تصفح أكبر دليل للفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

شارع العباسي بالمنصورة.. حكاية سوق بين مئذنتين

عند نهاية شارع السكة الجديدة، يطل جامع الصالح أيوب في جلال العتق وأبهة القِدَم، رغم ما فعلت فيه آلةُ الزمن. مئذنته العالية تشق السماء، وتبث نداء الحق إلى مسامع الخلق، فيختلط صوت الآذان بضجيج المارة ونداءات الباعة. ومن هناك يبدأ الشارع الذي، ما إن يذكر، حتى تتزاحم في الذاكرة صور وحكايات من الماضي، لتشتبك سريعا مع الحاضر. وبين مئذنة الصالح أيوب ومئذنة الشيخ حسنين، يمتد أشهر أسواق المنصورة عبر شارع العباسي، في ثنائية تجمع الدين والدنيا، وتفتح أبوابها لمصالح العباد.

شارع العباسي بالمنصورة    

تبدو مقدمة شارع العباسي مكتظةً بالمارة دخولا وخروجا، ثم يقل الزحام تدريجيا مع التوغل فيه. الناس يأتون من كل حدب وصوب: شبابا وكبارا، ذكورا وإناثا، يأتون لأغراض شتى متنوعة.

في بدايته تنتشر محلات الملابس الجاهزة والهواتف المحمولة. وتتدرج محلات الملابس من احتياجات الأطفال والشباب إلى مستلزمات العروس، إذ يضم الشارع عددا كبيرا من محالِّ تجهيز العرائس، والأدوات المنزلية، والمفروشات والأقمشة. أما محلات الهواتف فتقدم كل ما يخص الموبايل، من أصغر قطع الغيار حتى أحدث الأجهزة. كما تنتشر في الشارع توكيلات تجارية يقصدها التجار من داخل المحافظة وخارجها، حيث تباع فيها البضائع بأسعار الجملة، غالبا بأقل الأثمان رغم موجة الغلاء المتصاعدة.

مسجد الصالح أيوب، أول شارع العباسي
مسجد الصالح أيوب، أول شارع العباسي
الأجيال تتعاقب لزيارة شارع العباسي

على يسار المدخل، بعد أمتار قليلة، تجذب رائحة الفطائر والحلويات أنوف المارة، تنبعث من محل أحمد أمين، “حلواني وجيلاتي” الذي تأسس منذ عام 1970م، وما زال مقصدا للأجيال المتعاقبة، خاصة لفطائره المحلاة بالسكر والمحشوة بالكريمة.

وبعد بقليل يقع جامع الدولتلي، الذي بناه على الدولتلي، أحد قادة مماليك الصالح أيوب. ثم جدد عام 1884م على يد حفيده محمد الدولتلي، لكنه هدم لاحقا وأعيد بناؤه على الطراز الحديث. حسب كتاب “حكاية شوارع المنصورة”، للدكتور إيهاب الشربيني.

وفي منتصف الشارع، على اليمين، تقع الهيئة العامة للتأمين الصحي بالمنصورة وعيادة العباسي الشهيرة. ولها دور عظيم في علاج المرضى البسطاء من أبناء الأرياف حول المنصورة. وعلى اليسار يظهر جامع الكناني القديم، وإلى جواره الساحة الشعبية (مركز شباب مدينة المنصورة). كما يشهد شارع توسعا جديدا بافتتاح معرض العباسي للملابس الجاهزة والأحذية، الشهر المقبل.

نشأة شارع العباسي بالمنصورة

يمتد شارع العباسي بين ورش قديمة، ومقاهٍ شعبية، ومطاعم، إلى جانب عقارات مضى على بنائها قرن أو يزيد قليلا. وتتفرع منه شوارع فرعية ذات أهمية تاريخية مثل شارع الريحاني (سوق التجار الغربي)، الذي يضم مسجد سيدي ريحان الذي ينسب إليه الشارع مؤخرا. وهو مسجد قديم بناه الأمير كتخدا حسن سنة 1235هـ-1723م، ثم أعاد بناءَه السيد محمد ستي عام 1970 في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

ومن الحارات الحرفية المتفرعة عنه: حارة الحدادين، التي ما زالت إلى اليوم بها الورش القديمة، وحارة الدولتلي، وحارة البهلول. ويمتد الشارع حتى يصل إلى جامع الشيخ حسانين، أحد أولياء المنصورة الكبار. وميدانه من أكبر الميادين التي تتفرع منه عدة شوارع لا تقل أهمية عن شارع العباسي. وما زال بالجامع ضريح الشيخ حسانين، الذي يعتبره كثير من أبناء الدقهلية أحد أهم وأكبر أولياءها الصالحين. ويقام حول له مولد سنوي في أغسطس يزيد من أهمية الشارع، وتحيي الجزءَ الأقل ازدحاما منه طوال العام.

مسجد سيدي ريحان بشارع العباسي
مسجد الكناني بشارع العباسي
الله حي.. عباس جي

تعود نشأة شارع العباسي إلى عهد الخديوي عباس حلمي الثاني (1892م – 1914م). وبحسب د. إيهاب الشربيني في كتابه “حكاية شوارع المنصورة”، كان المكان عبارة عن شبكة من الحواري والأسواق المتداخلة. وكانت تعد هذه المنطقة سوقا كبيرا يأتيه التجار من الدلتا عبر فرع دمياط بالمراكب الشراعية، محملين بالبضائع المختلفة، ويعبرون للشارع من مكان مديرية أمن الدقهلية الحالية.

ويروي أن الخديوي زار المنصورة وافتتح الشارع بنفسه، فسمي بـ”شارع عباس” نسبة إليه. وبعد عزله عام 1914م، خرج المصريون إلى الميادين يهتفون بعودته: “الله حي.. عباس جي”. وشارك أهل المنصورة في المظاهرات من شارع عباس. ومع مرور الأيام تحول الاسم إلى شارع “العباسي”. ثم تغير رسميا بعد ثورة يوليو إلى “شارع مصطفى كامل”، لكن عامةَ أهل المنصورة. وكذلك الوافدين إلى الشارع لا يعرفونه إلا بشارع العباسي إلى اليوم.

لم يكن الشارع على الحال التي هو عليها الآن. وكان لافتتاحه أثرٌ في تغيير جغرافيا المنطقة. حيث إنه قطع شارعين كبيرين كان بهما أهم الأسواق في تلك الفترة. شارع سوق الخواجات القديم. حيث كان مبدأه من شارع بورسعيد ممتدا إلى ميدان الطُّمِّيهي الشهير. لكن بمجرد افتتاح العباسي، انقسم سوق الخواجات إلى قسمين، الأول ممتد من شارع بورسعيد إلى العباسي، وسمي بسوق التجار الشرقي. والثاني من العباسي إلى ميدان الطميهي. وسمي بسوق التجار الغربي، أو شارع الريحاني كما أشرنا من قبل.

آخر شارع العباسي، ومسجد الشيخ حسنين
آخر شارع العباسي، ومسجد الشيخ حسنين
افتتاح شارع العباسي

كان جامع الكناني في أصله ضريحا ضمن المدافن القديمة التي كانت قائمة هناك قبل نقلها، وكان مزارا مشهورا، لكن بلا معالم واضحة تدل عليه. ومع مرور الأيام، شيد الحاج عوضين طه (أحد أعضاء المجلس البلدي)، المسجد المعروف اليوم بجوار الضريح. وكان خلف الضريح والمسجد بستان بديع، وصفه أحد الرحالة كما نقل د. إيهاب الشربيني. ثم تبدلت الحال بمرور الوقت، وانتقلت المدافن، وبقي جامع الكناني. ورغم أن الشارع عُرف لفترة باسم شارع الحاج عوضين طه، فإنه لا يزال معروفا اليوم باسم شارع المدافن القديمة.

وفي مقال للمهندس طارق البدراوي بجريدة أبو الهول (عدد3 – 2022)، ذكر عن انتشار الشوادر في العباسي: “حيث كانت شوادر الخضار منتشرة في الشوارع الجانبية المتفرعة من شارع العباسي. بينما كانت شوادر الفاكهة متناثرة في شارع العباسي العمومي.

وظل ‏الأمر كذلك لسنوات طويلة حتى تم إنشاء سوق ‏الجملة الحالي، ونقلت المحلات إليه في نهاية الستينيات من القرن العشرين الماضي. وحلت محلاتُ لعب ‏الأطفال والخردوات والشوكولاتة مكانَ ‏شوادر الفاكهة والخضار. وفي الشوارع الجانبية والخلفية لشارع العباسي نشأ مكان شوادر الخضار سوق معروف حاليا باسم سوق ‏السمك”.

ومن الطرائف التي أوردها البدراوي أن الشاعر الغنائي المعروف مرسي جميل عزيز، من أبناء مدينة الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية، كان يمتلك شادرا في هذا الشارع يبيع فيه الخضار والفاكهة بالجملة. وقام بتأليف العديد من الأغنيات الشهيرة لسيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم، والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وهو يمارس التجارة في هذا الشادر”.

كيف وصف فؤاد حجازي شارع العباسي؟

في روايته “شارع الخلا” (1968م)، رسم أديب المنصورة فؤاد حجازي صورة نابضة للحياة في شارع العباسي: “زبائن شارع العباسي كثيرون ويصعب حصرهم، ويمثلون كل الطبقات؛ حيث نرى به تجار الدخان، وتجار المانيفاتورة، وتوكيلات آلات التصوير، والمصورين، ومعارض الأثاث والموبيليا، وتجار مخلفات الجيش، ومتاجر بيع الخضر والفاكهة بالجملة، ومحلات الأطعمة الراقية، والتي كانت توجد في أول الشارع من جهة نهر النيل، وكان من أشهرها: مطاعم الكباب والكفتة والكبدة، بالإضافة إلي محلات الحلويات؛ مثل البسيمة واللديدة المصنوعة من جوز الهند المبشور.

ثم تأتي في منتصف الشارع محلاتُ الأطعمة الشعبية؛ كالفول والطعمية. كما تصطف على جانبي الطريق عرباتٌ خشبية تتصاعد منها روائح شواء اللحم، بينما يباع على بعضها لحوم الرأس والكرشة والقلب والممبار وباقي مخلفات بطون المواشي والغنم، والتي يسميها العامة الحلويات. وفي الوسط فرن قديم، وباعة الذرة المشوي، ومن ورائهم باعة الفاكهة؛ كالمانجو والعنب والتين مع موازينهم، وإلى جانبهم يصطف باعة السكاكين والبلط.

وفي خلفية كل هؤلاء توجد دكاكين الخردوات، ومحلات لعب الأطفال والبخت والبمب وصواريخ رمضان. وفضلا عن ذلك تنتشر المقاهي على طول الشارع؛ فكان في أوله من ناحية نهر النيل: المقاهي التي يرتادها الأفندية والموظفون وزوار المدينة ونزلاء الفنادق الفخمة القريبة من الشارع. وتأتي بعدها وعلى مقربة منها: المقاهي الشعبية التي كان يرتادها أولاد البلد، والفلاحون، والباعة الجائلون، والصنايعية؛ مثل الترزية والحلاقين ومبيضي النحاس والحدادين والنجارين وحوذية عربات الكارو والحناطير. وكان كل هؤلاء الخلق زبائن مستديمين، تموج بهم الحياة في هذا الشارع الصاخب المسمي بشارع العباسي بمدينة المنصورة”.

معرض شارع العباسي الدائم
معرض شارع العباسي الدائم
شارع العباسي قديما وحديثا.. كيف تغير؟

من خلال هذه النصوص والتواريخ يمكن أن نكون صورة تقريبية لما كان عليه شارع العباسي قديما. لنقارنها بالصورة التي رسمناها لحاضر الشارع فيما سبق. وبهذه المقارنة يتبين الدور الذي يلعبه هذا الشارع في حياة أهل المنصورة. إذ ليس مجردَ سوق تجارية صاخبة، بل في كل زاوية وركن. وفي كل حارة وشارع فرعيين: حكايات وروايات وتاريخ شعبي معبر عن حياة المصريين البسطاء، الدنيا بالنسبة لهم كهذه السوق، يأخذون منها قدر حاجتهم. لكن سوقهم بين مئذنتين، وتتخللها عدة مآذن، يدخلونها من جامع، ويخرجون منها إلى جامع. فهم على اختلاف أغراضهم، تجمعهم روح التدين الوسطية، في غير إفراط ولا تفريط، يعيشون، ويتنافسون، ويخطئون، ويتعبدون. ولا يجد أحدهم غضاضة في الجمع بين الدين والدنيا، والمعاش إلى المعاد، رغم الهموم والغموم التي ترميهم بها الأيام.

اقرأ أيضا:

«جاليري حيفا».. واحة ثقافية فنية في قلب المنصورة

مولد «ابن سلام».. ذكرى صحابي يعيد الروح لقرية بمحافظة الدقهلية

«الضيف أحمد».. من تمي الأمديد وإليها

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.