«فنار بورسعيد».. أول صرح خرساني في العالم على ناصية التاريخ والملاحة

في قلب مدينة بورسعيد، يقف «فنار بورسعيد» القديم شامخا، شاهدا على عبقرية البناء الهندسي وروعة الرؤية الملاحيّة منذ أكثر من 160 عامًا. فهو ليس مجرد منارة، بل أول مبنى خرساني ضخم في العالم، وأحد أبرز المعالم التراثية والتاريخية التي تستحق أن تُدرج على خريطة السياحة العالمية. وقد ظل الفنار يؤدي دورا محوريا في إرشاد السفن العابرة بقناة السويس حتى توقف عن العمل عام 1997، بعد أن خدم الملاحة العالمية لأكثر من قرن ونصف.

فنار بورسعيد.. منارة شامخة على ناصية العالم

في 23 إبريل 2025، أعلن اللواء أ.ح محب حبشي، محافظ بورسعيد، بدء تنفيذ خطة شاملة لتطوير فنار بورسعيد القديم والمنطقة المحيطة به. وأشار المحافظ إلى أن أعمال التطوير ستركز على الحفاظ على الطابع المعماري التاريخي للفنار. الذي يعد من أقدم المنارات في حوض البحر المتوسط، مع تنفيذ تحسينات نوعية في البنية التحتية بالمنطقة المحيطة. وتتضمن الخطة الاستمرار في تطوير الممشى السياحي المطل على المجرى الملاحي لقناة السويس بشارع فلسطين، لدمج التراث بالحداثة. بما يسهم في تعزيز تجربة الزائر وتحقيق الاستدامة السياحية.

وأكد محافظ بورسعيد أن المشروع سيتم الالتزام فيه بتحقيق أعلى معايير الجودة والحفاظ على الطابع البيئي والجمالي للمنطقة. مما يجعل فنار بورسعيد نقطة مضيئة على خريطة السياحة التراثية في مصر.

يقع “فنار بورسعيد القديم”  في حي الشرق، أو الحي الإفرنجي كما كان يطلق عليه قديما، أقدم وأرقى أحياء المحافظة. يطل الفنار بواجهته الرئيسية ناحية الشرق على شارع فلسطين (السلطان حسين سابقا) المطل على مياه المجرى الملاحي لقناة السويس. ومن الناحية الغربية على شارع ممفيس (محمود صدقي سابقا). ومن الشمال شارع الطائف. ويطل من الجنوب على شارع الجبرتي، بالقرب من النهاية الداخلية لحاجز الأمواج الغربي للقناة.

فنار بورسعيد القديم

شُيد “فنار بورسعيد القديم” على قاعدة بالقرب من النهاية الداخلية لحاجز الأمواج الغربي للقناة، محاطا بالأحجار الضخمة لصد الأمواج من جميع الجهات عند الافتتاح. ما زال يحتفظ بتخطيطه الأصلي على الرغم من الإضافات التي استحدثت فيه. ويطل برج الفنار وملحقاته بواجهته الرئيسية ناحية الشرق المطلة على ميناء بورسعيد على شارع فلسطين “السلطان حسين سابقا”.

والفنار يعتبر نموذجا فريدا لتطور عمارة القرن التاسع عشر في بورسعيد. أُنشئ في عهد الخديوي إسماعيل في يونيو 1869م، وبدأ عمله الفعلي في فبراير 1870م، وتوقف عن العمل في عام 1997م.

قال الدكتور محمد شجر، أحد المهتمين بتاريخ وتراث مدينة بورسعيد لأكثر من عقدين، لـ«باب مصر – بحري»: “منذ اللحظة الأولى لحفر المجرى الملاحي لقناة السويس، وتحديدا في 25 إبريل عام 1859م، كانت لدى المهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس رؤية واضحة بأهمية وجود فنار في بورسعيد يرشد السفن ويسهل الملاحة. فبدأ بتوجيه إنشاء فنار خشبي بدائي يبلغ طوله نحو 20 مترا، وكانت قدرته الإرشادية تصل إلى نحو 25 ميلا، مما لبى الحاجة آنذاك”.

فنارات بورسعيد

مع اقتراب افتتاح قناة السويس في عام 1869م، ظهرت حاجة مُلحة لتوسيع منظومة الإنارة البحرية على طول الساحل الشمالي لمصر، بدءا من بورسعيد حتى الإسكندرية. فكان القرار بإنشاء 4 فنارات رئيسية في كل من رشيد، والبرلس، وعزبة البرج، وبورسعيد.

ولكن ما ميز فنار بورسعيد عن غيره من الفنارات الثلاثة الأخرى، أنه شيد باستخدام الخرسانة المسلحة، بينما صنعت البقية من الحديد. وقد أسندت مهمة البناء إلى شركة “كونييه للمقاولات”، التي كان يرأسها المهندس الفرنسي فرانسواه كونييه، أحد أوائل من استخدم الخرسانة المسلحة على هذا النطاق الواسع.

يعد فنار بورسعيد إنجازا هندسيا فريدا، حيث تم إنشاؤه باستخدام خلطة إسمنتية مدعمة بشرائح من الحديد، تراكمت فوق بعضها لتشكّل هيكلا مثمن الأضلاع بارتفاع 56 مترا.

المجرى الملاحي لقناة السويس

يبلغ ارتفاع العدسة نحو 5 أمتار، ويطل من واجهته الشرقية على المجرى الملاحي لقناة السويس. وقد كسيت جدرانه باللونين الأبيض والأسود، وتنتهي بخشبة علوية تتوجها “كرة” سوداء.

لم تكن هذه “الكرة السوداء” مجرد ديكور، بل كانت وسيلة إنذار مهمة لمرور قوافل السفن القادمة من الشمال والجنوب عبر القناة. خاصة حينما كان ممرها ضيقا ومحاطا بالجزر. وكانت ترتفع وتنخفض بفعل تصاعد البخار كإشارة ببدء حركة القوافل البحرية في أوقات محددة. وهي الساعة 7 صباحا، 12 ظهرا، و4 عصرا.

وارتبطت هذه الإشارات بالعاملين في الترسانة البحرية، التابعة لهيئة قناة السويس، والذين اعتادوا أن يسألوا: “أين هي البلية؟ في الأعلى أم الأسفل؟” لتحديد مواعيد راحتهم وخروجهم.

فنار بورسعيد رمز عالمي

أوضح الدكتور محمد شجر بسعادة واضحة: “الآن نسمع عن مشروع لتطوير الفنار والمنطقة المحيطة به. وهو ما كنا نحلم به ونسعى إليه. هذا الفنار لا يمثل تراثًا محليًا فقط، بل هو رمز عالمي. كونه أول مبنى خرساني بهذه الضخامة، ولا يزال صامدا حتى اليوم، دليلا على نجاح نظرية كونييه في البناء الخرساني”.

وأشار “شجر” إلى أهمية إدراج “فنار بورسعيد” على خريطة السياحة العالمية. مستشهدا برحلات “توماس كوك” الذي اختار بورسعيد كنقطة رئيسية مهمة في برنامجه السياحي من إنجلترا إلى الهند. وضمّ معالم مثل فندق “إيسترن إكستشنج”. وأضاف: “هذا هو الطموح، أن تصبح بورسعيد منارة جذب سياحي عالمي. وأن يتم إدراج فنارها التاريخي كواحد من أبرز المزارات”.

وأشاد بما يشهده شارع “فرانسواه جوزيف” من أعمال تطوير شاملة، معتبرا إياه نموذجا ناجحا للتحول السياحي في بورسعيد. واقترح أن يتم تحويل هذا الشارع إلى متحف مفتوح، يجمع بين الجمال المعماري والتراثي. ويجذب السياحة الداخلية والخارجية على حد سواء.

اقرأ أيضا:

«متحف النصر للفن الحديث».. ذاكرة بورسعيد في لوحات ومنحوتات

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.