قضية آثار الأقصر تُعيد الجدل: مّن يملك الكلمة الفصل في التمييز بين الأصيل والمزوَّر؟

في مطلع مايو الماضي، طوت محكمة جنايات الأقصر صفحة واحدة من أخطر قضايا الاتجار بالآثار في مصر، بإصدار حكم بالسجن 15 عاماً على أربعة متهمين، من بينهم ثلاثة موظفين بالوحدة الأثرية بمطار الأقصر الدولي، ونحات متخصص في المنحوتات الفرعونية.
جاء الحكم عقب ضبط سيارة ملاكي بداخلها قطعتان أثريتان، أحدهما تمثال لرجل جالس من الحجر، والأخرى وجه للإلهة “حتحور” إلهة الجمال والحب في مصر القديمة، إلى جانب طرد على تروسيكل يحتوي على قطعة حجرية على شكل أسد تزن 150 كيلوجراماً. لم تكن القضية مجرد واقعة تهريب آثار، بل فتحت الباب على مصراعيه أمام أسئلة أكثر عمقًا: من يحرس بوابات التاريخ؟ ومن يميّز الزيف من الحقيقة؟
قضية أخرى… وذات الارتباك
في سبتمبر 2018، وصلت شحنة مكوّنة من خمس قطع حجرية إلى مطار الأقصر، متجهة إلى الكويت. فحصها المفتشون، وقرروا أنها قطع مقلدة. غير أن سلطات الجمارك في مطار الكويت قررت التحفّظ على الطرد، وبعد فحص دقيق أعلنت أن أربعًا من القطع أثرية.
القضية، التي عرفت إعلاميًا بـ”آثار الكويت”، كشفت عن تضارب كبير في التقارير الفنية بين الجهات المصرية والخليجية. ففي حين أصدرت لجان مصرية لاحقة تقريرًا يؤكد أن القطع “مقلدة”، أصرّت لجان دولية وخبراء آثار كويتيون على أنها “أصلية”.

بين الأصيل والمزوَّر… من يملك الكلمة الفصل؟
هاتان القضيتان أعادتا طرح معضلة جوهرية: كيف يمكن لمفتش الآثار، تحت ضغط الوقت وقلة الموارد، أن يحدد ما إذا كانت القطعة أمامه أصلية أم لا؟
بحسب مصدر مسؤول الوحدات الأثرية بالمطارات، فإن تكنولوجيا تزوير القطع الأثرية شهدت تطورًا مذهلًا. إذ يستخدم المزيفون حجارة أصلية تعود للعصور القديمة، ويعالجونها كيميائيًا لتبدو كأنها خرجت للتو من مقبرة فرعونية حقيقية.
لكن الأزمة الأعمق تكمن في بنية العمل داخل الوحدات الأثرية بالمطارات. هذه الوحدات، التي أنشئت عام 1983 لحماية التراث، أصبحت اليوم تعمل كـ”جهة استدعاء” فقط، لا تتحرك إلا بإشعار من سلطات الأمن، ولا تمتلك أدوات فنية أو أجهزة حديثة تؤهلها لاتخاذ قرارات دقيقة في لحظات.
القرنة: مسرح الجدل بين الفن والتزوير
غرب الأقصر، تقع قرية القرنة، المعروفة بورشها التي تنتج المنحوتات الفرعونية، الأصلية والمقلدة. مئات الحرفيين يمارسون مهنة توارثوها عبر الأجيال، بعضهم فنان بالفطرة، وبعضهم يبدع تماثيل لا يمكن التفريق بينها وبين الأصل إلا من خلال عين خبيرة للغاية.
النحات سيد المطعني، أحد أشهر وأقدم النحاتين، لا ينكر براعته في نحت تماثيل فرعونية “تخدع حتى أعين المفتشين”، لكنه يقول إنه يتعمّد ترك علامات صغيرة على كل قطعة، ليكشف لمن يُجيد الفحص أنها مقلدة. ويضيف: “أنا لا أزوّر… أنا فنان. وإن لم أُتقن عملي، فما قيمته؟”.
أما أشرف العمدة، صاحب أحد أكبر مصانع المنحوتات في القرنة، فيشدد على أن مسؤولية التمييز بين الزائف والأصيل ليست من مهام النحات، بل المفتش، الذي يُفترض أن يملك التدريب الكافي لكشف التفاصيل الدقيقة. “التناسب، ملامح الوجه، أبعاد الرأس… كل هذه لا تُقلد بسهولة، لكنها تحتاج إلى عين خبيرة، ووقت، وأمان قانوني”.

مفتشون تحت الضغط… والخوف من السجن
العمل في الوحدات الأثرية بات محفوفًا بالمخاطر. فرغم الرواتب المجزية نسبيًا، يتردد الكثير من المفتشين الشباب في الالتحاق بها، خشية الوقوع في خطأ يكلّفهم حريتهم.
ففي معظم الحالات، يطلب من المفتش اتخاذ قرار مصيري خلال دقائق، دون أجهزة تحليل دقيقة أو مرجعيات ثابتة، بينما يلاحقه شبح الاتهام بالإهمال أو التواطؤ.
يقول أحد المفتشين – رفض ذكر اسمه- إنهم يعملون في ظروف أقرب إلى “فخ قانوني”، إذ يُحمّلون مسؤولية قرارات يصعب حسمها حتى داخل المعامل المتخصصة.
التزييف والتزوير.. وجهان لعملة واحدة
من جانبه، قال الدكتور محمود سيد قرني، أستاذ الترميم بكلية الآثار بجامعة الأقصر، إن موضوع التزييف أو تزوير القطع الأثرية يعد من الموضوعات الشائكة والمعقدة. في البداية، لا بد من التفرقة بين مفهومي التزييف والتزوير.
فالتزييف يعني أن تكون القطعة مزيفة بالكامل، أي أنها قطعة حجرية حديثة تم نحتها كليًا لتبدو وكأنها تمثال لرمسيس الثاني أو لسيتي الأول أو لأي شخصية فرعونية أخرى. وهذا يُعد تزييفا.
أما التزوير، فيتمثل في أن تأتي بلوحة أصلية تعود مثلًا للعصر اليوناني الروماني، وتبدأ في نقش اسم أو خرطوش عليها لتوحي بأنها تعود لعصر الدولة القديمة أو الوسطى أو الحديثة. في هذه الحالة، يعد ذلك تزويرًا، لأنه تغير جزئي في الأصل الأثري بهدف تقديم معلومة مغلوطة. بالتالي، فالتزوير هو تعديل بسيط في القطعة الأصلية لتضليل بشأن حقيقتها، أما التزييف، فيكون عندما تكون القطعة كلها غير أصلية من الأساس.

التكنولوجيا هي الحكم
وأضاف الدكتور قرني أن كشف التزييف أو التزوير يعتمد على عدة نقاط. أولًا، لا بد من الإشارة إلى أن أهالي القرنة قد بلغوا مستوى عاليًا من المهارة والدقة في نحت القطع الأثرية المزيفة لتبدو مطابقة تمامًا للأصل. وهم يعتمدون على عنصرين أساسيين:
أولًا: تقليد السمات الفنية، كأن يقلد تمثال من الدولة القديمة من حيث أسلوب النحت والملامح الدقيقة.
ثانيًا: تقليد النصوص، سواء كانت بالهيروغليفية أو الديموطيقية.
بهذا الشكل، فإن المزور أو المزوّر يعتمد على الناحية الفنية والتاريخية معًا، وهي نفس الطريقة التي يستخدمها أهالي القرنة. وأوضح أنه في كثير من الحالات، تحدث مشكلات أثناء فحص القطع في المطارات، إذ يعتمد مفتشو الآثار على المقارنة الفنية والتاريخية للقطع من حيث السمات الفنية والنصوص، فيظنون أن التمثال يعود للإله آمون أو رمسيس الثاني مثلًا، وبالتالي يقرّون بأثريته، لأنهم اتبعوا نفس المنهجية التي يستخدمها المزيفون.
كشف التزوير
وتابع: “نحن كأساتذة في الترميم نقول إن التكنولوجيا الحديثة تلعب دورًا محوريًا في كشف التزوير والتزييف، ولذلك يعد من الخطأ أن يكتفي مفتشو الآثار بالفحص الظاهري بناءً على السمات الفنية فقط، دون اللجوء إلى الأجهزة العلمية الحديثة”.
وأكد أن الخطوة الأولى هي التأكد من خامة القطعة، حيث إنه العديد من القطع المقلدة مصنوعة من خامات حديثة. كما نستخدم الأجهزة المتخصصة لفحص آثار التشكيل، لأن المصري القديم استخدم أدوات نحت مأخوذة من الطبيعة، وآثار هذه الأدوات معروفة لنا.
فعند فحص النقش أو الحز، نستطيع تمييز ما إذا كان قد نحت بإزميل قديم أم بإزميل حديث. على سبيل المثال، في إحدى الحالات، كشف التحليل عن وجود عنصر “الفناديوم” على قطعة أثرية، وهو عنصر يدخل في صناعة الأزاميل الحديثة، مما يدل بوضوح على أن القطعة حديثة وليست أثرية.
أدوات حديثة
أشار الدكتور قرني إلى وجود أدوات حديثة تستخدم في التزييف، مثل “الفريزة”، وهي تترك أثرًا مختلفًا تمامًا عن الأثر الذي تتركه الأدوات البدائية المستخدمة قديمًا. كما يستخدم المزيفون طبقة سطحية تعرف بـ”طبقة الباتينا” أو “جلد الأثر”، وهي طبقة داكنة توحي بقدم القطعة، ويتم تصنيعها من خلال طحن حجر معين ورفعه إلى درجات حرارةعالية، ثم دهنه على سطح التمثال. ويتم فحص هذه الطبقة باستخدام الأجهزة لتحليل مكوناتها والتأكد مما إذا كانت ناتجة عن قدم طبيعي أم مصنوعة صناعيًا.
وشدد على ضرورة أن يعرف مفتش الآثار مصدر القطعة أو موقع اكتشافها، لأن ذلك يعطي مؤشرات مهمة جدًا حول أصالتها. فإذا قيل إن تمثالًا يعود للدولة الحديثة تم العثور عليه في الفيوم، فعلى مفتش الآثار أن يبدي الشك، لأن الدولة الحديثة لم يكن لها نشاط أثري واسع في الفيوم، بل كان تركيزها في مناطق مثل طيبة أو صان الحجر عندما نقل رمسيس الثاني العاصمة إلى هناك.
واختتم الدكتور محمود سيد قرني حديثه مؤكدًا: “نعم، أهالي القرنة بلغوا مستوى عاليا من الإتقان في نحت القطع المقلدة، لكن يمكننا كشف هذه القطع من خلال عدة وسائل. يجب أن يكون هناك دائمًا مرمم متخصص وأخصائي ترميم، بالإضافة إلى الاعتماد على التحليل باستخدام الأجهزة العلمية الحديثة، لأنها الأساس العلمي والدقيق لكشف ما إذا كانت القطعة أصلية أم مزيفة”.

فرنسيس أمين: أهالي القرنة صنعوا مقبرة ملكية مزيفة وخدعوا خبير “أناتيك” في 1906
كشف الدكتور فرنسيس أمين، المؤرخ والأثري المعروف، عن واحدة من أقدم حكايات تزييف الآثار المصرية، تعود إلى عام 1906. حيث تمكّن عدد من أهالي القرنة غرب الأقصر من تصنيع مقبرة ملكية مزيفة بالكامل. وبيعها لأحد تجار “الأناتيك” بفندق ونتر بالاس الشهير، مقابل 600 جنيه ذهبًا، وهو مبلغ ضخم للغاية في تلك الحقبة.
وأوضح أمين أن تفاصيل الواقعة ذُكرت في كتاب نادر بعنوان Forged Egyptian Antiquities للمؤلف T.G. Wakeling، الذي روى أن أحد أصحاب محلات بيع التحف بالفندق أراد عرض قطع “باهرة”. فأخبره بعض الأشخاص بوجود مقبرة كاملة بالقرنة. بدأت مفاوضات طويلة مع الأهالي انتهت بعرض المقبرة، التي بدت كأنها ملكية، ومليئة بالتماثيل واللقى النادرة. فدفع التاجر المبلغ المطلوب واقتناها.
لكن المفاجأة جاءت حينما عرض التاجر تلك القطع في محله، فزاره عالم الآثار الشهير جورج رايزنر، وأكد له أن كل القطع “فالصو”، وأن ما اشتراه مجرد صناعة متقنة مزيفة، مشيرًا إلى أن أهالي القرنة استطاعوا، ومن دون أي تقنيات حديثة، أن يصنعوا مقبرة متكاملة تخدع حتى المتمرسين.
متاحف عالمية وقطع مزيفة
تابع أمين حديثه: “هذا النوع من التزييف لم يكن محصورًا فقط في الأسواق المحلية، بل وصل إلى المتاحف العالمية. فـالمتحف البريطاني يضم صالة ضخمة تحتوي على قطع أثرية اكتشف لاحقًا أنها مزيفة. من بينها تمثال شهير يعرف بـ”تي تي شيري”، درس في الكتب لسنوات، إلى أن أثبتت التقنيات الحديثة زيفه”.
كما أشار إلى واقعة مشابهة في متحف المتروبوليتان بنيويورك. الذي كان يفتخر بعرض قطعة حجرية على هيئة أبو الهول تُنسب للملكة “تي”. قيل إن هوارد كارتر باعها للمتحف قبل اكتشافه لمقبرة توت عنخ آمون. إلا أن الأبحاث الحديثة كشفت أن القطعة مصنوعة من عجينة زجاجية. وأن صائغًا من أصل أرمني في القاهرة هو من صنعها لكارتر.
وأردف أمين: “لدينا في أماكن مثل القرنة والكرنك خبراء تزييف محترفين، بقدرات تتفوق أحيانًا على المختصين. حتى العالم الكبير الدكتور أحمد فخري، مفتش الآثار في ثلاثينيات القرن الماضي، شكّ في تمثال لإحدى بنات رمسيس الثاني عرض في المتحف المصري. وبحث خلفه حتى عرف أن مجموعة من العمال صنعوه خصيصًا لإرضاء راعٍ أثري ثري يدعى موند. كان قد قرر وقف الحفائر بعد قلة الاكتشافات، فقام العمال بإلقاء التمثال في بئر ليبدو وكأنه اكتشف صدفة”.
واختتم بالقول: “حتى المتروبوليتان عرضت فيه قطعة عبارة عن رأس زنجي من الأسرة الثامنة عشرة. تبين أنها حديثة الصنع من خلال فحص الكربون المشع، رغم أنها نسبت لكارتر، الذي ادعى اكتشافها في وادي الملوك”.
اقرأ أيضا:
أمفورة وشواهد أثرية.. تفاصيل جديدة في واقعة التنقيب عن الآثار أسفل قصر ثقافة الطفل بالأقصر