نساء في حضرة البركة: «الست الولية.. حين تحمل النساء سرّ الولاية» (1-5)
إنا إناثٌ لما فينا يولدهُ
فلنحمدِ الله ما في الكون من رجلِ
إن الرجال الذين العرف عينهم
هم الإناث وهم نفسي وهم أملي
-ابن عربي
في كل مرة كنتُ أحضر أحد ليالي الذكر أو الموالد كنتُ أتعجب كثيرًا؛ أتعجب من طريقة تعامل النساء، على الأقل في الأماكن التي ذهبت إليها. إذ كنت دائمًا محظوظة، إما أنزل في خدمة تديرها سيدة من السيدات القويات اللاتي يفتحن بيوتهن ويطعمن المساكين ليل نهار، أو في خدمةٍ تملك نظرة مختلفة عن المرأة وتقدّسها باعتبارها بوابة الحياة التي حملت الأولياء والأنبياء.
أتذكر جيدًا حين كنت في إحدى الخدمات التي أحبها كثيرًا في طنطا، “خدمة الحاج نوفل”، الذي يخدم الجميع بنفسه ويقبّل أيادي كل من يزورون خدمته. نجلس أنا و”أم زينب”، وجاء أحد الضيوف فاستأذن أن تجلس زوجته معنا حتى يذهب لشراء بعض الأشياء. كانت السيدة لطيفة جدًا، لكنها أخبرتنا عن الحضرات التي تُقام في منزلها، وقالت:
“والستات مبيطلعوش أبدًا، الشيخ بتاعنا مبيرضاش خالص يقعد في حتة فيها ستات”.
هنا ثارت “أم زينب” وصرخت:
“يعني إيه؟ يعني إيه مبيقعدش في حتة فيها الستات؟ ويعني إيه الستات لوحدهم والرجالة لوحدهم؟! هو اللي رايح يذكر الله هيفكر دول ستات ولا رجالة؟! اللي يقول كده يبقى مبيحترمش الستات، وأنا ميشرفنيش أخش مكان بيعمل كده، لأن اللي مبيحترمش الستات يبقى مبيحترمش الست السيدة زينب”!
***
توقفت هنا كثيرًا وبدأت أفكر في هذه الفكرة التي سمعتها بعدها أكثر من مرة، ليس من نساء مثل “أم زينب” فقط، بل حتى من الرجال. أتذكر “سيد” أحد الذين عرفتهم في الموالد، لديه مطعم فول وطعمية في شبين الكوم، لكنه يلف الموالد مع زوجته وأولاده. عرفته لأن ابنته اسمها حنين مثلي. كان “سيد” يشرح مكان الخدمة التي كنا بها في دسوق، فقال للذي يهاتفه:
“الحمد لله، قدام باب الحريم.. آه ما احنا محسوبين عليهم، مدد يا زهرا”! – إشارة إلى السيدة فاطمة الزهراء بنت النبي ﷺ، التي جاء منها نسل آل البيت-
الولاية من المفاهيم المحورية في الفكر الصوفي الإسلامي، إذ تمثل الغاية القصوى في السير الروحي نحو الله، والمقام الذي يتحقق فيه الإنسان بمعرفة الحق، ودوام حضوره في قلب العبد وفعله. غير أن حضور هذا المفهوم ارتبط في الوعي الصوفي والتاريخ الإسلامي في الغالب بالرجال، سواء من حيث الرموز المؤسسة للطريقة أو من حيث الخطاب النظري الذي صاغ معالم التصوف. ومع ذلك، فإن المتأمل في تراث الزهد والتصوف يلحظ حضورًا أنثويًا عميقًا، لم يكن طارئًا ولا هامشيًا، بل أسهم في تشكيل الصورة الروحية للولاية، وفتح أفقًا جديدًا لتجربة الاتحاد والمحبة الإلهية من منظور مغاير.
***
تُشتقّ الولاية من الجذر اللغوي “و-ل-ي”، الذي يدلّ على القرب والنصرة والمحبة. وقد ورد لفظ الولاية ومشتقاتها في القرآن الكريم في سياقات متعددة، منها قوله تعالى:
“أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (يونس: 62).
ومن هذا النص القرآني انطلق المتصوفة في بناء تصورهم لمقام الولاية، معتبرين أن الولي هو العبد الذي تحقّق بمعرفة الله، فصار بينه وبين الحق قربٌ روحي لا يشوبه انقطاع.
أما الولاية في الفكر الصوفي، فقد عرّف الجنيد البغدادي الولي بأنه: “من لا يُرى له حال ولا يُعرف له مقام”، أي أنه مستور بحقيقة فقره ودوام عبوديته لله (الجنيد، رسائل الجنيد، ص 58). أما الكلاباذي في التعرّف لمذهب أهل التصوف، فيرى أن الولاية ثمرة لمقام الإخلاص واليقين، وأنها درجات تتفاوت بحسب صفاء السر ودوام الذكر (الكلاباذي، التعرّف، ص 112).
بينما يقدّم ابن عربي رؤية أكثر تركيبًا، إذ يجعل الولاية جوهر الدين وروحه، ويرى أن النبوة تنقطع بموت النبي، أما الولاية فباقية ما بقي الإنسان يعرف الله. يقول في الفتوحات المكية:
“الولاية عامة في الرجال والنساء، لأنها منوطة بالإيمان والمعرفة، لا بالنسب ولا بالنوع”. ( الفتوحات المكية، ج2، ص 145).
***
بهذا المعنى، تتأسس الولاية على تجربة المعرفة الذوقية (المعرفة القلبية المباشرة)، لا على العلم الظاهر أو السلطة الدينية. وهي عند الصوفية تمثل المقام الذي يصبح فيه العبد “مظهرًا لأسماء الله وصفاته”، كما عبّر أبو يزيد البسطامي في قوله: “غبتُ عني بنوره، فرأيتُه بي (الرسالة القشيرية، ص 240.
أما الولاية في الموروث الشعبي، فليست مجرد كرامات، بل هي مكانة اجتماعية وروحية معًا. والمرأة التي تُعرف بأنها “ولية” كانت غالبًا امرأة فقيرة بسيطة، لكنها عرفت طريقها إلى قلوب الناس. لم تكن تحتاج إلى سند فقهي، بل إلى قصة تُروى عنها، وعينٍ تدمع عند سماع اسمها وقصتها.
وللحق، فإن المجتمع المصري كان جاهزًا لفكرة المرأة الولية وبقوة، إن لم يكن هو من ابتدعها منذ ظهور قصة إيزيس التي حملت ولدها على كتفها وطافت البلاد لتجمع أشلاء زوجها، ثم السيدة مريم التي حملت المسيح وسارت بأقدامها على أرض مصر في رحلة العائلة المقدسة، ثم السيدة زينب بنت سيدنا الرسول التي حملت ابن أخيها زين العابدين ابن مولانا الشهيد سيدنا الحسين.
***

حين تُهمَّش الوليات، لا يُمحى الدين الشعبي فقط، بل يُمحى شكل من أشكال “القداسة الأنثوية” التي منحها المجتمع للمرأة عبر قرون. وهذا التهميش ليس فقهيًا فقط، بل أيضًا ثقافي وإعلامي، إذ غالبًا ما تُكتب سِيَر الأولياء من الرجال، بينما لا نجد كتابًا واحدًا عن سيرة واحدة من الوليات أو النساء التقيات، مثلما نجد في الإمام الشافعي والسيدة نفيسة؛ فبينما نجد دروس العلم التي تركها الإمام الشافعي، لا نجد شيئًا مما تركته السيدة نفيسة أمّ العلوم.
تنبع أهمية دراسة الولاية عند النساء في التصوف من كونها تكشف عن رؤية بديلة للقداسة، رؤية تتجاوز التراتب الاجتماعي والنوعي الذي ساد لقرون متتالية، وتعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والحق بناءً على صفاء القلب لا على الجندر أو المكانة. كما أن إعادة قراءة هذه التجربة النسوية الصوفية تتيح فهمًا أعمق للبنية الرمزية للأنوثة في الخطاب الصوفي، باعتبارها مظهرًا للتلقي الإلهي والفيض الروحي، وهو ما عبّر عنه ابن عربي في أكثر من موضع بقوله: “كمال الولاية لا يختص بجنس دون آخر” ( الفتوحات المكية، ج2، ص 145).
***
ينبني تصور ابن عربي للإنسان على أساس تكوّنه من وحدةٍ انشقت فظهر منها الرجل والمرأة كشقيقين متماثلين ومتكافئين ماديًا وروحيًا (الأنوثة في فكر ابن عربي – نزهة براضة، ص147). وللتأكيد على غياب الفرق بين النساء والرجال، يعتمد سلطان العارفين على الحديث النبوي “النساء شقائق الرجال”، ويعرضه كأساس شرعي يبيّن من خلاله أن الأحكام التي تسري على النساء هي نفسها التي تسري على الرجال، معتبرًا أن كل ما يصح أن يناله الرجال من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن تناله النساء كذلك. (الأنوثة في فكر ابن عربي – نزهة براضة).
وبالعودة إلى ابن عربي، فإن المشاع عنه أنه تتلمذ على أيدي الرجال والنساء على حد سواء، بل كان تأثير المرأة في حياته أقوى وأعمق من تأثير الرجل. فقد كانت أستاذته أو شيخته امرأة تدعى فاطمة بنت ابن المثنّى القرطبية، خدمها وأقام معها… (الأنوثة في فكر ابن عربي – نزهة براضة، ص8.
***
وفكرة الولاية أو الكرامات عند النساء لا تقتصر في الوجدان الشعبي على نساء آل البيت فقط، بل تشمل كثيرًا من النساء الصالحات الزاهدات مثل رابعة العدوية، فاطمة النيسابورية، الحاجة زكية، الشيخة صباح، الست أم محسب… وغيرهن من النساء اللاتي كرّسن أنفسهن لإطعام الطعام أو لعبادة الله، حتى إن كثيرًا منهن نُسبت إليهن أساطير كثيرة لا نعلم مدى حقيقتها.
السيدة أم الغلام، على سبيل المثال، في الزقاق الضيق الممتد خلف مسجد الإمام الحسين، تفوح رائحة البخور القديمة من شباك حديدي صغير يعلوه اسم بسيط محفور على الرخام: “الست أم الغلام”. مقام متواضع لا يعرفه كثيرون، لكنه يظل حاضرًا في ذاكرة النساء اللواتي يقصدنه كل جمعة حاملات دعاءً خافتًا ودمعةً ساخنة.
***
تتعد الروايات حول سيرة السيدة “أم الغلام” تقول الرواية الشفوية التي تناقلها سكان الحي إن هذه المرأة الصالحة هي التي حملت الرأس الشريف للإمام الحسين من الشام إلى مصر، متخفية في زيّ أمٍّ تحمل طفلها، لتخفي الأمانة في حجرها حتى بلغت أرض القاهرة. ويقول أخرون أنها امرأة مسيحية اعتنقت الإسلام وافتدت رأس الحسين برأس ابنها لذلك سميت بابن الغلام، وبعد أن سلّمت السرّ المقدس لأوليائه، أسلمت روحها ودفنت بالقرب منه، فصار موضعها مقامًا تضيئه الشموع في ليالي المولد الحسيني.
ورغم غياب أيّ إشارة تاريخية مؤكدة لهذه الحكاية في كتب المؤرخين، فإنها لا تزال تتردد في الحسين كجزء من الإيمان الشعبي بالنساء الحافظات للسرّ؛ نساءٍ لا يحملن معجزات ولا نسبًا نبويًا، لكن يحملن الوداعة والوفاء.
في ذاكرة القاهرة، لا تُروى قصة الرأس الشريف دون أن تمرّ عبر امرأةٍ صامتة خبّأته بين ذراعيها، لتغدو “أم الغلام” إحدى الوجوه النسائية الخفية التي تربط بين الجسد المقدس بأرض مصر، بين التاريخ والأسطورة، بين دموع النساء وبركة الأولياء.
***
الأمر لا يعد قصة تاريخية انتهت في زمن معين، أو حتى أساطير الأقدمين، بل هو إيمان داخل الوجدان المصري مستمر بتقدير فكرة الولاية النسائية. تستمر الخدمات التي تقودها النساء، وتستمر الحكايات عن كراماتهن حتى الآن.
على بعد خطوات من مقام السيدة أم الغلام، تجد بابًا عتيقًا كأنه بوابة زمنية، تجلس خلفه الست أم حسين، التي تشبه أمي. لا أعرف كيف، لكنها تشبهها؛ ربما لأن كلتيهما ترتديان العباءات السوداء، وربما لأن كلتيهما تمتلكان حسًّا ساخرًا وعيونًا جميلة. خدمتها عبارة عن حوش كبير مهجور، فيه غرفتان وحمام، مساحته واسعة، وباب المكان عملاق يشبه أبواب بيوت القاهرة التاريخية، ممتلئ بالناس بين من يأكلون ومن ينامون، وأطفال يركضون في كل مكان. تجلس في الواجهة أمامها حلة كبيرة بها عدس تغرف منه للمساكين. قدماها مصبوغتان بالحناء وكذلك يداها. سمراء جميلة. كنا في صبحية المولد النبوي الشريف، لا تخاف شيئًا وتحكي بصراحة عن كل شيء، حتى عن مشاكل أولادها، وعن الكرامات التي كانت تمتلكها لكنها سُلبت منها حين أفشت السرّ. تقول ضاحكة:
“أنا مبخافش من حد، وبقول اللي فيا زي ما هو، أنا بحب سيدنا الحسين أكتر من أي حد ومبخافش…”
لكن السؤال الذي سنجاوبه في المقال القادم:
إذا كانت النساء يحملن الولاية ولهن كرامات يعترف بها الناس، فهل يُقبل أن يقدّمن العهد؟!
اقرأ أيضا:
بين التدين الشعبي وإحسان القرآن.. كيف يمكن إعادة ربط الجمال بـ«السيدة زينب»؟



