«قصر الحكومة العثماني» بالقصير.. من مركز للسلطة إلى أطلال منسية

يقف قصر الحكومة العثماني بمدينة القصير شاهدًا على قسوة النسيان، فبعد أن كان مقرًا لحاكم إقليم القصير، الذي امتد نفوذه آنذاك من محافظة السويس المصرية حتى مدينة حافون الصومالية، صار اليوم مأوى للحيوانات الضالة، في مشهد يلقي بالتاريخ جريحًا على عتبات الإهمال، ويدق ناقوس الخطر حول مصير العديد من المعالم التراثية.
نشأة القصر الغامضة
يكشف الباحث طه حسين الجوهري، في حديثه لـ«باب مصر- قبلي»، أن تاريخ نشأة القصر مازال يكتنفه الغموض. ويعد من ألغاز التاريخ المحلي للمدينة.
ويؤكد أن محمد علي باشا جدد القصر في عام 1253هـ (1837م)، غير أن تاريخ إنشائه الأصلي يظل مبهمًا. إذ لم يترك الفرنسيون، الذين احتلوا القصير عام 1799م، أي توثيق يشير إلى وجود القصر. مما يثير تساؤلات محيرة حول زمن بنائه الأول.
ويضيف الجوهري أن الرحالة العثماني أوليا جلبي، الذي زار المنطقة في القرن السابع عشر، ذكر في كتاباته قلعة القصير والبئر المجاور لها إلى جانب قصر بُني عام 1083هـ. وهو ما يفتح نافذة للتكهن بمرحلة تشييد هذا البناء. وإن ظل السؤال قائمًا: هل هو القصر نفسه القائم اليوم، أم بناء آخر اندثر بين طبقات الزمن؟
قصر على هيئة قصيدة معمارية
يبين الباحث محمود أحمد عبدالعال، في رسالته العلمية بعنوان “مدينة القصير وآثارها المعمارية الباقية من الفتح العثماني حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي” بجامعة سوهاج، أن القصر يتخذ شكلًا مستطيلًا تبلغ مساحته نحو 60×35 مترًا. وتتصدر واجهته الرئيسية شرفة مسقوفة بالعروق الخشبية والألواح. تستند إلى ثمانية أعمدة متينة، تمنحه طابعًا معماريًا فريدًا. وتتزين الشرفة بنوافذ أقرب إلى المشربيات، تضفي على الداخلين إحساسًا بالهيبة والوقار.
ويؤكد الجوهري في كتابه “حول تراث القصير” أن القصر ينقسم إلى قسمين رئيسيين. وله أربعة مداخل؛ اثنان على مستوى الشارع، والآخران في الدور الأول، تربط بينها سلالم خشبية أنيقة. ويجاور المدخل الرئيسي بئر قديم لمياه الشرب، كان يمد القصر والمناطق المحيطة بالماء العذب.
يتوسط القصر فناء مكشوف يُعد قلبه النابض. تحيط به الغرف من جميع الجهات، ويعمل على تنظيم الحركة الداخلية وتوفير الإضاءة الطبيعية والتهوية الداخلية. على غرار الأفنية التقليدية في القصور والمنازل العثمانية. ويضم القصر العديد من الحجرات في الطابقين الأول والثاني. خصص بعضها لسكن المحافظ أو كبار الزوار، وأخرى للأعمال الإدارية. بينما بني باستخدام نحو 120 قطعة من حجر الدبش المغطي بالملاط.
القصر مركزًا للسلطة
يكشف المؤلف كمال الدين حسين في كتابه “أعرف بلدك: دليل تاريخي عن مدينة القصير” أن القصر نشأ مركزًا للسلطة العثمانية. حيث أُقيم ليكون مقرًا لحاكم القصير ونقطة إشرافه على المناطق الممتدة من السويس شمالًا حتى رأس حافون جنوبًا.
في عهد محمد علي باشا استخدمه ابنه إبراهيم باشا مقرا لقيادة حملاته العسكرية ضد الوهابيين في شبه الجزيرة العربية. وكان القصر يشرف آنذاك على الميناء والشونة، ليمنحه موقعه الاستراتيجي ميزة التحكم في النشاطات التجارية والعسكرية بالمدينة.
شاهدًا على الزيارات الملكية والخطاب التاريخي
توضح الدكتورة ليلى عبد اللطيف أحمد، في رسالتها “الإدارة في مصر في العصر العثماني” بجامعة عين شمس، أن القصر لم يقتصر على دوره الإداري والعسكري. بل شهد أحداثًا بارزة تركت أثرًا في تاريخ القصير.
فقد استقبل زيارات ملكية رفيعة، من بينها الملك فؤاد ومن بعده الملك فاروق. وبلغ ذروة رمزيته عام 1954م، حين وقف الرئيس جمال عبد الناصر على شرفته مخاطبًا أهالي القصير قبل لقائه بالرئيس الروسي نيكيتا خروتشوف. ليكتب بذلك فصلًا جديدًا في ذاكرة المكان.
من مجد الإدارة إلى مرارة الإهمال
يقول عادل عايش، مؤسس جمعية المحافظة على تراث القصير، إن القصر شهد عبر العصور محاولات ترميم متكررة، كان آخرها في عهد الخديوي إسماعيل عام 1285هـ (1869م). ويضيف الدكتور محمود عبد العال أن الوثائق تؤكد تفاصيل هذه الترميمات. حيث بلغت تكاليفها نحو 948 قرشًا، تضمنت شراء 120 قطعة حجر بتكلفة 89 قرشًا، و5000 طوبة لبن أخضر بمبلغ 24 قرشًا و30 فضة. إلى جانب أجور البنائين والعمال.
ويشير عايش إلى أن القصر ظل حتى ثلاثينيات القرن العشرين مركزًا نابضًا بالحياة الإدارية. حيث احتضن بين جدرانه “مركز القصير”، والجمرك والبريد والمدرسة الأولية والمستشفى، فضلًا عن استراحة كبار الزوار وسكن مأمور المركز. وكان بحق قلب المدينة النابض.
لكن تحول القصر مع مرور الزمن، وبفعل الإهمال، إلى أطلال صامتة. هجرت غرفه واستخدم بعضها مكبًا للقمامة. وأصبح مأوى للحيوانات الضالة والحشرات. فيما تعرضت أبوابه ونوافذه للسرقة، تاركة جدرانه تواجه وحدها مصير التصدع والانهيار.

تدخل عاجل وإرادي قوية
يختتم الدكتور طه حسين الجوهري حديثه، مؤكدًا أنه، رغم الواقع المؤلم، تبرز مبادرات تحمل بصيص أمل في إعادة إحياء القصر، عبر تحويله إلى متحف للآثار أو البيئة. أو حتى مركز ثقافي يرد له بعضًا من مجده الضائع. وتفتح هذه المقترحات نافذة أمل بأن يستعيد القصر دوره كجزء حي من تاريخ القصير. لا مجرد صفحة منسية في كتاب الزمن.
ويشدد الخبراء على أن إنقاذ القصر يتطلب تدخلا عاجلا و إرادة حقيقية، مدعومة بتخصيص الموارد اللازمة لترميمه وإعادة تأهيله. فهذا المعلم يحتاج إلى أن يُروى من جديد، لا باعتباره بناءً قديمًا متداعيًا. بل كجزء أصيل من تاريخ القصير وروحها العميقة.
شاهد على العصور
إن قصر الحكومة العثماني بالقصير ليس مجرد جدران متهالكة، بل هو رمز لمدينة وحقبة تاريخية متجذرة. فقد شهد القصر تعاقب حكام وأحداث صنعت ملامح الماضي. ولا يزال رغم كل ما أصابه من إهمال، ينتظر يد العناية التي تعيده إلى الحياة.
اقرأ أيضا:
«مسجد الفرّان».. الحارس الأمين على شاطئ البحر الأحمر
حكاية «مدينة سفاجا».. مناجم الفوسفات وصوت التاريخ العابر للأجيال
من «عين المجلاة» إلى «الكنداسة».. ذاكرة العطش والارتواء في سفاجا