قاهرة «نعمات أحمد فؤاد»: المدينة المعذبة (2-2)

ماذا جرى في القاهرة؟ عندما نطرح هذا السؤال لمتابعة الكثير من التحولات التي ضربت العاصمة المصرية كصاعقة، يبدو الرجوع لما كتبته الكاتبة الكبيرة نعمات أحمد فؤاد (1924- 2016م) قبل 45 عاما عن تحولات المدينة التي قادتها الحكومات المتعاقبة، إذ نجد بداية النمط الذي ساد في التعامل مع فضاءات القاهرة بنوع من الإهمال والاستهتار من قبل الحكومة، إذ اهتمت الأخيرة بالجانب المادي والاستهلاكي على حساب التراث من ناحية، وعلى حساب “أنسنة المدينة” من ناحية أخرى، فوصلنا إلى الوضع الحالي. هنا، يبدو استعادة ما كتبته الكاتبة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي شديد الأهمية، لنعرف كيف وصلنا إلى الصورة المشوهة التي نعيش فيها.
نناقش هنا النصف الثاني من كتاب نعمات أحمد فؤاد (القاهرة في حياتي)، وهو كتاب ينتمي إلى فن السيرة الذاتية، فهي تتحدث عن ذكرياتها مع المدينة، وتؤرخ لتفاصيل الحياة فيها من خلال منظور ذاتي يلقي بأضواء جديدة على نعرفه عن المدينة. ففي الفصل المعنون بـ(القاهرة بين الأمس واليوم)، نرى الكاتبة تلخص رؤيتها تلك في قولها: “إن صورة القاهرة التي عرفتها طفولتي لا تمحى من وجداني أبدًا، هذه الصورة الغالية دخلت حياتي، القاهرة في حياتي حقيقة لا مجازًا، ولهذا تؤرقني القاهرة اليوم ويقلقني عذابها”. وهي تتحدث عن مدينة معذبة تعاني من تمزقات بسبب حكومات لم تحفظ لها قيمتها وتاريخها وتراثها، فاستمرت المدينة في عذابها الذي تفاقم على مر السنين وزاد حدة، فاستحقت لقب المدينة “المعذبة” عن جدارة.
***
الفصل الذي خصصته نعمات أحمد فؤاد لرصد تحولات المدينة، منجم لكل من يريد التأريخ لمدينة القاهرة في القرن العشرين. فنعمات فؤاد تعطي مادة ضخمة ومتعددة لتحولات المدينة في تفاصيلها الدقيقة، فتذكر الكثير من الحرف التي توشك على أن يبتلعها حوت الاندثار الذي يفتح فكه على اتساعه في عصر الرأسمالية الاستهلاكية بإيقاعها النمطي السريع، واختفاء الكثير من العادات والتقاليد بين أهالي المدينة في الأحياء الشعبية، ليغلب على الجميع ثقافة مستوردة.
الأمر الذي انعكس بالسلب على عمران القاهرة، فـ”هكذا يتمزق الإنسان بين حضارته وحضارة الآخرين، وطبيعة الصراع بين الحضارات الغالبة والمغلوبة، وتمزق إنسان الدول النامية بين قيمه الموروثة والمحببة، وبين مقتضيات ومتطلبات الحضارة الصناعية، وهكذا أصبحت قاهرة طفولتي ذات الطابع العريق، برج بابل غدت أنماطًا مختلفة وتيارات مختلفة، وكلما كثرت الأنماط وتباعدت دلت على أن الأمة في دور الاعتمال في فترة قلق وحيرة نفسية… يسفر الانصهار عن شيء جديد، وإلى أن يظهر هذا الجديد سنظل نعيش المتناقضات التي تحيط بنا“.
***
تقف نعمات فؤاد طويلًا أمام شهر رمضان في القاهرة، تقول: “ليالي القاهرة على مدار العام فاتنة ساخرة، فما بالها في رمضان حيث يمتع الحديث ويشوق، وتصفو النفوس وتروق، ويتلألأ الليل بالنور والسبحات والقراءات والأذكار في ناحية، وقصص السماء في ناحية أخرى، وتستروح القاهرة وتحلو الحولة أكثر، وتغدو بكل شيء لا تقاوم، إنها كاسمها؛ قاهرة“. وهي تنطلق لتصف كل شيء في رمضان وطقوسه وعادات القاهرة وتقاليدها طوال شهر الصوم، فمن المسحراتي إلى الكنافة والقطايف، مرورا بالأكلات وعادات الزيارة وفانوس رمضان، وصولًا إلى فستان العيد، في كل هذا تفرد الكاتبة مساحة لتؤرخ مظاهر الاحتفال بشهر الصيام، المناسبة الاجتماعية الأبرز في مدينة القاهرة حتى يوم الناس هذا.
تعطينا نعمات فؤاد على شكل الشوارع في زمن آخر وهي تحتفل بشهر رمضان، وصف ينبض بالحياة والتفاصيل التي تؤرخ وتوثق لشكل حياة أهالي القاهرة خصوصًا في قلبها حيث الأحياء التاريخية، تقول: “كان سوق الشماعين في النحاسين يستعد استعدادًا كبيرًا لمقدم رمضان فتعلق على وجهات الحوانيت وأمامها وعلى جوانبها فوانيس، وشموع مختلفة الأحجام أكبرها حجمًا ووزنًا شموع المواكب الكبيرة. والحوانيت في رمضان تظل مفتوحة إلى ساعة متأخرة من الليل.
أما سوق السكرية؛ فكان البدالون أي أصحاب البقالة يفرشون على أبواب محالهم الياميش وقمر الدين، وكانت رخيصة السعر في متناول الجميع، حتى كانت تقدم للضيوف في رمضان للتفكه والتسلية، بل كانت تبدر على الأطفال الذين يسيرون في زفة الفوانيس.
في رمضان الحوانيت مفتوحة، والبيوت الأنوار فيها ساهرة، والقراءات ذاكرة سارية… كانت المطاعم تغلق أبوابها في رمضان، وتنتهز الفرصة فتقوم بعملية تجديد وتنظيف. وكانت المقاهي تغلق نهارًا لتسهر الليل كله حتى مطلع الفجر”.
***
واحدة من الأمور التي تقف أمامها نعمات فؤاد بعين مملوءة بالحزن والحسرة، هو تراجع الحدائق في القاهرة. المدهش هنا أنها تتحدث وهي تقف في بداية ثمانينات القرن الماضي، فأي حسرة ستأكل قلبها لو عاشت معنا السنوات الأخيرة التي شهدت أكبر تعدي على المساحات الخضراء بما في ذلك اقتلاع الأشجار من الشوارع لتوسيعها من أجل استقبال مزيد من السيارات بعوادمها، وإزالة حدائق في أنحاء المدينة لإقامة مجموعة من المطاعم ومحطات التزود بالوقود وكافيهات، باتت كلها السرطان الذي يتمدد على أي بقعة خضراء في المدينة. من حسن حظ الكاتبة الكبيرة أنها رحلت قبل كل هذا!
أعطتنا نعمات فؤاد نظرة معمقة على سياسة يبدو أنها مستقرة من قبل الحكومات المتعاقبة، تقول: “من الصور التي اختفت من القاهرة، الحدائق وأشهرها وأكبرها وأجملها حديقة الأزبكية التي أنشأها في عهد إسماعيل ونظمها، مسيو باربيه مدير حدائق باريس.
وحديقة الأزبكية هذه التي اغتالتها يد الجهل وكان لها تاريخ، كان بها ثمانمائة شجرة نادرة، وكان بها كشك موسيقى… وحديقة الأزبكية بعد هذا رئة القاهرة التي اغتالوا كل خضرة فيها وحولها.
فاقتصوا جزءًا من حديقة الحيوان لكلية الهندسة، واجتثوا جزءًا من حديقة النهر لمسرح الجيب وإدارة مرور الجزيرة، ثم اقتطعوا جزءًا كبيرًا منها مؤخرًا من أجل كوبري أكتوبر.وامتدت يدي الاعتداء إلى حدائق الزهرية، فأقيمت فيها المنشآت وبعض الأندية الرياضية ومراكز الشباب“.
***
تتحدث صاحبة (شخصية مصر) بألم عن تراجع المساحة الخضراء في المدينة، فهي تقارن بين مساحات خضراء في مدن عالمية، وتراجعها في القاهرة. وتطرح السؤال الصعب: “هل يرضي محب للقاهرة ولمصر بما آلت إليه الخضرة في عاصمتنا الكبرى بل في عاصمة المجد والتاريخ؟”، تتابع: “أحسبكم تلتقون معي في ضرورة الحدائق لمدينتنا القاهرة… هل يرضى محب للقاهرة ولمصر بما آلت إليه الخضرة في عاصمتنا الكبرى بل في عاصمة المجد والتاريخ؟”.
وتلفت النظر إلى تقرير أعده وزير السياحة السابق عادل طاهر (تولى المنصب بين عامي 1980 و1982م) عن الحفاظ على البيئة الطبيعية وحماية التراث الحضاري، والذي خلص فيه إلى أن “المعدلات العالمية تحدد نصيب الفرد من المساحات الخضراء بمساحة تتراوح بين 12 و16 مترًا مربعًا، وأن كانت بعض الدول قد زاد نصيب الفرد فيها إلى حوالي 20 مترًا مربعًا… أما في القاهرة فلا يتعدى متوسط نصيب الفرد 75 سنتيمترًا، على الرغم من أنها عاصمة مصر، وأكبر مدن الشرق الأوسط وإفريقيا“.
وقد كشف التقرير عن أن مصر التي تنفق بسخاء على مظهريات موسمية ليست بها ميزانية للحدائق منذ ثمانية أعوام، كما أن الخطة الخمسية (78- 1982م)، لم تذكر الحدائق بشيء من الجدية أو التفضيل.
***
وتذكر نعمات فؤاد أسماء حدائق مختلفة في القاهرة والجيزة تم التعدي عليها ومسخ روحها، لتنعيها جميعًا بقولها: “هكذا كانت حدائق القاهرة التي اندثرت وشوهت واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير هذه الحدائق، التي وفرت لها القاهرة كل ما يعجب الجمال والفن والذوق الحضاري والمستوي الرفيع، ثم أتت عليها جميعًا معاول الهدم، وكأن القاهرة نقضت غزلها من بعد قوة إنكاثًا، ولكن لا ليست القاهرة، وكلن أعداء الجمال والخضرة والنضرة، أي أعداء القاهرة الزاهية الساحرة“.
إن انتزاع الخضرة من شوارع القاهرة وميادينها لم يكن مشهد التلوث الوحيد الذي عرفته المدينة، بل هي تلفت النظر إلى التلوث السمعي الذي بدأ يضرب القاهرة بكل عنف منذ سبعينيات القرن الماضي، ثم استفحل واستقر حتى بات علامة على القاهرة، فتشن حملة على ما تعتبره “ثقافة الميكروفون”.
تقول: “تتحدث القاهرة الآن من خلال الميكروفون، وتغني الميكروفون، وتعلن عن السلع من خلال الميكروفون، حتى القرآن الكريم على وقاره يرتل من خلال الميكروفون، وكأن كل شارع وكل بيت به محطة إذاعة محلية. وبعد ضوضاء الأصوات تأتي ضوضاء المركبات بأنواعها. وضوضاء الصور التي تزحم العيون. والزحام الذي يكرب الأنفاس. وضوضاء الفوضى التي تؤلم الإحساس. وضوضاء السلوك الذي يرهق الناس. ألوان من الضوضاء تعاني منها حبيبتنا القاهرة”.
***
تشن نعمات فؤاد هجومًا حادًا مستحقًا على الضوضاء التي بدأت تثبت جذورها في تربة القاهرة، وتفجرت في ما بعد، تقول عن هذه الظاهرة المزعجة: “قد ينام كل شيء في القاهرة، ولو في ساعة متأخرة من الليل، ولكن الضوضاء فيها لا تنام، قد يخف معدلها في بعض الساعات فقط. ليت خطباء المساجد يقولون إن من الدين توفير الراحة للمريض والطالب والنائم والمجهد. ليتهم يقولون إن من الدين الدماثة، بل هو في جوهره حسن الخلق، ومن الدماثة المصقولة: الهدوء”.
وهي شجاعة في طرحها، لا تخضع للمزايدات الدينية فهي تطالب دور العبادة بان تعتنق الهدوء والصمت، وكانت ظاهرة استخدام مكبرات الصوت بصورة مزعجة في المساجد التي بناها التيار الوهابي المصري وأخرجت الأصوات النشاز قد انتشرت وقتذاك، فنراها تطالب دور العبادة أن تحض على الهدوء، و“التي يجب بل من حقها أن يعمق فيها الصمت لنستمع إلى كلمات الله”.
***
أهمية ما كتبته نعمات أحمد فؤاد عن القاهرة، يمكن في أنه يشكل نهاية عصر وبداية آخر، مدينة تطوي صفحة وتبدأ صفحة جديدة، تمر بتحولات تمزقها وتعمق من حجم التباينات بين مكوناتها لتصل إلى مرحلة التمزق والتشوه، تعرضت لإهمال متعمد من قبل الحكومات المتعاقبة على مدار عقود طويلة تراجعت فيها شروط الحياة الإنسانية الجيدة، ولم يتم فيها الحفاظ على تراث المدينة التاريخي، فلا بقيت المدينة مخلصة لتاريخها ولا اعتنقت حداثة توفر شروط حياة جيدة لمواطنيها.
لذا، لم يكن غريبًا أن تكون لهجة نعمات فؤاد متشائمة حزينة تحن لماض انقضى، وحاضر لا يبشر، ومستقبل غائم. ويبدو أنها كانت على حق فما نشهده اليوم من تدمير ممنهج لتراث المدينة والقضاء على الفضاء العام فيها، يجعل نغمة نعمات الحزينة عن المدينة المعذبة صرخة استشرافية لم تخيب الحكومات المتعاقبة ظنها.