معرض في باريس يعيد رسم صورة «كليوباترا» بعيدا عن روايات الغرب

تستمر فعاليات معرض «لغز كليوباترا»، في باريس حتى 11 يناير 2026، بتنظيم من معهد العالم العربي. ويهدف المعرض إلى تقديم قراءة جديدة لتاريخ الملكة كليوباترا السابعة، من خلال تصحيح المفاهيم الخاطئة والصور النمطية التي ارتبطت بها عبر القرون. لا يقتصر المعرض على عرض التماثيل واللوحات، بل يطرح سردية تاريخية وثقافية متكاملة، ترد على ما قدمته الأعمال الفنية الغربية، ومنها مسلسل شبكة «نتفليكس» الذي أثار جدلا واسعا عند عرضه قبل عامين.
لغز كليوباترا
ينظم المعرض بالتزامن مع مرور 2054 عامًا على وفاة الملكة كليوباترا (69 ق.م – 30 ق.م) آخر ملكات العصر البطلمي. ويعيد تسليط الضوء على شخصيتها باعتبارها واحدة من أكثر النساء تأثيرًا في التاريخ القديم. إذ واجهت التوسع الروماني، ولا تزال حتى اليوم رمزًا للقوة والذكاء السياسي.
ويبرز المعرض كيف أصبحت حياتها القصيرة – التي انتهت مأسويًا وهي في التاسعة والثلاثين – مصدر إلهام لا ينضب للأدب والفن والسينما. خاصة في ظل غياب سيرة ذاتية موثقة. وفي المقابل، تعرضت سيرتها الشخصية لتشويه مستمر. إذ اختزلت في علاقتها بيوليوس قيصر ومارك أنطونيوس، على حساب إنجازاتها السياسية والثقافية.
ولم تكن المحاولات المعاصرة بعيدة عن هذا التشويه. فقد أثار مسلسل “الملكة كليوباترا”، الذي عرضته شبكة نتفليكس عام 2023، جدلاً واسعًا. بسبب ما اعتبر تحريفًا للحقائق التاريخية، وهو ما يسلّط المعرض الضوء عليه. وبحسب ما ورد على الموقع الرسمي لمعهد العالم العربي: “يسعى معرض لغز كليوباترا إلى التمييز بين الحقيقة والأسطورة. عبر رحلة تربط بين الماضي البعيد والتمثيلات المعاصرة. حيث يتعاون العلم والفن لإعادة بناء صورة أكثر دقة وإنصافًا للملكة المصرية”.

التاريخ والأسطورة
صدر بالتزامن مع المعرض كتاب “لغز كليوباترا”، الذي نظرة على كيفية تحول حياة الملكة كليوباترا إلى أسطورة يحيطها الغموض.
يضم المعرض لوحات، ومنحوتات، ومطبوعات، ومخطوطات، وقطعا أثرية، ومجوهرات، وعملات معدنية، وأزياء، وعروضا بصرية، وصورا فوتوغرافية. من خلال مقتنيات متاحف متنوعة مثل متحف اللوفر، والمكتبة الوطنية، وقصر فرساي. بالإضافة إلى متاحف في فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وسويسرا.
وينقسم المعرض إلى موضوعين رئيسيين: “التاريخ” و”الأسطورة”، باستخدام أحدث الأبحاث التاريخية والأثرية. بهدف إعادة ترسيخ الحقائق عن الملكة كليوباترا السابعة، وفك رموز الظاهرة الثقافية المحيطة بها. في القسم الأول، تعرض آثار، ومجوهرات، ونقوش ومنحوتات، ونصوص دينية ترجع إلى عهد كليوباترا السابعة. ويحلل معهد العالم العربي المعلومات التي تناولها الغرب عنها. بالإضافة إلى ما كتبه مؤرخو العالم العربي.
ورصد المعهد التضاد في نظرة كل من الغرب والعالم العربي للملكة. وبحسب الموقع الرسمي: “هما روايتان مختلفتان تمامًا، لا تعبران عن الملكة بنفس الطريقة. من جهة تقدم كالملكة الفاتنة، ومن جهة أخرى، كامرأة مثقفة، ومهندسة معمارية عظيمة، وحامية لشعبها”.
رحلة مع وجوه مختلفة
يأخذ معرض “لغز كليوباترا” زواره في جولة عبر أربعة أقسام تسلط الضوء على حياة الملكة المصرية. في البداية، يستقبل الزائر تمثال درامي بعنوان “كليوباترا تحتضر واقفة” للفنان الفرنسي جان- باتيست جوي (من القرن السابع عشر). حيث يهيئ الجو العام لتجربة بصرية وسينوغرافية تروي وجوهًا متعددة للملكة الغامضة.
وفي القسم الثاني، ينتقل الزائر إلى عالم التمثيلات الفنية والأدبية التي حافظت على وهج كليوباترا. ومنها لوحة “موت كليوباترا” للفنان جان أندريه روكسينس (1874)، التي تجسد لحظة إنهاء حياتها بطريقة درامية مدهشة. أما القسم الثالث، فينقلنا إلى عالم السينما الذي أسهم في تحويل كليوباترا إلى رمز عالمي. بدءًا من فيلم قصير أخرجه جورج ميلييس عام 1899. مرورًا بإرث أيقوني مثل الفستان الفاخر الذي ارتدته إليزابيث تايلور في فيلم جوزيف إل مانكيفيتس “كليوباترا” (1963)، الذي رسّخ الصورة الهوليوودية للملكة.
ويختتم المعرض بأعمال لفنانين معاصرين يستلهمون شخصية كليوباترا ويعيدون تقديمها برؤية معاصرة. من أبرزها مجموعة من القطع الإعلانية المغطاة بكريستالات سواروفسكي. تدمج بين الفخامة الحديثة والرمزية التاريخية للملكة التي لا تزال تأسر الخيال حتى اليوم.

أنف كليوباترا.. رمز تاريخي
في إحدى قاعات معرض “لغز كليوباترا”، يعرض تركيب فني غريب: عشرات الأنوف تتدلى من السقف. يجاور هذا العمل الطريف عرض لعملات برونزية نادرة، تم سكها في الإسكندرية وقبرص. تُظهر ملامح كليوباترا بوجه ممدود، وجبهة مستديرة، وأنف بارز. وهو أحد أكثر ملامحها الجسدية إثارة للجدل.
وتعلق عالمة المصريات كريستيان زيجلر، المديرة الفخرية السابقة لقسم الآثار المصرية في متحف اللوفر: “لا نعرف الكثير عن شكل كليوباترا. هناك عدد قليل جدًا من الصور المؤكدة. ولا توجد تماثيل تحمل اسمها مباشرة، لكن بعضها ينسب إليها”.
ويعود التركيز على أنف كليوباترا إلى جانب أدبي أيضا. حيث كتب الفيلسوف بليز باسكال في “خواطره”: “أنف كليوباترا: لو كان أقصر، لتغير وجه الأرض بأكمله”. في إشارة رمزية إلى تأثير جمالها في مجريات التاريخ، خاصة في علاقتها بيوليوس قيصر ومارك أنطونيوس. ولا يكتفي المعرض بعرض الماضي، بل يتيح للزوار استخدام الذكاء الاصطناعي لتكوين صورة تخيلية لكليوباترا. وجاءت النتيجة: امرأة ذات ملامح آسرة تجمع بين الجاذبية والغموض.
جمال كليوباترا
لطالما ارتبط اسم الملكة كليوباترا بالجمال والإغواء. لكن الحقيقة، كما يكشفها المعرض، تبدو أكثر تعقيدًا من تلك الصورة النمطية. وبحسب موقع “سورتيرا باريس” الفرنسي. يرى كلود مولارد، القيّم العام للمعرض، أن “قصة جمال كليوباترا خيالية إلى حد كبير”. مؤكدا أنها لم تكن “المبتذلة” التي حاول الإمبراطور الروماني أغسطس أن يصورها بها لأسباب سياسية.
ويؤكد الأكاديمي كريستيان جورج شوينتزل أن التصورات القديمة حول كليوباترا تتراوح بين كونها “امرأة فاتنة” في أفضل الأحوال. و”شهوانية” في أسوأها. ويشير إلى أن بعض الروايات المتطرفة صورتها كمزاجية تنام مع عبيدها. ثم تأمر بقتلهم صباحًا، وهي صورة يصفها شوينتزل بأنها نتاج مبالغات متعمدة.
وفي أحد المعروضات، يظهر مصباح زيتي يحمل صورة مزعومة لكليوباترا وهي تجلس في وضع فاضح. غير أن شوينتزل يرى أن هذا المثال وغيره يمثل “انتقادا مبالغا فيه”. موضحًا أن معظم القصص التي نقلت عنها كتبها رجال في مجتمع روماني أبوي ومعاد للنساء.

كليوباترا أيقونة نسوية
يرجع تاريخ الترويج للملكة كليوباترا بهذه الصور النمطية والمتحيزة إلى القرن التاسع عشر. خلال موجة الهوس الغربي بالحضارة المصرية.
وبحسب موقع “توينتي مينتس” الفرنسي، فقد شكّلت أكثر من 220 عملًا فنيا منذ عام 1899- من أفلام ومسلسلات إلى محاكاة ساخرة- صورة واحدة نمطية للملكة المصرية. غالبا ما كانت مزيجا من الإغواء والغموض، على حساب حقيقتها كزعيمة سياسية بارعة.
ويقول شوينتزل: “كرست العديد من هذه الصور إساءات لكليوباترا. وأبعدتها عن هويتها الحقيقية كامرأة قوية وذات نفوذ. لم تُشوّه سمعتها كامرأة فقط. بل كممثلة عن كل النساء اللاتي امتلكن سلطة في عالم يرفض أن يرى المرأة في موقع القوة”.
اقرأ أيضا
حروب المجاز: هل كانت «كليوباترا» سمراء؟
مزاد فني لدعم «درب 1718» بعد هدم مقره: الفنانون يردّون الجميل
الراهب «تداوس أفامينا»: موقع «أبو مينا» عاد إلى الحياة.. وخطة لبناء متحف وفندق بالمنطقة