دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

«مسجد الفرّان».. الحارس الأمين على شاطئ البحر الأحمر

عندما تقف أمام «مسجد الفرّان»، يخيّل إليك أن حجارته وقطعه الخشبية العتيقة قد دبت فيها الروح، فتسجد ككائن حي ينبض بالحكمة والقدسية. يروي للأرض وللبحر قصة حياة خالدة على شاطئ القصير، شامخا بجوار البحر. كأنه جندي يحرس الحياة وذاكرة المكان.

تفتح بوابات المسجد على حكايات وقصص لا تنتهي. تتسع مع الزمن وتتجدد مع تعاقب الأيام. فهو أول مسجد أقيم على شواطئ البحر الأحمر، وأضحى نافذة روحية تطل على الأفق. وجسرا يربط الأرض بالسماء، والبحر بالإنسان، وذاكرة مفتوحة لكل زائر. لتبقى شاهدة على أن الإيمان حين يقترن بالمعمار يمنح للحجر روحًا، وللأمكنة حياة لا تزول.

نفحات روحانية وبدايات عمرانية

يروي المؤرخ طه حسين الجواهري، في كتابه عن تراث القصير، أن مسجد الفرن- أو كما يسميه الأهالي “مسجد الفرّان”- هو أقدم مساجد المدينة. إذ شيد في مطلع القرن الثامن عشر الميلادي، وتحديدًا عام 1704م. وارتبط تأسيسه بالشيخ إبراهيم خليل الفرّان القادم من ساحل الحجاز عبر طرق التجارة والحج. والذي غدا رمزًا روحانيًا يضيء ذاكرة المكان ويمنح المدينة أول خيط من نسيجها المعماري والديني.

ويذكر الجواهري في الجزء الثالث من كتابه “القصير في الوثائق العثمانية”، الذي يضم أكثر من سبعين وثيقة نادرة – بعضها مكتوب بالتركية- أن وثيقة حررها محمد عبد القادر الميقاتي تؤكد أن المسجد منسوب إلى الشيخ أحمد الفرّان لا إلى إبراهيم خليل. وأن الجهة القبلية تم تخصيصها لتكون ضريحًا له. وقد تم وقفها وفق أحكام الشريعة بحيث لا تُباع ولا تُوهب ولا تُورث.

من هو الشيخ الفرّان؟

يوضح الجواهري أن الوثائق لم تذكر الكثير عن الشيخ، غير أن أصوله تعود إلى الساحل الشرقي للبحر الأحمر (المملكة العربية السعودية حاليًا). وقد وفد إلى القصير بصحبة عدد من التجار من جنسيات متعددة خلال القرن الثامن عشر. إذ كانت المدينة آنذاك مركزًا تجاريا يجمع مختلف الجنسيات.

وتم دفن الشيخ في ساحة الشيخ عبد الغفار اليمني، ثم جدد المسجد لاحقًا. ولا تزال المئذنة القديمة قائمة خلف مئذنة حديثة. وعلى باب التقديم من الجهة البحرية نقش تاريخ الإنشاء. ولأن المسجد يطل مباشرة على البحر. فقد أدت مئذنته دورًا بارزًا كفنار لإرشاد السفن في القرون الماضية.

أما الواجهة الخشبية الواقعة فوق الباب الخلفي بجوار المئذنة القديمة فقد كتب عليها بخط بارز: “بسم الله الرحمن الرحيم، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار”. وهو نقش يعود إلى عام 1116هـ/1704م، في مستهل حكم السلطان العثماني أحمد الثالث (1703–1730م).

نقش تاريخي يكشف سرّ البدايات

يكشف النقش المثبّت على المئذنة القديمة ـ كما ورد في دراسة الدكتور محمود عبد العال حول مساجد البحر الأحمر ـ تاريخًا مؤرخًا لعام 1116هـ/ 1704م. لكن هذا التاريخ، في جوهره، لم يكن توثيقًا للحظة تأسيس المسجد. بل تخليدًا لذكرى دفن الشيخ الفرّان. ومن هنا تتبدى حقيقة أخرى: أن المسجد كان قائمًا قبل ذلك العام، أو شيّد متزامنًا مع رحيل الشيخ.

ويضيء الجواهري جانبًا آخر، موضحا أن موضع حوش الشيخ الفرّان كان في الجهة الغربية للمسجد. وأن المئذنة الحالية لا تعود إلى الأصل الأول. فالمئذنة القديمة، التي ظهرت في لوحات الحملة الفرنسية بقمتها المشابهة لـ”القلم الرصاص”، كانت من الطراز العثماني المشابه لمآذن القاهرة آنذاك. أما المئذنة القائمة اليوم فقد أنشئت في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وفق ما تؤكده المصادر التاريخية وما رصده الرحالة والمستشرقون.

المئذنة التي تحوّلت إلى فنار

يصف الدكتور محمود توني شعبان، في دراسته الأثرية “مسجد الفرّان بمدينة القصير – دراسة أثرية”، المئذنة القديمة للمسجد بوصفٍ يتجاوز حدود المعمار إلى رحابة الرمز. فهي لم تكن مجرد بناء شاهق، بل فنارًا يهدي السفن في عتمة البحر. ومعلَمًا يستدل به البحّارة على قرب المرسى.

شيدت بقاعدة مربعة متينة، يعلوها بدن أسطواني تحيطه شرف خشبية، وتنتهي بقبة صغيرة يتوجها هلال. بدت كأنها مصباح معلق بين السماء والبحر، وبفضل موقعها المطل مباشرة على الساحل تحولت إلى عين ساهرة تهدي المسافرين. ورمز روحي يجمع بين قدسية النداء وضياء الهداية. حتى غدت جزءًا من ذاكرة البحر الأحمر.

معبر الأرواح وقبلة القوافل

تشير دراسة الدكتور محمود التوني إلى أن مسجد الفرّان لم يكن مجرد موضع للصلاة. بل ملتقى للتجار والحجاج من مختلف الجنسيات، الذين اتخذوا من مدينة القصير محطة رئيسية على شاطئ البحر الأحمر.

وكما كانت القصير معبرًا للرحالة في طرق التجارة والحج، كان المسجد معبرًا للأرواح. يمنح السائرين سكينة تعينهم على مواصلة الطريق، ويمنحهم لحظة صفاء بين مشقة السفر ورحابة المقصد.

تجديد مع الحفاظ على الهوية

يروي الجوهري أن المسجد شهد عام 1980 عملية تجديد كبيرة، حضر افتتاحها وزير الأوقاف آنذاك الدكتور زكريا البري. واللواء عبد الحميد عثمان محافظ البحر الأحمر. شملت التجديدات إنشاء مئذنة جديدة عالية مع الإبقاء على المئذنة الأثرية القديمة. في محاولة لربط الحاضر بالماضي.

الحارس الأمين على الأرض والدين

يؤكد عادل عاش، مؤسس جمعية المحافظة على التراث بالقصير، أن مسجد الفرّان ظل شاهدًا حيًّا على هوية المدينة. لم يفقد دوره كرمز عمراني وروحي، بل بقي معلمًا أثريًا يتوسط القصير القديمة كذاكرة نابضة تفيض بالحكايات.

ويضيف: “لم يكن المسجد مجرد بناء شيد قبل أكثر من ثلاثة قرون. بل كان ذاكرة بحرية وروحية تحفظ عبور الحجاج، وتختزن حكايات البحارة، وتردد نداء المئذنة الذي تحول يومًا إلى فنار يرشد السفن. ومع مرور الزمن صار المسجد مزارًا ومقصدًا سياحيًا يتوافد إليه الزوار من مختلف بلدان العالم. ليستمعوا إلى تاريخه ويتأملوا عمارته”.

اقرأ أيضًا:

حكاية «مدينة سفاجا».. مناجم الفوسفات وصوت التاريخ العابر للأجيال

من «عين المجلاة» إلى «الكنداسة».. ذاكرة العطش والارتواء في سفاجا

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.