مرآة عبده جبير: نرسيس في مواعيد الذهاب إلى آخر الزمان
تكاد رواية “مواعيد الذهب إلى آخر الزمان” أن تكون سيرة ذاتية لعبده جبير، لولا أنه تعمد أن يبعدها عن نطاق السيرة الذاتية. كأنه يؤكد على أن إخلاصه للكتابة يفوق إخلاصه لسيرته الذاتية. أو أن العمل الإبداعي مهما كان متخيلا لا يبتعد عن الواقع.
التعمُّد في إبعاد سيرته عن روايته يظهر في صُورٍ كثيرة. يبدأ من اختيار اسم البطل “رفعت محمد” وشهرته “رفعت الجمال”، لكنه لا ينجح كثيرا. فبقدر ما يبعدنا عن الهدف يقربنا منه. لأن الكاتب يحرص في نفس الوقت على بقاء “شَعْرة معاوية”، التي تجعل حياته متصلة بالرواية، بل ويحولها ـ أحيانا ـ إلى حبل متين.
يحدثنا ـ مثلا ـ عن البطل الذي لم يكتب الرواية. لكنه يفكر في أن يصبح روائيا، وأنه لم يقرأ سوى رواية واحدة هي “عطلة رضوان”. بالإضافة إلى كتب أخرى مثل قصة الحضارة.
**
الإشارة تأخذنا إلى هويته كمثقف. كما أن الرواية التي اختارها من بين روايات لا حصر لها، كانت لعبده جبير نفسه، ولو أراد إبعاد الرواية عن نطاقا السيرة الذاتية فعلا، لذكر روايةً لكاتبٍ سواه. ويبدو أن تلك الرواية هي الأقرب إلى قلبه، أو الٌأقرب إلى روح الرواية من أعماله القصصية الأخرى مثل: “تحريك القلب” أو “فارس على حصان خشبي” أو “سبيل الشخص” أو “الوداع تاج من العشب”… وغيرها.
تدور الرواية حول مصري من أصلٍ صعيدي يعمل في الكويت. وهو ما يتطابق مع سيرة “عبده جبير” الذي عمل في الكويت مديرا لتحرير جريدة القبس لعشر سنوات تقريبا، لكن الكاتب يغير مكان العمل بحيث يناسب شخصية أخرى لا تنتمي إليه. فيظهر البطل بوصفه عاملا في وكالة للسمسرة واستيراد العمالة من الخارج (الفنيين من الرجال من مصر والهند وباكستان، والسكرتيرات من لبنان) كما يقول..
طبيعة العمل المُتّخيَّل في الرواية تناسب ذلك العمل. لأنها تدور حول عالم المغتربين في الكويت، وتبعده عن التصريح الواضح بأنه يكتب سيرته الذاتية، وتؤكد تقديمه للرواية ومنحها الأولوية على حياته الشخصية. ومع ذلك يحضر العمل الحقيقي بشكل مراوغ، حيث يظهر البطل كمتابع للصحافة. ويقتبس مقاطع من الجرائد ليضفرها في الرواية. ومنها جريدة “القبس” التي كان يعمل فيها في الواقع. وهكذا يبتعد عن سيرته الذاتية بشكل متعمد في بعض التفاصيل. لأن هذا الابتعاد يفيد الرواية، مثل عمله المتخيل في وكالة السمسرة واستيراد العمالة التي يصفها بتجارة الرقيق الأبيض. ومع ذلك فهو يحافظ على خيوط تشدنا إلى هويته الحقيقية.
**
قراءة الرواية على اعتبار أنها سيرة ذاتية، أو جزء من سيرته الذاتية لا تتعارض مع كونها عملا فنيا يسمح بحضور الخيال. وكل التفاصيل التي يمكن اعتبارها خيالية لا تبدو بعيدة عن حياة الكاتب. لأن مساحة الخيال محدودة، وهناك تفاصيل كثيرة تجعلنا نشعر بوجود “عبده جبير” المؤلف في كيان بطل الرواية.
أهم ما في الرواية لا يتعلق بأحداثها بقدر ما يتعلق بحالة الاغتراب الشديدة التي يعاني منها البطل. وتلك الحالة تعمق من شعورنا بأنه يكتب سيرته الذاتية بشكل أساسي، إن لم يكن يكتبها بشكل كامل.
البطل في الرواية يركز على عدم التوافق مع الواقع، والبحث عن الخلاص في العزلة، وإقامة علاقات حميمة مع الذات. والتشبث بالقيم الفردية المناقضة للقيم السائدة أو المهيمنة. والكتابة من أجل الذات حتى لو توجهت صراحة للآخر، على النحو الذي يذكرنا بأسطورة نرسيس. وهو يشير للأسطورة بشكل خفي عندما يقول بطل الرواية:
“أعترف لك يا ضحى بشيء مهم جدا خطر ببالي أن أحدثك عنه الآن، لا أعرف لم. هو أنني قد أكون الرجل الوحيد في هذا العالم الذي يحمل معه دائما في حقيبته مرآة صغيرة لا تفارقه، لزوم رؤية الوجه، دون أن تكون لديه ميول أنثوية”.
**
المرآة في حقيبة الرجل، قد تكون صورة غريبة في الواقع، أو تأخذنا إلى دلالة محددة هي الميول الأنثوية لذلك الرجل. لكنه على المستوى الداخلي للرواية هي رمزٌ من رموز البحث عن الذات أو التعلق بها كموقف من مواقف رفض العالم الخارجي، أو التعبير عن عدم التوافق معه.
طريقة بناء الرواية نفسها تعمق الشعور بالسيرة الذاتية. بداية من اختيار الراوي الذي يتحدث عن نفسه، مرورا بالمقاطع التي أخذت شكل الرسائل الشخصية، والمواضيع التي يأخذها من الجرائد ومنها جريدة القبس. والملاحظات المدونة أسفل الصور الكثيرة التي قام بالتقاطها. واليوميات التي حرص على تدوينها في الأسبوع الأخير والملفات التي تحكي تفاصيل الناجين من حادث الطائرة والأتوبيس وكل ذلك يقلل المسافة بين الراوي بطل الرواية والمؤلف، ويحيل إلى فضاء السيرة الذاتية.
هناك أيضا الأسماء التي تأخذ شكل الأقنعة لتوحي بالواقعية مع التمويه علي تلك الواقعية وربطها بالخيال مثل “سعاد حسني، مديحة حمدي، رشدي أباظة، أحمد رمزي، محود المليجي”. وكلها أسماء تُحِيل إلى عوالم خياليةٍ، لكنها لنفس السبب، توحي بأنه يتكلم عن أحداث حقيقية، ويجب ستر أبطالها من أجل حماية خصوصيتهم.
**
المثير هنا هو ارتباط الرواية بالسيرة في زمن لا حق لكتابة الرواية نفسها. حيث يشير الراوي في صفحة (131) وغيرها، إلى أنه اتخذ قراره بالرحيل من الكويت، ولم يعد في باله سوى أن يبني غرفة من الطين فيها أقل القليل من الأشياء، بعيدا عن المدينة الكبيرة، في بقعة صغيرة من ضفة النيل الغربية، بالقرب من مدينة أخناتون، إذا أمكن. وإذا تعذر فهناك نيبال، على حافة جبل، في قلب الغابة، حيث طقوس الروح على درب الخلاص.
هذا ما حدث في الحقيقة، بعد عودة الكاتب من الكويت. رغم أنه لم يذهب إلى “المنيا” أو “نيبال”، لكنه لم يرجع إلى القاهرة التي شهدت سنوات تعليمه وتحققه الإبداعي. بل ذهب إلى منطقة في “الفيوم” تجمع بين “المنيا” و”نيبال” وعلى النحو الذي تتحقق فيه العزلة الإيجابية التي تهدف إلى الحفاظ على الذات لا مجرد الهرب من واقع مكروه.
الرواية وإن لم تكن سيرة ذاتية في كل تفاصيلها، فهي سيرة ذاتية على المستوى الجواني المتعلق بالمشاعر والأفكار. ورغم بقائها في النهاية كعمل فني مُتّخيل، إلا أن حضور السيرة بهذا الشكل، يرفع درجة الصدق في الرواية ويقوي من حرارتها وعذوبة تدفقها.
اقرأ أيضا
مذبحة حدائق القبة: حكاية البلطجي النبيل (4-4)