دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

قيادة النساء في الخدمات الصوفية: الإطعام بوابة الروح والمجتمع(4-5)

رأيت ذكوراً في إناثٍ سواحرِ

تراءين لي ما بين سلع وحاجر

فخاطبت ذاكرنا لأني رأيتهم

رجالاً بكشف صادق متواتر

وكن إناثاً قد حملن حقائقاً

من الروح إلقاء السورة غافر

وَبَعْلُهُمُ الروحُ الذي قد ذكرتُهُ

وإنهم ما بين ناه وآمر

-ابن عربي.

حين كنتُ طفلةً أتابع العالم بعين الفضول ـ هذا الذي استمرّ معي ولم يكن مجرد عارض طفولة ـ كنتُ أقف عند موائد الطعام التي تُقدَّم لملايين الناس في جميع محافظات مصر، ناهيك عن كراتين رمضان وباقي التوزيعات والعطايا خلال الشهر الكريم. كنتُ أسأل: أين يذهب هؤلاء الفقراء باقي شهور السنة؟ أين يأكلون؟ وكيف يظلون على قيد الحياة؟ ترى ألقمةُ رمضان تلك هي التي تُبقيهم على قيد الحياة طوال العام؟! هل هي بركة رمضان؟ أم تأثير الكرم والعطاء؟!

بعد سنواتٍ عدّة وجدتُ الإجابة على أسئلتي وتصوراتي الساذجة عند مقامات آل البيت وأولياء الله الصالحين، في أوقات الموالد الموزعة على مدار العام من بعد شهر رمضان وحتى رمضان الذي يليه، بدءًا بمولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي غير أيام الموالد تملأ الخدماتُ الدائمة مصر كلها؛ خدمات تقدّم الطعام على مدار اليوم، ثلاث وجبات رئيسية وربما أكثر، خلاف الشاي والقهوة وباقي المشروبات، وفي كثير من الأحيان مكان للمبيت لزوار آل البيت من المحافظات الأخرى.

على سبيل المثال، تظهر حميثرا كخدمة صوفية كبيرة في موعد مولد سيدي أبي الحسن الشاذلي، حيث امتلأت الصحراء حول المقام بعدد كبير تجاوز المئة وربما أكثر بخدمات صوفية لإطعام الطعام واستضافة الزوار من محبّي آل البيت وسيدي أبي الحسن الشاذلي. ربما تكون أهم خدمة من هذه الخدمات هي خدمة الحاجة زكية بنت عبد المطلب، التي بدأت رحلتها في الإطعام بخدمتها الموجودة إلى الآن في حي سيدنا الحسين، وبه شاهد رمزي لها، حيث ارتحلت إلى حميثرا وأسست خدمتها هناك، حيث لم يكن وقتها تقريبًا إلا خدمة واحدة ربما، وقادت هذه الخدمة ببسالة لخدمة ملايين من زوار سيدي أبي الحسن الشاذلي.

المدخل التاريخي: الإطعام كفعل صوفي وروحي

في الصوفية، لم يكن تقديم الطعام مجرد فعل مادي أو واجب اجتماعي، بل كان جزءًا من الممارسة الروحية ومفتاحًا لتجربة القداسة. يُروى أن قوله تعالى: «ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا» الآية 8 من سورة الإنسان، نزلت في سيدنا علي بن أبي طالب وفي السيدة فاطمة الزهراء. قال عطاء عن ابن عباس: وذلك أن علي بن أبي طالب نَوْبةً أجر نفسه يسقي نخلاً بشيء من شعير ليلة حتى أصبح، وقبض الشعير وطحن ثلثه، فجعلوا منه شيئًا ليأكلوه، يقال له: الخزيرة، فلما تم إنضاجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام، ثم عملوا الثلث الثاني، فلما تم إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه، ثم عملوا الثلث الباقي، فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين فأطعموه، وطووا يومهم ذلك، فأنزلت فيه هذه الآيات.

وهكذا اعتبر الأولياءُ الإطعامَ وسيلة لتقريب القلوب من الله، ولتجسيد قيم الرحمة والتواضع، فكانت المائدة الصوفية مساحة يلتقي فيها الفقراء والمريدون والزوار على حد سواء، حيث يصبح الطعام ليس مجرد غذاء للجسد، بل غذاءً للروح والتواصل الإنساني.

الخدمات الصوفية: عمود الممارسة الروحية والمجتمعية

الخدمات الصوفية، سواء قادها رجال أو نساء، تمثّل الجانب العملي للحياة الروحية في الصوفية الشعبية. فهي ليست مجرد طقوس أو عبادات، بل شبكة معقدة من النشاط الاجتماعي والاقتصادي والروحي، تهدف إلى دعم المريدين والفقراء وتعزيز التماسك المجتمعي. كل زاوية، وكل دُور صوفي، يصبح مركزًا حيًا يتحول فيه العطاء اليومي إلى ممارسة روحية متكاملة.

من أبرز هذه الخدمات: الإطعام، والتعليم، والتوجيه الروحي، وتنظيم الاحتفالات الدينية. الإطعام، على سبيل المثال، ليس مجرد تقديم وجبات، بل رمز للكرم والتكافل الاجتماعي. الرجال والنساء الذين يتولون هذه الخدمة يديرون الموارد المالية والمادية، ويخططون لتوزيع الطعام بعد تقدير احتياجات المستفيدين، مع الحرص على تجسيد قيم الرحمة والتواضع التي تمثل قلب الصوفية.

***

إضافة إلى الإطعام، تقدّم الخدمات الصوفية مساحات تعليمية وروحية. المريدون يجدون في الزوايا والدور الصوفية تعليمًا مستمرًا في مبادئ التصوف والسلوك الروحي، مع مراعاة نقل خبرات الحياة اليومية التي تعكس قيم التعاون والصبر والاحترام المتبادل. المسؤولون عن هذه الخدمات، سواء رجال أو نساء، يصبحون قدوةً عملية في كيفية إدارة هذه الموارد بطريقة تحقق العدالة والتكافل.

من ناحية اقتصادية، تُعتبر الخدمات الصوفية شبكة دعم مستدامة؛ فهي توزّع الموارد على المجتمع المحلي، وتخلق فرص عمل، وتدعم الفئات الأكثر ضعفًا، وهو ما يعزز الاستقرار الاجتماعي ويقوّي العلاقات بين مختلف فئات المجتمع. هذه الممارسة اليومية تجعل من الخدمة الصوفية حلقة وصل بين الروحانية والواقع المادي، حيث يندمج العطاء الروحي مع المسؤولية الاجتماعية.

القيادة النسائية داخل الخدمات الصوفية

عندما تقود الخدمات الصوفية نساء، كما هو الحال في كثير من الممارسات الشعبية، يضيف ذلك بُعدًا قياديًا ومجتمعيًا جديدًا. بينما تضيف قيادتها من قبل الرجال عنصر الاستمرارية التاريخية والحضور الرمزي للولي أو الشيخ، فإن كلا النوعين من القيادة يضمن استمرارية الحياة الصوفية وممارستها اليومية، مع تركيز على القيم الأساسية: الرحمة، العطاء، والعدالة الاجتماعية.

باختصار، الخدمات الصوفية هي العمود الفقري للممارسة الصوفية الشعبية. هي التي تجعل الروحانية ملموسة في الحياة اليومية، وتُظهر كيف يمكن للعطاء والإدارة أن يتحولا إلى تجربة اجتماعية وروحية متكاملة. سواء كانت القيادة نسائية أو رجالية، فإن هذه الخدمات تثبت أن الصوفية ليست مجرد عبادة فردية، بل مشروع مجتمعي متكامل يجعل من كل زاوية صوفية مركزًا للكرم، والتعلم، والتواصل الإنساني.

***

النساء تاريخيًا لعبن دورًا حيويًا في هذه الممارسة. فقد كنّ يدِرن تنظيم الأطعمة، من شراء وتجهيز المواد إلى توزيعها على المستحقين، مع مراعاة قواعد التواضع والكرم التي يشدد عليها التصوف. وهكذا أصبح الإطعام علامة على القيادة النسائية في الممارسات الصوفية، يعكس مهارات الإدارة والحنكة الاجتماعية، بجانب الأبعاد الروحية التي تمنح الفعل صفة قدسية.

يمكن القول إن علاقة الإطعام بالصوفية تتجاوز حد الغذاء المادي، لتصبح رمزًا للعطاء غير المشروط، وفضاءً تتجلى فيه القداسة اليومية. هذا الفعل البسيط، المتكرر، يعكس فلسفة الصوفية في العمل الروحي من خلال الخدمة العملية للمجتمع، وهو ما يمهد الطريق لفهم الدور القيادي للنساء في هذا المجال.

قيادة النساء للخدمات الصوفية: الإطعام كعمل اقتصادي واجتماعي

خدمات الإطعام في الصوفية ليست مجرد طقس روحي، بل هي شبكة دعم اقتصادي واجتماعي حيّة؛ فالنساء اللواتي يتولين تنظيم المائدة الصوفية يقمن بأدوار إدارية ومالية واجتماعية متكاملة: شراء الطعام، تنظيم المخازن، ترتيب المواعيد، وتوزيع الوجبات على المستحقين من مريدين وفقراء وزوار. بهذه الطريقة تتحول كل زاوية أو دُور صوفي إلى خلية اقتصادية صغيرة تدير الموارد بحكمة، وتضمن استمرار النشاط الروحي والمجتمعي في الوقت نفسه.

قيادة النساء لهذه الخدمات ليست مجرد وظيفة تنفيذية، بل دور قيادي استراتيجي، إذ تتطلب القرارات المتعلقة بالتمويل واللوجستيات وتحديد أولويات المستفيدين معرفة دقيقة بحاجات المجتمع المحلي وقدرة على تنظيم العمل بكفاءة. هنا تتجلى القوة الاقتصادية والاجتماعية للإطعام الصوفي: فهو يخلق شبكة أمان اجتماعي للفقراء، ويعزز العلاقات المجتمعية بين مختلف فئات المجتمع، ويمنح النساء مساحة للنفوذ والقيادة في مجال تقليدي يُنظر إليه غالبًا على أنه حكر على الرجال.

في السياق الشعبي، كثيرًا ما يُنظر إلى المائدة الصوفية كرمز للكرم والتكافل الاجتماعي. ومن خلال إدارة النساء لهذه المائدة، يتم تأسيس قاعدة اقتصادية مستدامة تضمن استمرارية النشاط الصوفي، وتُعطي المرأة فرصة للمشاركة في صنع القرار الروحي والاجتماعي، ما يجعل من خدمات الإطعام عنصرًا محوريًا في تعزيز مكانة النساء في الحقل الصوفي.

القيادة النسائية في الممارسة الميدانية

تمتلئ القاهرة وحتى باقي محافظات مصر بخدمات صوفية قادتها نساء باسلات، لكنني أذكر هنا القاهرة لأنني على دراية أكثر بالخدمات الموجودة بها، حيث إنني أعيش فيها. لكن تظل واحدة من أقرب الخدمات إلى قلبي خدمة الحاجة “أم محسب”، التي تُكمل المسيرة بعدها ابنتها إلى يومنا هذا، الحاجة نهلة.

بدأت علاقتي بالحجة نهلة قبل أن ألتقيها بسنوات. كنتُ أعبر مع أسرتي طريق صلاح سالم، تستوقفني دائمًا قبة جميلة، تثير في داخلي رغبة غامضة في الدخول إليها ومعرفة سرّها. بعد سنوات، التقيت نهلة لأول مرة مع بعض أساتذتي، وحين دخلت خدمتها شعرت بشجن غريب وبكيت من دون سبب واضح. استقبلتني بحميمية غير مألوفة، ومع الوقت أصبحت زياراتي لها معتادة.

في أحد الأيام، ونحن نأكل البطيخ في الحوش، قالت لي: “الوضع اتغير عن زمان… من خمس ست سنين الموضوع كان مختلف”. فقاطعها أحد الجالسين وقتها: “إزاي؟! حنين ساعتها مكنتش في مصر!” فتبادلت مع الحاجة نهلة نظرة طويلة تحمل ما لا يُقال، ولم نعد نفتح الموضوع.

***

أقنعتُ الحاجة نهلة بصعوبة بتسجيل حكايتها، لكن بعد أن سجلتُ معها لأول مرة في ديسمبر 2022 تعطّل هاتفي واختفت التسجيلات. ضحكت وقالت: “يبقى مكنش في إذن”. لاحقًا فقط وافقت أن نسجل من جديد.

الحاجة نهلة سمراء رقيقة الملامح لكنها قوية الحضور، تدير بيت وحوش أحمد باشا حسنين بيد من حديد، وهو المكان الذي ورثته عن أمها لتكمل رسالتها. تعيش هناك مع زوجها وابنتها، ويشاركها ابنها حسين خدمة المساكين.

القبة التي أسرتني لسنوات هي قبة أحمد باشا حسنين، رئيس الديوان الملكي السابق، المعروف بإطعام الفقراء وكراماته. كانت نهلة تقول إن من يخدم مقامه “يحصل له خير”، وإنه مات مظلومًا، ووجدوا خزنته فارغة لأنه كان يوزع ماله على المحتاجين. حين بحثت عنه اكتشفت أنه كان أيضًا كاتبًا ورحالة.

تجربة الخدمات الصوفية عميقة وثرية، لا يمكن أن نلخصها في مقال واحد، لأن التحديات التي يوجهنها ليست بالهينة، لكن هذه التجربة اليومية تكشف عن البعد القيادي للنساء، إذ يتخطى دورهن حدود المطبخ، ليشمل إدارة الموارد، وتنظيم الطاقات البشرية، والتخطيط اللوجستي. وفي كثير من الأحيان تُظهر النساء قدرة فائقة على مواجهة الأزمات، مثل نقص التمويل أو زيادة أعداد المستفيدين، بما يحافظ على استمرارية الممارسة الصوفية دون المساس بروحها.

من خلال هذه القيادة تصبح المائدة الصوفية فضاءً للتعليم الروحي والاجتماعي في آن واحد؛ فالمريدون يتعلمون قيم الكرم والتواضع، بينما المجتمع المحيط يشهد نموذجًا للمرأة القادرة على الإدارة والتأثير الاجتماعي. وهكذا تتحول الممارسة اليومية للإطعام إلى تجربة قيادية متكاملة تعكس تداخل العمل الروحي بالاقتصادي والاجتماعي.

الست الولية والقيادة النسائية في الصوفية الشعبية

تجربة النساء في إدارة خدمات الإطعام الصوفية تكشف عن بُعد معمّق لدور المرأة في التراث الشعبي والديني؛ فهي ليست مجرد مساهمة في العمل الروحي، بل قيادة عملية واجتماعية وروحية متكاملة. من خلال تنظيم الموارد، وتوزيع الطعام، ومواجهة التحديات اليومية، تظهر النساء كعنصر محوري في استمرار الزوايا والدور الصوفية، وكمثال حي على كيفية إعادة إنتاج القيم الصوفية في الحياة اليومية.

في المقال القادم نعرض حكايات من صاحبات الخدمات أنفسهن لنختم هذه السلسلة بحكايات واقعية من النساء اللاتي يحملن السر.

اقرأ أيضا:

الست الإمام: إمامة المرأة في التصوف بين التحقق الروحي والقيادة الباطنية(3-5)

نساء في حضرة البركة: «الست الولية.. حين تحمل النساء سرّ الولاية» (1-5)

الست التي تُعطي العهد: عن النساء اللائي ورثن السر الصوفي (2-5)

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.