دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

لا أحد يخاف الصالة المطفأة

في صباي، صار الشغف بالفانوس السحري وصندوق الدنيا وكافة الأشياء المماثلة والمبهجة، نافذة إطلالتي على دنيا “الخيالة”. مفردة طالتني طويلاً في كتاب المطالعة وفي الإنشاء والبيان، حيث صارت لدي بمثابة مملكة الحواس، تسرني وتبعث في روحي النشوة والبهجة والمتعة، تبثني الخيال والرؤيا وتملأني بالسحر والدهشة. وقتها، شملتني غواية السينما، حيث الصالات والممرات ذات الدرج، أشبه بأروقة رحبة ألفتُ المضي إليها والافتنان بها، فيبهرني السكون والأضواء الخافتة بظلالها المترامية، ويستغرقني نفس الخفق، نفس الأطياف، نفس الوهج.

آنئذ، تلمستُ صالات السينما المجاورة لضاحيتي، حيث تكاثرت دور سينما الدرجة الثالثة “الترسو” التي ميزت عديد من الأحياء الشعبية. حيث خايلت عيني طويلاً الأفيشات البديعة والجذابة، أو لافتة “فيلمان في بروجرام واحد” وصور بعض مشاهد الأفلام الكائنة في لوحات زجاجية تتصدر جدران مداخل دور السينما.

***

سينما الحضرة، الحلمية، سينما ريڤيرا… تمضي صحبة الحي وفي هوجة، في مواقيت غير مرتبة ودون تجهز لذلك، ربما في العطلات، أيام الخميس والجمعة، نأتي بأردية البيت، الجلاليب، البيچامات، وربما السراويل، حفاة أو في أحذية فقيرة أو رثة. ننفق ما لدينا من قروش زهيدة لقاء تذكرة السينما، وكثيراً ما يقتحم الزحام في جسارة صاحب للظفر بكل التذاكر التي تخصنا جميعاً.

وأحياناً يأتي بعض من صحبة مسها يُسر نسبي بأرغفة الكبدة وقراطيس اللب والفاكهة الرديئة من العربات المتناثرة أمام دور السينما، ويحمل البعض زجاجات الخمر الرديء بولاناكي، زنتوس لنتقاسم ما لدينا خلال العرض في غبطة طفولية. وحينما يطال الصالة الإظلام قبل العرض، يتساءل البعض: “هو الفيلم اسمه ايه” أو “قصة أم مناظر”. وغالبا ما تسود مظاهر الصخب بين زمر الصبية في صالة السينما، تحديدا حينما تتعطل ماكينة العرض.

تمثل ذلك في تصاعد صفع المقاعد الخشبية مرورا بالسباب واللعنات، أو مشهد الاشتباك المتكرر مع “متفرج” يمارس الهوى مع عشيقته. حتى إثارة الشغب مع “متفرج” البلكون “البريمو” ظنا بأن هناك “سادة” تفوق الدهماء أمثالنا، فتشهد الصالة الأحذية الفقيرة الطائرة وما ماثلها من مخلفات الأطعمة التي حملناها معنا وكأن هناك فيلما آخر يجاور عرض الشاشة.

***

ربما ينقل لنا “صاحب” بالكاد يعرف القراءة “يفك الخط” ما يجري من أحداث في الفيلم الإفرنجي، نقلا حافلا بالأخطاء الفادحة، أو يروي وقائع لا صلة لها بواقع الأحداث. حيث كان الميل للأفلام الإفرنجية أكثر إمتاعا لنا، لذيوع مشاهد الأكشن والعنف والبطل الذي لا يموت “والولة وزميله” والمشاهد الجنسية والإغراء. حيث كان بعض الصبية يمضي إلى دورة المياه خلال العرض لممارسة العادة السرية، وعبر السينما الإفرنجية عرفنا جرتيا جاربو، ستيف ريفرز، راكيل وولش وآخرين من النجوم.

ويشخص أمامنا دوما “الأبلسية” دليل المتفرج، رجل يحمل كشافا، ودوما يتميز بالفظاظة والدهاء. يصَّفنا في المقاعد ويعَّين الموقع الأمثل للفرجة، وكأن السينما خاصته، أختص بمهمة “الجباية” “يجبي” قرشا، فيظفر “المتفرج” بالصفوف الخلفية، ودونه، قدرة الصفوف الأمامية.. ويخص من يدفع أكثر من العشاق بالعناية والحماية.

***

وفي الختام، نغادر الصالة المضاءة، نودع الفيلم الذي أضاعته ذاكرة البعض، وظل في ذاكرة آخرين، تصحبنا تعليقات الصحاب والتي دوماً ما تصطخب بمنازعات هزيلة، البعض يمتدح، وآخر يعلن تبرمه، فتصدر أصوات هاتفة “سينما أونطة.. هاتو فلوسنا” وفي الزحام، نصادف أكثر من وافد، وفد في انتظار حفلة أخرى واعدة وسؤال متكرر في محاولة لقنص وجهة نظر ما في الفيلم “رائع أم سيئ”.

ثم نمضي صحبة إلى سينما أخرى أو لنستكمل الشغب مع زمر أخرى في الأحياء المجاورة وكثيرا ما يعاود البعض مشاهدة ذات الفيلم مرات ومرات ولنعيد إنتاج طقسنا الجماعي ثانية.

***

في يفاعتي، وفي عنفوان العمر.. لم تعد الدنيا هي الدنيا.. تغيرت، وجرتُ حياة أخرى جديدة.. تحمل ذات النبض والومضة الأولى، تفرقت صحبة الصبا.. وعرفت صحبة أخرى، حيث خطوت نحو دنيا الآداب والفنون، وظل الميل للسينما واحد من هموم عديدة أيامها عرفت الكتاب، فألجأ إلى شارع النبي دانيال (شارع الكتب) وإلى المكتبات القديمة التي تحفل بكتب في شتى صنوف المعرفة وذات أسعار رخيصة.

مكتبة أخوان الصفا وخلان الوفا بشارع مسجد العطارين لصاحبها عم محمد المفتي وتدنو منها مكتبة الاستنارة والتي تميزت بالكتب الإفرنجية، مكتبة الأنوار بشارع البيرة بكامب شيزار لصاحبها أنور الجوهري، ومكتبة عم موريس بشارع سوق شيديا حيث تصدرت المكتبة لافتة “رأس الحكمة مخافة الله” وأمضى نحو كولومبيا هاوس للأسطوانات بشارع سعد زغلول حيث هويت سماع شرائط الكاسيت فقد برز ميلي للموسيقى العالمية مبكرا تشايكوفسكي، كارل أورف، شتراوس مرورا باليوناني أثيودراكس، وتناول تلك المقطوعات أيضا عبر موجة البرنامج الموسيقي بالراديو، ولا يفوتني أن أدنو من صالات المزادات بشارع فؤاد وضاحية العطارين لأتأمل عن كثب اللوحات الفنية المعلقة بجدرانها، فأغتبط بها.

***

وقتذاك، سعيت إلى ضواحي أخرى أكثر رقيا، فأعبر شارع أبو قير، نحو شارع بيلوز وشارع البيرة حيث تسكن شرائح كبيرة من الطبقة الوسطى وسكنها أيضاً بعض من اليونانيين والأرمن، فأعرف سينما لاجتيه لصاحبها جان فادوتسي وسينما أوديون ذات الطراز العريض لصاحبها أخوان أرسلاتيدس، واعرف متفرج آخر من تلك الشرائح الاجتماعية الوسطى، فتية وفتيات، رجال ونساء تلتهم “آيس كريم” جاربيس “الحلواني اليوناني”.. وتشاهد سينما مختلفة لعلامات السينما العالمية أنطونيوني، فليني، برجمان، كوستا جافرس وآخرين.. وقتها، كنت التهم أيضاً مجلة المسرح والسينما حيث طالعت العديد من السيناريوهات التي نشرتها المجلة.

لم تفارقني “محطة الرمل” المكان الأثير لدي في رحلتي إلى دنيا السينما حيث كان السعي إليها مشمولا بترتيب وتجهيز خاص ومذَّيل بتأنق تمتعت به آنذاك ومثَّل مسارا نوعيا آخر أيضا. حيث ارتدتُ سينما بلازا لصاحبتها ماري فيليبدس أراتيموس والهمبرا لصاحبها إيلي لطفي.

وتأسرني الحفلة الليلية “سواريه” في سينما رويال وريالتو مترو حيث شهدت “متفرج” متفرد ينتسب لشرائح اجتماعية عليا، سينما موسومة بحشد العائلات سادة وسيدات في أناقة مفرطة يؤكدها فضاء معبأ بعبق عطور راقية، وأزياء “وقصات شعر” آخر صيحة تعبر عن وجاهة اجتماعية.

***

طوقني هذا المشهد بنضارة عاملات التذاكر الفاتنات حيث كنا نحتفظ بالتذاكر طي كتبنا، وشملني سحر السينما، سينما جودار، ليلوش، سيدني بولاك، كوبريك ومأخوذاً بالنجوم اللامعة آنذاك أودري هيبورن، بلموندو، جين فوندا، آلان ديلون وآخرين..

كان ولابد من أفق آخر يكمل غرامي الأول بالسينما، فأنخرط في حلقات ومنتديات حرة اكترثت بالسينما، جماعة السينما في متحف الفنون الجميلة والجيزويت حيث قدمت تلك الجماعات تيارات وتجارب جديدة في السينما لم نعرفها من قبل، جاورها في ذلك المراكز الثقافية الأجنبية.. المركز الثقافي السوڤيتي ومعهد جوية مثالا.. وتبقى السينما هي الخيال الذي نسجته أجيال عديدة في كل العصور.

اقرأ أيضا:

«منامات» سيد درويش الآن

الأخيلة المهدرة

حين هبطت النساء السوق.. دائما

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.