أتاه في الليل ومعه صندوق على رأس خادم ووقف على الباب. وقال لبعض غلمان الأمير: ادخل وأَعْلِم الأميرَ أني أريد الاجتماعَ به من أجل سرٍّ. فدخل الغلام وأعلَمَه بذلك، فأمره بإدخاله، فلما دخل رآه الأمير عظيمَ الهيئة حسنَ الصورة، فأجلسه إلى جانبه وأكرم مثواه. وقال له: ما حاجتك؟ فقال له: أنا رجل من قطَّاع الطريق، وأريد التوجُّه والرجوع إلى الله تعالى على يدَيْك، وأريد أن تساعدني على ذلك؛ لأني صرتُ في طرفك وتحت نظرك. ومعي هذا الصندوق فيه شيء قيمته نحو أربعين ألف دينار، فأنت أولى بها، وأعطني من خالص مالك ألفَ دينار حلالًا أجعلها رأسَ مالٍ، واستعين بها على التوبة، واستغني بها عن الحرام وأجرك على الله تعالى. ثم إنه فتح الصندوق ليرى الوالي ما فيه، وإذا به مصاغ وجواهر ومعادن وفصوص ولؤلؤ. فأدهشه ذلك وفرح به فرحًا شديدًا، وصاح على خازنداره وقال له: أحْضِرِ الكيسَ الفلاني. وكان فيه ألف دينار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوالي صاح على خازنداره وقال له: أحضر الكيس الفلاني. وكان فيه ألف دينار، فلما أحضر الخازندار ذلك الكيس أعطاه لذلك الرجل، فأخذه منه وشكره على فعله. ومضى إلى حال سبيله تحت الليل، فلما أصبح الصباح أحضر الوالي قيِّم الصاغة، فلما حضر أراه ذلك الصندوق وما فيه من المصاغ، فوجد جميع ذلك من القصدير والنحاس. ورأى الجواهر والفصوص واللؤلؤ كلها من الزجاج، فعَظُم ذلك على الوالي وأرسل في طلبه، فلم يقدر أحدٌ على تحصيله.

ثانيا: قراءة في الحكاية

سوف نحاول هنا قراءة الحكاية لرصد ما تعكسه من خلال التوقف أمام عدد الشخوص، والسخرية، وموقع الراوي أو مؤلف الحكاية، وما تثيره تلك الأمور من أسئلة.

1ـ مكانة قوص

تعكس الحكاية المكانة الكبيرة التي كانت تتمتع بها قوص في زمن كتابة الحكاية. وهي مكانة ثابتة في التاريخ، منذ اختيارها مركزا لعساكر الدولة في الصعيد، والتي تقوم بمجابهة التحديات التي تواجه الدولة في الجنوب. مثل صد غارات القبائل الجنوبية، أو تأمين النشاط الاقتصادي الذي يعتمد على طريق التجارة من البحر الأحمر إلى مصر عبر ميناء القصير أو عيذاب، وتمركز القوات العسكرية في المكان جعل منه عاصمة للصعيد، ومركز تجاريا وعلميا كبيرا. ويكفي أن الدولة أنشأت فيها ورشة لسك العملة من ثلاث ورش لضرب العملة في البلاد بعد ورشتي القاهرة والإسكندرية. ولا شك أن تلك المكانة التاريخية المعروفة هي التي فرضت أهمية قوص على عالم “ألف ليلة وليلة”.

2ـ الوجود العميق لظاهرة قطاع الطرق  

تعكس الحكاية ظاهرة قطاع الطرق في الصعيد، لكنها لا تقدم صورة تقليدية لقاطع الطريق. بوصفه رجلا بدائيا عنيفا يعتمد على قوة السلاح وزهق الأرواح عبر نَصْب الكمائن أو الإغارة المفاجئة على مكان ما، بل تقدم صورة مختلفة لقاطع الطريق. فيظهر هنا بوصفه رجلا متحضرا حسن الصورة عظيم الهيئة والمنظر، ذكيا وجسورا ومقتحما لبيت الوالي نفسه بغرض السرقة عن طرق الاحتيال لا عن طريق العنف.

تلك الصورة لا تعبر عن عمق وجود قطاع الطرق بل تعبر عن تطورهم وتطور آلياتهم وخبراتهم.

3ـ السكوت عن حياة الناس

تَسكتُ الحكاية عن حياة الناس، ولا تعكس أي شيء عن أحوالهم، باستثناء تعرضهم لقسوة قاع الطرق، وإذا نظرنا إليها، سوف نجدها تتوزع على خمسة شخوص:

(أ) قاطع الطريق وخادمه، رمزا الفوضى القاهرة والسلطة غير الشرعية.

(ب) الوالي وتابعه الخازن دار، رمزا الحكم وثراء الولاية.

(ج) قيم الصاغة رمز ثراء المكان ورواج صناعة المشغولات الذهبية، وهو  يُعد من وجهاء الناس، ولا ينتمي للطبقة الشعبية.

لا وجود هنا للجماعة الشعبية، ومع ذلك نلمح وجودا خفيا مراوغا للجماعة الشعبية. يتمثل في مبدع الحكاية الذي يسخر من الوالي وعجزه عن اكتشاف المجرم أو إلقاء القبض عليه. وتلك السخرية من الوالي تجد صدى طيبا لدى عموم الجماعة الشعبية. لكننا نلاحظ هنا صمت الراوي عن قاطع الطريق، فهو لم يخبرنا ماذا فعل ولا إلى أين ذهب. وهل أخذ المال لنفسه فقط، أم وزعه على الناس، كعادة بعض قطاع الطرق. الأمر الذي يعني أن مؤلف الحكاية لا ينتمي إلى الجماعة الشعبية. لأن الحكاية سكتت عن الناس سكوتا صارما. الأمر الذي يمكن اعتباره نوعا من أنواع القتل، فالخروج  من الحكاية يماثل الخروج من الحياة نفسها.

4ـ السلطة وتشويه الخصوم

الحكاية من الوسائل القديمة التي تستخدمها السلطة من أجل السيطرة على الناس. كما تستخدمها الطبقات الشعبية أيضا في السخرية من السلطة التي تظلمهم، فكيف نعرف انتماء الحكاية.

كاتب الحكاية هنا لا يلتفت للطبقة الشعبية التي تعاني دائما من الولاة وتسخر منهم من خلال الفن. الأمر الذي يعني أن الحكاية تعبر عن سخرية السلطة من سلطة سابقة عليها، لأن الحكاية تنتصر لقاطع الطريق، أو للفوضى التي تتلاعب بالنظام. ومن ثم تصبح السلطة الجديدة هي التي أبدعت الحكاية، لتبرر وجودها باعتبارها الأولى بحفظ النظام.

وإذا كانت قوص ـ تاريخيا ـ وجدتْ نفسها كعاصمة للصعيد في زمن الدولة الفاطمية، فإن زمن تأليف الحكاية يرجع غالبا إلى الدولة الأيوبية أو المملوكية. وبالتالي تعكس الحكاية نوعا من التشويه السياسي للخصوم، الذي تقوم به الدولة الأيوبية أو المملوكية. لإظهار رموز النظام السابق في موضع العجز عن حماية أنفسهم من قطاع الطرق وفشلهم في القبض عليهم. الأمر الذي يعزز شرعية السلطة الجديدة.

اقرأ أيضا:

«عطية حسن».. رائد الحداثة الشعرية في الصعيد

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر