مولد «ابن سلام».. ذكرى صحابي يعيد الروح لقرية بمحافظة الدقهلية

لا أذكر كم كان عمري حين جاءتني أولى هدايا أحد أقاربي من كبار السن، وأظن الهدية كانت سيارة أو جرارا صغيرا، أحمر اللون، تماما كالذي كان وما يزال منتشرا في الريف. ولا أذكر كمَّ التهمت من الحلوى والحمص صغيرا وإلى وقت قريب.. ما أذكره أن كل ذلك كان مرتبطا بأيام محددة، متكررة كل عام، أيام مولد عبدالله بن سلام.
يقع الضريح في كفر الأمير (عبدالله بن سلام) بمدينة تمي الأمديد، محافظة الدقهلية. وفي شهر يوليو من كل عام، تتوالى الوفود من كل حدْب وصوْب لزيارة قبر السيد عبدالله بن سلام. كما كان الحال هذه الأيام من يوم 11 يوليو الماضي إلى الليلة الختامية يوم الخميس الماضي 17 يوليو.
مولد ابن سلام
أعداد غفيرة من المحبين والمشايخ والدراويش والمتصوفة والمنشدين والفقراء والمهمشين في الأرض. يأتون أفواجا من بلاد الله البعيدة والقريبة، للمشاركة في مولد ابن سلام.
وكان ابن سلام أحدَ كبار أحبار (علماء) اليهود- إن لم يكن أكبرَهم- في المدينة عند هجرة الرسول عليه السلام إليها. ويروى في قصة إسلامه أنه لما أتى الرسول عليه السلام ورآه، عرف أنه النبي المذكور في كتب اليهود، فآمن به واتبعه. وقد غير الرسول اسمه إلى عبد الله.
ونعرف أنه كان مؤمنا صادقا، وعالما كبيرا، ومفسرا لنصوص القرآن الكريم. إلى أن توفي وعمره لا يقل عن سبعين عاما، في أواخر خلافة عثمان بن عفان، ودفن في بقيع المدينة.

ضريح عبدالله بن سلام
بخلاف الشائع لدى عامة الناس في كفر الأمير وما جاورها، فهم لا يعرفون سوى أن ابن سلام مدفون في الضريح المذكور، ويروون في ذلك بعض القصص، كأنه يقال إنه سافر إلى مصر في أواخر أيامه واستقر بها، أو أن جثمانه انتقل إلى ال
ضريح الموجود في زمن لاحق، ونحو ذلك مما لا يثبته دليل ولا تقوم له حجة. ومن خلال معرفتي الشخصية بالوسط الصوفي، فإن خواص المتصوفة ومثقفيهم- ومن خلال مناقشة لبعضهم- يقرون بأن أغلب الأضرحة المبنية على غرار ضريح ابن سلام. وهي في حقيقة الأمر”مشاهد”، وليست قبورا.
وفي حديث أجريته أثناء زيارتي للمولد مع الشيخ مصطفى زايد، أحد الباحثين المختصين في الشأن الصوفي. أخبرني أن الضريح في الأصل كان لسيدة صالحة اسمها (الست حلوة). وكان الناس يزورونها باستمرار، إلى أن (شوهد) السيد عبدالله بن سلام في المكان، فقرر الناس يومئذ أن يبنوا له ضريحا هناك.
زوار مولد ابن سلام
بمرور الوقت، نسي أمر الست حلوة تماما أو كاد- والتي لا تزال قبة ضريحها موجودة بجوار الضريح-. وبقي ذكر ابن سلام ليحل محلها، وتقام له الموالد كل عام. ولا نعرف على وجه التحديد تاريخ بناء الضريح، ولا متى بدأ المولد حوله. غير أنه قديم إلى درجة أن الزوار الحاليين عرفوه عن طريق أجدادهم وأجداد آبائهم.
ويبدأ المولد يوم 11 يوليو، كما ذكرنا، لكن قبلها بأيام قليلة تكون التهيئة والاستعداد لأجواء المولد. يأتي تجار الحلوى والحمص من كل مكان، ليفترشوا الأرض أو ينصبَ كلٌّ منهم نصبته لبيع بضاعته.
ويأتي كذلك أصحاب الملاهي والمراجيح، والألعاب الكثيرة المختلفة الأشكال والألوان. وهناك من يبيع سبح الذكر، وكتب الأوراد والأذكار، وسجاجيد الصلاة، وبعض الآلات الموسيقية الصغيرة، كالطبلة والربابة.
ويأتي أتباع الطرق الصوفية – من رفاعية وشاذلية وخلوتية وغيرها- ويبدأون في تجهيز خيام “الخدمة”. وغالبا ما تجهَّزُ من أموالهم الخاصة، لاستقبال الوفود من أبناء القرية وما جاورها، بل من وجه بحري عامة ووجه قبلي أيضا. ويعدون لوازم “الحضرة”، وعلى رأسها الإنشاد. حتى تتهيأ ساحة المولد، التي تحيط بالمسجد والضريح من كل جانب، لتتسع للجميع: زوارا وتجارا وخدمات.
الحراك الاقتصادي للموالد
في مولد ابن سلام تتبدى ملامح أهميته والدور الذي يمثله في حياة أبناء القرية الخاملة الذكر. إذ لا يمكن بحال من الأحوال إغفال الحراك الاقتصادي الناتج عن إحياء المولد وإقامته. حيث تزدحم حركة المرور ووسائل النقل، من الصعيد ووجه بحري، بالمسافرين المتوجهين بالقطار وغيره نحو المنصورة. ومنها إلى موقف سندوب، ومنه إلى تمي الأمديد وكفر الأمير. لزيارة المولد من أجل البركة والخير. الذَيْن يُعتَقد أنهما يتحققان بزيارة هذا الولي أو الصحابي الجليل.
ولا يمكن إنكار حركة السوق التِّجارية “الموالِدِيَّة”، من بيع الحلوى والألعاب المحلية الصنع. وكذلك ما ينفقه القائمون على الخدمات من شاي وسكر وقهوة وغاز ومياه. وما يكلفهم إطعام الزوار من أرز وخبز ولحوم ونحو ذلك.
وهي الزاوية التي يَتجلى فيها أفضلُ ما تتحلى به الشخصية المصرية. ويَتزينُ به الشارع المصري، من صفات الكرم، والضيافة، وحسن الجوار، وإطعام الفقراء، والرفق بالمساكين، والشحاذين، والمجاذيب.

أبناء الطريقة الرفاعية
في خيمة أبناء الطريقة الرفاعية استقبلنا أهلها بحفاوة شديدة وكرم منقطع النظير. حيث جلسنا لنستريح ونشرب الشاي. ولما حان موعد الطعام. دعينا إليه جنبا إلى جنب مع بقية الزوار، وكان الطعام المقدم مكونا من أرز وخضار ولحم. وكما سمعت من أحد الطاعمين: “الأكل هنا له مذاق خاص، فيه بركة وخير”.
وعلمت مؤخرا من أحد القائمين على الخدمة أنهم حين يبدأون في طهي الطعام، يأتي شيخ الخدمة فيقرأ على الطعام الفاتحة والمعوذات بنية البركة والشفاء.
وتعتبر الخيمة أو “الخدمة” مكانا لضيافة واستقبال زوار ابن سلام. وتعتبر أيضا مأوى للزائرين من البسطاء والدراويش والمجاذيب. يأكلون ويشربون ويبيتون دون أن يضايقهم أحد، في صورة عظيمة من صور التضامن والتكافل الاجتماعي.
ضيوف عبدالله بن سلام
لهذه الظاهرة بعد ديني وصوفي لدى القائمين على “الخدمات” من أبناء القرية خاصة، وأبناء الطرق عامة. لأنهم يعتقدون أن الزوار هم في الحقيقة ضيوف السيد عبدالله بن سلام نفسه. فإكرامهم من إكرامه، والإحسان إليهم من الإحسان إليه.
وبعد أن انتهينا من الطعام، قمنا إلى “الحضرة”. حيث ينشد الشيخ عصام درويش القادم من أسيوط. يقف في وسط فرقته، وحوله يتحلق المريدون والدراويش، يتواجدون ويذكرون في تناغم وانسجام.

الحضرة والإنشاد
يبرز الجانب الثقافي الذي يدعمه المولد ويثريه في القرية، ويتمثل في “الحضرة” والإنشاد. اللذَيْن يحفظان كثيرا من مادة الموروث الشعبي والثقافة الصوفية المتجذرة في الشارع المصري.
ويتجلي ذلك بصورة أوضح في المنشدين الذين يأتون من أماكن مختلفة، بعيدة وقريبة. ليتغنوا بمديح الرسول عليه السلام، وآل بيته وصحابته. ويحيوا ليالي الموالد المختلفة في شتى أنحاء المحروسة. فيجتمع عصام درويش، الذي جاء من الصعيد. بنظيره المنشد فؤاد أبو علي، القادم من طنطا بمحافظة الغربية. ويتفاعل معهما المحبون من أبناء القرية والزوار، على اختلاف الثقافة والمشرب والذوق.
ويوضح ذلك عصام درويش فيقول: “المتلقي في أي مكان يسمعك بروحه، ويتذوق الكلام ويفهمه. سواء في وجه قبلي أو بحري”.
ومن خلال ما ذكرنا، نكتشف أن مولد ابن سلام يمثل القلب النابض لهذه القرية. إذ يبعث فيها الحياة، وينفخ فيها الروح، ويعود على أهلها بالنفع في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إلى جانب تعزيز الوازع الديني الصوفي في نفوس زوار ابن سلام.