«يوم رجع الوطن لأهله».. حكاية الجلاء يرويها شاهد من قلب مدن القناة

في يوم من أيام مصر التي لا تُنسى، لم تكن الشمس تشرق على معسكر بريطاني في قناة السويس، بل كانت تشرق على فجر جديد.. وطن يعود لأهله. كنت هناك، شاهدًا على اللحظة، حين طويت سبعون سنة من الاحتلال، ليس فقط بخروج آخر جندي بريطاني، بل بصوت زغاريد الأمهات، وبدمعة على خد أب فقد ابنه شهيدًا، وبضحكة طفل عاد بيته من التهجير.

ومن قلب التل الكبير إلى شوارع بورسعيد، ومن كفر أحمد عبده حتى قسم شرطة الإسماعيلية، سنتعرف على القصة كما عاشها الكاتب والأديب السويسي «عزت المدبولي».

الجنود يرقصون السامبا.. والاحتلال يودع

من يصدق أن جنود الاحتلال غادروا وهم يرقصون؟ في معسكرات التل الكبير والإسماعيلية، لم تكن هناك بنادق في الأيدي، بل دفوف وصخب وضحك. تابع الجنود البريطانيون المفاوضات بشغف، وعندما أعلن الاتفاق، انطلقت الموسيقى، وعلت أصوات السامبا، وكأنهم يحتفلون بنهاية كابوسهم أيضًا.

ويقول عزت المدبولي: “رأيت بعيني الأطفال الإنجليز يركضون بين الخيام، يلتقطون الصور، بينما أمهاتهم يشترين تذكارات من الأسواق المحلية، وكأنهم يودّعون بلادًا لم يشعروا فيها يومًا أنهم في بيتهم”.

مواكب فرح.. ومدن تكتسي بالعلم المصري

على الجانب الآخر، كانت الفرحة في السويس والإسماعيلية وبورسعيد لها طعم آخر.. طعم الانتصار. خرجت الجماهير في مواكب تهتف: “الحرية.. الاستقلال.. الجلاء!” عادت العائلات التي هجّرتها نيران الحرب، وعاد النور إلى بيوتٍ ظلت مظلمة لسنوات.

امتلأت الأسواق، وازدانت الشرفات بالرايات، وفتح التجار محالهم بعد ركود طويل. شعرتُ أن الوطن نفسه تنفّس للمرة الأولى منذ عقود.

قوات الاحتلال البريطاني في مصر
قوات الاحتلال البريطاني في مصر
كفر أحمد عبده.. حين قرر الاحتلال هدم الحيّ عن بكرة أبيه

من المشاهد التي لا تنسى في ذاكرتي، صباح 8 ديسمبر 1951. يقول المدبولي: ” أمر الجنرال البريطاني “إرسكين” بهدم حيّ كفر أحمد عبده في السويس، الذي أصبح شوكة في حلق الاحتلال، ومسرحًا للعمليات الفدائية. كان الفدائيون يهاجمون الدوريات، ويفخخون المداخل، ويزرعون الخوف في قلوب الجنود”.

حاصرت القوات الحي، وأجبرت سكانه على الخروج، ثم سوّته بالأرض. لكننا لم ننهزم.. بل اشتد عودنا. انتقلنا إلى كفر محمد سلامة، وواصلنا التخطيط والتنفيذ من جديد.

معركة الإسماعيلية.. يوم صمد فيه رجال الشرطة حتى الشهادة

لا يمكن الحديث عن الجلاء دون التوقف أمام يوم 25 يناير 1952. في صباح ذلك اليوم، حاصر الاحتلال قسم شرطة الإسماعيلية. وطالب رجال  الشرطة بالاستسلام، لكنهم رفضوا. قاتلوا حتى الرصاصة الأخيرة. استشهد كثير منهم، لكنهم حفروا أسماءهم في ذاكرة الوطن. وفي اليوم التالي، اشتعلت القاهرة بالغضب.. وكانت الشرارة التي سبقت الثورة.

وحين جلس عبد الناصر على طاولة التفاوض، لم يكن يحمل بندقية، بل عناد شعب بأكمله. في 19 أكتوبر 1954، وقّع اتفاقية الجلاء مع اللورد “ستانسجيت”، لتدخل حيز التنفيذ في 18 يونيو 1956، وهو اليوم الذي أصبح عيد الجلاء الرسمي. والاتفاق لم يكن مجرّد ورقة.. كان ثمرة سنين من المقاومة، من ثورة عرابي لثورة 1919، ومن فدائيي القناة لأحلام الضباط الأحرار.

الفدائيون.. أبطال لم تكتب أسماؤهم في الكتب

لم يكن الفدائيون جنودًا نظاميين، بل طلابًا، وعمالاً، وفلاحين. محمد عفران في بورسعيد، ورفاقه في السويس، حفروا طريق الجلاء بأجسادهم. تحرّكوا في الظلام، خططوا ونفذوا، وسقط بعضهم شهداء دون أن يعرفهم أحد. هم من صنعوا الرأي العام العالمي، وجعلوا بقاء الاحتلال أمرا مستحيلاً.

ورغم الاحتلال الذي بدأ عام 1882 بذريعة حماية المصالح، ورغم معاهدة 1936 التي سمحت ببقاء القوات البريطانية في القناة، لم يرضخ الشعب. وحتى بعد “الاستقلال الاسمي” عام 1922، لم تكن مصر حرة في قرارها. وكانت إنجلترا تعتبر القناة شريانًا لمستعمراتها.

من التهديد إلى التحرير.. ثورة يوليو تغير المعادلة

مع قيام ثورة 23 يوليو 1952، تغيّر كل شيء. أعلن الضباط الأحرار أن الجلاء هدف لا مساومة فيه. بدأت المفاوضات في يوليو 1954، واستمرت  وسط ضغوط ومناورات حتى تم التوصل إلى الاتفاق النهائي.

هذا الاتفاق لم يكن نهاية فقط، بل كان بداية جديدة. فقد مهد لتأميم قناة السويس، ولهزيمة العدوان الثلاثي، ولحلم وطن لا يدار من الخارج.

وبعد الجلاء، تسلمت القوات المسلحة المصرية المعسكرات، ورفضت عودة أي نظام يقصي المصريين. بدأت التعيينات الجديدة، لكن كثيرًا من الأجانب رفضوا العمل تحت إدارة مصرية. ورغم ذلك، صمّم الجيش على أن تكون المرحلة الجديدة “مصرية مئة بالمئة”، وبدأت إعادة توزيع الموارد والمنشآت لمصلحة الشعب.

الجلاء.. ذكرى ليست كأي يوم

الجلاء ليس فقط يوم خَرَج فيه محتل. هو يوم ولدت فيه مصر الجديدة. يوم استعدنا فيه كرامتنا. اليوم الذي أصبحت فيه “الحرية” فعلاً لا شعارًا. هو اليوم الذي قال فيه المصري للمحتل: “ارجع.. ده الوطن مش للبيع”.

لا تزال ذكريات الجلاء تسكن وجداننا، نعلم أبناءنا أن الحرية لا تهدى، بل تُنتزع. وأن الكرامة أثمن من الحياة نفسها. وأن شعبا يصبر 74 عامًا على الاحتلال ثم ينتصر، هو شعب لا يقهر.

أنا عزت المدبولي، من أبناء السويس. عشت تلك الأيام. لا أحكيها من كتاب.. بل من وجع، ومن فرح، ومن حلم تحقّق.

اقرأ أيضا:

«كما دخلوها أول مرة».. كيف قاوم فدائيو قناة السويس الاحتلال البريطاني؟

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.