دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

كشف أدبي جديد: «نور الظلام».. قصة يوسف إدريس الأولى

عاش يوسف إدريس يملأ الدنيا صخبا وضجيجا، فملأ الدنيا وشغل الناس عقودا طويلة بأفكاره الثائرة الجريئة وانفعالاته التي لم تهدأ يوما. وعلى الرغم من أن هذه المعارك العديدة أثرت سلبا -بلا شك- على إنتاجه الأدبي الفذ، لكنها أظهرت وجهه الآخر كناقد. ولا عجب أن يكتب يوسف إدريس مقالا مهما في جريدة “الجمهورية” عام 1967 بعنوان: “الكاتب عمله أن ينقد”.

وعلى مدى عقود طويلة، ظل النقاد يتابعون أعمال إدريس وآرائه النقدية حول قضايا عصره، والتي طالما اشتبك بسببها. وقد أجمع مؤرخو الأدب والنقاد على أن أول قصة قصيرة كتبها يوسف إدريس هي “أنشودة الغرباء” التي نشرت في مجلة القصة في مارس 1950.

الغريب أن مجلة الهلال عام 1977 أصدرت عددا خاصا عن فن القصة القصيرة. ونشرت فيه قصة “لعنة الجبل” لإدريس، والتي كانت قد نشرت في مجلة روزاليوسف في إبريل 1950، على أنها القصة الأولى له. وعندما سأل محرر المجلة إدريس عن أجره الذي تقاضاه عن أول عمله له. أجاب إدريس: “الأجر كان هو النشر نفسه”. فقد كان النشر في المجلات الأدبية الكبرى آنذاك بمثابة شهادة ميلاد وبطاقة مرور للشهرة بالنسبة للكتاب المبتدئين.

نور الظلام في روزاليوسف عام 1948

لكن المفاجأة تكمن في أن يوسف إدريس، الذي كان يوقع باسم “يوسف إدريس علي” في بداياته، نشر قصة قصيرة بعنوان “نور الظلام” في مجلة روزاليوسف بتاريخ 21 إبريل 1948، على  مساحة صفحتين كاملتين. وبذلك تصبح هذه القصة أولى كتابات إدريس. وربما أول ظهور لاسمه في الصحافة المصرية، متقدمة على “أنشودة الغرباء” بعامين كاملين، وكان وقتها طالبا بكلية الطب لا يتجاوز عمره 21 عاما.

ومن المفارقات اللافتة أن العدد الذي نشر قصة “نور الظلام” احتوى على مقال لإحسان عبدالقدوس، رئيس تحرير المجلة وقتها، بعنوان: “الجندي المجهول يطالب بإعلان اسمه”. وكان يقصد بالجندي المجهول الكتاب الناشئين، مدافعا عن حقهم في توقيع أعمالهم، بعد سنوات من معارضة بعض الصحف لكتابة أسماء الكتاب الجدد على إنتاجهم.

وكتب في ختام مقاله: “أصحاب الصحف إذا وجدوا كاتبا ناشئا يبشر بمستقبل. ليس من حقهم أن يمنعوه من التوقيع ولا من الأجر، ولكن من حقهم أن يوقعوا معه عقدا طويل الأمد حتى يستفيدوا منه المدة الكافية. لتعوضهم عن الفرصة التي منحوها له لينال الشهرة”.

مقال إحسان عبدالقدوس.. من أرشيف المحرر
مقال إحسان عبدالقدوس.. من أرشيف المحرر
مستقبل الشاب الواعد

كأن إحسان يقرأ المستقبل، مستقبل الشاب الواعد “يوسف إدريس علي” الذي نشر قصته الأولى في نفس العدد. وهكذا، كانت روزاليوسف الحاضنة الأولى لإبداع يوسف إدريس. فقد نشر فيها “نور الظلام” عام 1948، وبعد عامين عاد لينشر “لعنة الجبل”. وتوالى النشر حتى أصدرت السيدة فاطمة اليوسف أولى مجموعاته القصصية “أرخص ليالي” ضمن سلسلة الكتاب الذهبي عام 1954.

بل أصبح إدريس لاحقا مشرفا على باب الأدب بالمجلة، واحتضن بدوره العديد من الكتاب الشبان وقدمهم بروح سمحة. بل أنه كان يشتكي بالنيابة عن شباب الأدباء من قلة أماكن النشر، محاولا النشر لأكبر عدد منهم. ففي مارس 1965 كتب مقالا في جريدة الجمهورية بعنوان “ثروة قصصية” قال فيه:

“المشكلة التي تحيرني الآن هي ماذا أفعل بهذه الثروة المتواضعة من القصة القصيرة التي كتبت عليها أن تؤول، كتلة ضخمة، إلى درج من أدراج مكتبي. إلى الآن قد تعدت المائة قصة، وهي لكتاب معظمهم، إن لم يكن كلهم. لم ينشروا حرفا واحدا من قبل… أسماء قد لا تعلق بالذهن. ولكني أشهد أن إنتاجهم يضارع في رأيي، إن لم يكن أعظم من كتاب كبار ذوو أسماء مشهورة لامعة”.

وتحدث إدريس في مقاله عن إنتاج الشاب الواعد جمال أحمد الغيطاني وعن يحيى الطاهر عبدالله. وكان إدريس قد قدم يحيي الطاهر لأول مرة في مجلة الكاتب. وذكر أخاه أحمد إدريس الذي كتب قصصا عديدة لكنه كان يودعها لديه للقراءة فقط. مؤكدا على موهبته المتميزة في القصة، والتي لو جمعت في كتاب لكانت معرضا رائعا لإنتاج صادق وطازج.

قصة “نور الظلام”

تتحدث القصة عن رجل يعشق القراءة وله مكتبة يبيع من خلالها الكتب، لكنه يقرأ أكثر مما يبيع. يحاول أن ينتقل من مرحلة القراءة إلى الإبداع في الكتابة، فيجد شيء ما يمنعه من تدفق الكلمات على الورق، ويفسرها يوسف إدريس بصراع عقله الباطن مع عقله الواعي. وأن العقل الواعي يلجم أفكار عقله الباطن ويشل حركته. وعندما يصاب بطل القصة بالعمى ينطلق عقله الواعي بلا قيد وتنتفض العبقرية الحبيسة ويصبح بطل القصة كاتبا مشهورا، وعندما يعود إليه بصره مرة أخرى تنطفئ شعلة الإبداع وكأن الظلام الذي كان يعيش فيه البطل هو النور الذي أطلق موهبته وإبداعه.

بعد نشر هذه القصة في إبريل 1948، انقطع يوسف إدريس عن النشر لمدة عامين كاملين، حتى عاد عام 1950 بـ”أنشودة الغرباء” ثم “لعنة الجبل”. وربما حدث له ما حدث لبطل قصته، حيث أن العبقرية الحبيسة يلجمها عقله الواعي ويشل حركتها، فانتظر حتى انتصر عقله الباطن كما حدث في قصته.

وإلى نص القصة التي لم تنشر من قبل في أي من مجموعات إدريس القصصية:

نور الظلام

(في أحد الأحياء الهادئة المتواضعة كانت تنزوي مكتبة صغيرة، حشرت فيها الكتب حشرا في غير نظام. صاحبها غريب في طبعه، شاذ في عاداته وتقاليده. ما كان يهمه باع أم لم يبع، ربح أم خسر مادام قد انكفأ على أحد المجلدات التي تزخر بها مكتبته. والتي اشتراها ليقرأها أولا وبعد ذلك هو وحظه إن جاءه طارق بيع وإلا حشر مع غيره في المكتبة المتواضعة.

كان يعيش على ما يغله منزل ورثه عن أبيه، فلا جرم أن أغراه غرامه الشخصي الجامح بالقراءة أن يتخذ هذه المكتبة مركز له ومقرا، يقرأ فيها الكثير من أقانين الكتب: نثراً وشعرا، علماً وأدبا. لا تسأم عيناه أن تصافحا الأوراق والسطور ولا يرتوي ظمأه مهما تنهل من أسرار النفوس وفلسفة الوجود.

كان يقرأ فتختلط أفكاره بما جاء في الكتاب. ويختلط ما جاء في الكتاب بأفكاره، ويتألف منهما مزاج عجيب تشعر بقوة أثره في نفسه من هذه اللذة التي تشرق في أساريره إشراق الأضواء على صفحة محيط متلاطم الأمواج.

***

خمسة عشر عاما قضاها في قراءة دائمة واطلاع يتجدد، حتى تزاحمت في محيط عقله لآلئ الأدب وجواهر المعرفة. وكم كانت تأخذه الدهشة ويتولاه العجب حينما يمسك القلم .ويحاول أن ينقل بلغة السطور ما تبعث قراءته في خلده من مواكب الأفكار، فإذا بالقلم مجمد مكانه لا يريم. وقد يجاهد جمود يراعه لينضح الرحيق السيال في وجدانه فإذا به لا يغترف إلا من فقاقيع الزبد. وكان ذلك محور العجب في حياته. لكأنما كان يلقف الدرر الثمينة من بطون الكتب فيدفنها على عمق بعيد في هوة سحيقة! لكأنما يودع كنوزه بئراً لا قرار له. ثم يعود سائلا عنها فلا يجيبه غير الصدى ولا شيء سواه.

استمر يقرأ ويقرأ غير مبال بصحة ولا بجسد. حتى كان لا يعرف ليله من نهاره، ولا يوقد سراجه إلا حينما تختلط عليه الكلمات. وما تفيده معرفته الليل من النهار مادامت الكلمات مضيئة لناظريه فليس يعنيه تعاقب النور والظلام من حوله.

وذات يوم رأى نقطاً سوداء صغيرة تتراقص في الصفحات المبسوطة أمامه وكلما انتقل ببصره إلى مكان تبعثه إليه وعبثت ببصره. إن ضوء عينيه قد تخاذل أمام أضواء السنين وأضواء المصابيح. ولكنه لم يعبأ بالشبكة المظلمة. التي مضت حلقاتها تضيق وشيكا، حتى رأى الدنيا ذات يوم كتلة من السواد. وظل يصيح كالمخبول: النور النور أوقدوا الضوء، والشمس في كبد السماء ترسل الضياء الذي لم يعد يصل إلى عينيه. وقصد من فوره الطبيب معتمداً على ذراع ابن أخيه،.ولكن ما حيلة الطب وقد هم القضاء. عاد ومطارق الفاجعة تهوى فوق رأسه في دق عنيف تمايل لصداه ابن أخيه الذي كان يقوده.

***

وفي وسع كل امرئ أن يتصور وقع الصدمة وهول الكارثة على شخص يفقد البصر بعد أن كانت القراءة بالنسبة إليه سعادة العمر ومتعة الحياة. ولكنه وجد من ابن أخيه عينيه المفقودتين. كان يقرأ فيجد لما يسمع جرساً آخر وطعما يختلف كل الاختلاف عما كان بحسه حين يقرأ هو.

ومرة أخرى، طافت بذهنه مواكب الأفكار، فاندفع ليملأ على ابن أخيه وصفا لشعوره الحزين بفقد بصره. فهال ابن أخيه السيل الأخاذ من السحر والبيان والروعة ينساب من ثم عمه في انطلاقة. وانبهر بالدقة الفائقة في وصفه انتقال المرء إلى حياة الظلام وظلمة الحياة، بأسلوب أدب رفيع.

وحين أعاد على عمه ما كتب، كان هو أشد عجبا لها وإعجابا بها. وحملق في الظلام الرابض حوله كأنما يستشف مصدر إلهامه الجديد. يا عجبا: أهذه آراؤه وذاك أداؤه! أيمكن الصخر أن يتدفق بالماء الفرات؟ أجل، هكذا حدث!

***

لقد كان عبقريا، ولكن عبقريته كانت مدخرة من عقله الباطن، أما عقله الواعي فكان كجلمود صخر. كان يقرأ فينصب محصوله على موطن العبقرية فيه فيتعهده بالتنسيق والنقد والتفنيد بنشاط خيالي. ولكن عقله الواعي يمسك زمام أفكاره الناضجة فيمنعها من التوثب والانطلاق. واليوم شلت الفاجعة هذا المستبد العاتي فترة من الزمن كانت كافية لأن ينثر المحيط الحبيس جواهر الأدب ولآلئ المعرفة.

فوجئ الناس بهذا الأديب الذي لمع فجأة، وبغير انتظار وروع الكتاب والمؤلفون من هذا المنافس الخطر الذي ظهر لهم في عرض الطريق كمارد جبار يضرب بقلمه في كل واد يعمهون في ظلماته. المسرحيات التي جعلت الناس تسخر مما كانوا يشهدون من حثالة قبع مؤلفوها في انتظار الغروب. وتلك القصص التي حيرت الألباب وولجت ما لم يلجه عباقرة الفن من أبواب، وهذه الفلسفة التي هدمت كثيرا من المفكرين. وأنشأت مدرسة فكرية ضمت العدد الضخم من الداعين والأنصار والتي كانت تعتمد على آراء وأفكار محصت تمحيصا منطقيا رائعا. لمن هذه الأمجاد الفذة؟ إنها لأديبنا الضرير.

***

كان البركان الذي فيه يتسعر، ويتشوق إلى الوقت المناسب ليلقى بما في أعماقه من حمم تتأجج بحرارة الفكر وتلمع بنور العرفان. وكان جما في نشاطه، غزيرا في إنتاجه، حتى صار اسمه على كل لسان. وما كنت تتصفح مجلة أو جريدة إلا وقع بصرك على تحليل لكتاب أو تقديم لجديد أو حديث استطاع مخبر نشيط أن يفوز به من الكاتب الكبير.

سارت الباخرة في البحر الأبيض، تحمل الكاتب الكبير، وقد غرق في بحر من تأملاته. كان يفكر في أمله الضخم الذي يعبر في سبيله البحار إلى الخارج. الأمل الذي يحلم به أبناء الظلام في اليقظة والمنام وهو أن يرتد إليه نور بصره. وكان يحاول أن يعبر ذلك الحاجز الذي يفصل بينه وبين المستقبل فيرى مستقبله الأدبي الزاهر حين يبصر أنه سيغذى أدبه الحي بصور ومجال تراها عيناه. وسيصوغ من جمال الوجود أناشيد، وسيزين سطور كتبه بألوان الحياة من أضواء وظلال.

إنه هز الدنيا إعجابا وهو ضرير، فكيف به حين يعود وهو بصيرا؟

***

لم تكن العملية بالصعوبة التي تخيلها، لا سيما على أيدي الأطباء المهرة. وبعد خمسة عشر يوما، رفع طبيبه الضمادة عن عينيه وأمره أن يفتحهما ولكنه لم يشأ أن تصدمه الحقيقة المرة دفعة واحده. فحرك جفنيه قليلا، وكأنه يشد حبل ستار هائل يفصله عن مسرح العالم.

ولكن، تسلل النور الحبيب إلى عينيه، وقع كوقع الماء الزلال وهو ينسكب من فم تشققت جدرانه من الظمأ. وفي وسع كل امرئ أن يتصور الفرح الغامر الذي شعر به. لقد راح يحدق في كل شيء تلقفه عيناه وينظر إلى العالم وكأنه في حلم سعيد.

مرة ثالثة طافت بذهنه مواكب الأفكار، وأمسك بقلمه ليملأه شعور يعقوب حين تفتحت عيناه على قميص يوسف. ولكن ما للقلم يجمد في مكانه لا يريم؟ وماله بعد أن جاهد جمود يراعه لينضح الرحيق السيال في وجدانه. لا يغترف إلا من فقاقيع الزبد؟

أين البيان العذب؟ أين الأدب؟ وأين مجد الأمس من خيبته؟

***

لقد عادت الدرر إلى مدفنها من أعماق المحيط، وهوت الكنوز إلى البئر الذي لا قرار له. ووضع العقل الواعي الأغلال من جديد في يد العقل الباطن، وخمد البركان.

وقف صاحبنا في شرفة الباخرة العائدة إلى أرض الوطن. وحينما لمست الباخرة ميناء الثغر، اندفعت صوبه جمهرة من الناس، تبين فيهم مستقبليه من الأصدقاء ورجال الأدب والصحافة. وهم يتسابقون إليه مهنئين. وحينئذ غاصت عيناه، وابتسم لهم خلال غلالة رقيقة من دموعه. وقد أيقن أن مجده الماضي لم يكن إلا حلما وانقضى، وأنه فتح عينيه على النور حقا. ولكن ليبصر عبقريته تتوارى في الظلام الذي خرج منه).

                                                                                                    يوسف إدريس علي

اقرأ أيضا:

«فؤاد حداد».. قصيدة لم تنته بعد

معركة قديمة تُبقي «فؤاد حداد» بعيدا عن الأوساط الأكاديمية

أمين حداد في ندوة “البشر والحجر”: هكذا أثرت القاهرة على أشعار فؤاد حداد

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.