دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

«قصور بهجورة».. حكايات الثراء القديم بين الفخامة والنسيان

في قلب مركز نجع حمادي شمال محافظة قنا، تقع قرية «بهجورة»، إحدى القرى العريقة التي ما تزال تحتفظ بكنوزها المعمارية القديمة. تتزين شوارعها بعدد من القصور والمنازل والمدارس التاريخية المبنية على طُرز معمارية متعددة، منها الإيطالي واليوناني والقبطي والإسلامي، وتعود أغلبها إلى القرنين التاسع عشر والعشرين.. «باب مصر» في جولة داخل القرية وأروقة مبانيها.

من «مهجورة» إلى «بهجورة».. قرية لها تاريخ

حول اسم القرية وتحولها عبر الزمن، يوضح محمود عبد الوهاب مدني، مدير عام الشؤون الأثرية لمناطق مصر العليا، قائلا: “كان اسم القرية قديمًا “بهو الجنوب” في عصر قدماء المصريين. ثم تعرضت في القرن العاشر لحريق كبير، وفي القرن الحادي عشر تفشّى فيها مرض الطاعون. ما أدى إلى وفاة عدد كبير من أهلها، فغادرها السكان وسميت (مهجورة)”.

ويكمل: “مع الوقت عادت الحياة إلى القرية مرة أخرى، فتحول الاسم إلى “بهجورة” كما هو الآن”. ويؤكد مدني أن القرية ما تزال تحتفظ بجزء كبير من طابعها القديم رغم التطورات المعمارية الحديثة التي ظهرت على أطرافها فقط. فالمنازل والشوارع والمساجد القديمة ما زالت قائمة في قلب القرية الأصلية.

سرايا أبو طه.. لمسة ألمانية في قلب بهجورة

على الطراز الألماني شيدت “سرايا أبو طه” لتحكي تاريخ أسرة من أقدم عائلات القرية. يقول حسن طه، 70 عاما، حفيد العائلة لـ«باب مصر»: كان جدي يعمل مقاولًا أثناء إنشاء خزان نجع حمادي (المعروف بـ”قناطر نجع حمادي”) في بداية القرن العشرين، إلى جانب مهندسين ألمان. وبعد انتهاء المشروع قرر هؤلاء المهندسون مكافأته بتصميم سرايا خاصة له على الطراز الألماني”.

ويضيف: “تم بناء السرايا منذ أكثر من مئة عام في قلب القرية على مساحة كبيرة من الأراضي التي كانت تمتلكها العائلة. وسُمّيت السرايا بـ”أبو طه” تيمّنًا باسم جدي، نظرًا لتميّزها المعماري واختلافها عن الطابع السائد في ذلك الوقت”.

ويتابع: “كان طن الحديد وقتها بخمسة تعريفة فقط، ثم ارتفع إلى ثلاثة صاغ. ما اضطر جدي إلى الاكتفاء ببناء أربعة طوابق فقط. ورغم مرور الزمن، حرصت العائلة على ترميم السرايا أكثر من مرة حفاظًا على التراث الذي تركه لنا الأجداد”.

داود تكلا.. نبيل القرية وراعي التعليم

في أواخر القرن التاسع عشر، سكنت القرية أسر من كبار الأثرياء، من بينهم عائلة داود بك تكلا، التي امتلكت مساحات واسعة من الأراضي. واشتهرت بحبها للعلم والثقافة والفنون والعمل الخيري.

ولد داود تكلا عام 1859 وتوفي عام 1924، وكان من أوائل من أدخلوا التعليم إلى القرية. إذ أنشأ أول مدرسة ابتدائية على هيئة قصر عام 1891، ثم مدرسة إعدادية عام 1903 انتهى من بنائها عام 1905 لخدمة أطفال بهجورة والقرى المجاورة. واستكملت زوجته وابنته مسيرته، فشيدتا مدارس أخرى كانت شبيهة بالقصور. وبنفس الطراز المعماري الأوروبي.

قصر منيرة تكلا .. زخارف الملائكة والأطفال

يقول محمود مدني عن قصور عائلة تكلا: “من أبرز هذه القصور قصر منيرة تكلا، الذي يعود إلى أوائل القرن العشرين. وما زال قائمًا حتى اليوم. يتميز ببنائه من الطوب اللبن ومونة الجير والحمرة، وسقفه الخشبي المغطى بـ”الفطيسة” (خليط من التبن والطين). كما أن بعض حوائطه الداخلية مبنية بطريقة “البغدادلي”. وهي شرائح خشبية مبلطة من الخارج بطبقة جصية”.

أما الأسقف فقد زخرفت برسومات لملائكة وأطفال نفذها فنانون تشكيليون من خارج محافظة قنا، وتُعد من أندر الرسومات الزخرفية في المنطقة. كما صممت الشبابيك بطريقة تمنع الرؤية من الخارج وتحمل زخارف مميزة. بينما الأرضيات مبلطة ببلاط ملون متين أُضيفت إليه “برادة الحديد” لزيادة صلابته. ورغم بقاء معظم هذه التفاصيل حتى الآن. إلا أن القصر يعاني من التهالك ويحتاج إلى ترميم عاجل لإنقاذ ما تبقى من هذا الجمال المعماري الفريد.

قصور بهجورة.. حين تسكن الفخامة قلبها

يشير مدني إلى أن قرية بهجورة شهدت بناء عدد من القصور والفيلات خلال حقبة زمنية تميزت بالثراء المعماري والتنوع الثقافي. إذ تعود هذه المباني إلى الفترة بين نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. حين كانت طبقة الباشاوات تهيمن على التكوين الاجتماعي في القرية. وتركز اهتمامها على بناء مساكن فاخرة وضخمة على الطرز الأوروبية.

وفي تلك الحقبة، استعان أصحاب بمهندسين ومعماريين أجانب ومصريين من خارج المحافظة لبناء قصور على طرازي الروكوكو والباروك. واستخدمت فيها أعمدة تعلوها تيجان كورنثية، وهي من أعقد طرز العمارة اليونانية. ووضعت في المداخل والواجهات الواسعة.

تميزت تلك القصور بأسوارها العالية ونوافذها المزخرفة متعددة الأشكال، كما في قصر أمونريوس، وسرايا أبو طه وقصر داود تكلا وقصر البرنس بمدينة نجع حمادي. ويضيف مدني: “بعد ثورة يوليو 1952 لم يعد أحد يهتم ببناء القصور ذات الطرز الأوروبية. واتجهت عمليات البناء نحو النمط الحديث، فتغير التكوين المعماري لأغلب المباني”.

الحياة الاجتماعية داخل القصور

كانت تلك القصور من الطرز الوافدة على التراث المعماري المصري، وتميزت باتساع مساحتها وإطلالتها على أكثر من واجهة. كما تميزت أدوارها السفلية بارتفاعها، ويدخل إليها بصعود درجات من السلالم.

ويشير مدني إلى أن القصور كانت تضم قسمين رئيسيين: “الحرملك” وهو المكان الخاص لجلوس السيدات، و”السلملك” وهو عبارة عن قاعة لاستقبال الضيوف من الرجال”. وفي بعض القصور، توجد قاعات مزدوجة للاجتماعات الكبرى والمناسبات الهامة.

ذاكرة القرية

يقول لطفي فرغلي، أحد أبناء قرية بهجورة ومن كبار عائلاتها، وقد تجاوز السبعين عامًا: “منذ صغري وأنا أرى تلك القصور قائمة بجوار المسجد العمري القديم، حيث نشأنا نحن المسلمين والمسيحيين معًا”.

ويتابع: من أبرز هذه القصور قصور أمونوريوس، وسرايا أبو طه، وقصر داود تكلا، وقصر عمر أفندي في قنا، وقصر البرنس في نجع حمادي، وقد تميزت هذه القصور بمساحتها الواسعة، واستخدامها للبلاط والموزاييك القديم المستورد من الخارج، إضافة إلى الأبواب الحديدية عالية الجودة، والنوافذ الزجاجية الملونة المستطيلة والمدورة الشكل التي يمكن من خلالها رؤية من بالخارج.

كما استُخدمت في أسقف بعض تلك القصور عروق وألواح خشبية، تم تلبيسها بطبقة من الملاط المزين برسومات حيوانية وآدمية، كما في قصري منيرة تكلا، بينما كانت أسقف أخرى غير ملونة، مثل قصر أمونوريوس وسرايا أبو طه. ويضيف: “شاهدت السقف الجمالوني ذي الطراز الغربي في قصر داود تكلا. لكنه لم يعد موجودا الآن، إذ تم هدمه منذ سنوات بسبب عوامل التعرية وتقادم الزمن”.

من الفخامة إلى النسيان

بعد ثورة يوليو 1952، ومع تأميم الأراضي وتغير بنية المجتمع، انصرف الاهتمام عن هذا النمط المعماري الفاخر. وسافر معظم الأثرياء، وتحولت الأولويات إلى البناء الحديث البسيط. أدى ذلك إلى فقدان كثير من ملامح هذا التراث المعماري الجميل. ولم تعد هناك طبقة تملك الإمكانيات أو الرغبة في الحفاظ على هذه الطرز الأوروبية التي كانت جزءًا من هوية معمارية متميزة، آخذة اليوم في الاندثار.

وتقف اليوم قصور بهجورة كأنها تحاول أن تروي قصة زمن مضى، يحتاج إلى من يوثقه ويحفظه. فكثير من هذه القصور لم يسجل كأثر أو يدرج ضمن قوائم التنسيق الحضاري. ويقف بعضها الآن في انتظار مصير مجهول قد يكون الهدم، ليضيع معه جزء مهم من صفحات التاريخ المعماري والاجتماعي لجنوب مصر.

اقرأ أيضا:

بعد 52 عاما.. أبطال من قنا يروون حكايات العبور في نصر أكتوبر

قنا تحتفل بالمولد النبوي.. طقوس تتوارثها الأجيال منذ قرون

مولد «السلطان عبد الجليل».. روحانيات الصعيد بين الذكر والتحطيب

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.