«سنترال رمسيس».. شاهد على تحولات القاهرة وتاريخ الاتصالات في مصر

يُعد مبنى «سنترال رمسيس» شاهدا على تحولات المدينة منذ إنشائه في بدايات القرن الماضي، ومنذ إنشائه، برزت ثلاثة أبنية رئيسية، على رأسها مبنى سنترال رمسيس التاريخي، الذي مثل نقطة تحول في آلية إدارة المكالمات. أقدم هذه المباني هو «مبنى الديوان»، يليه «مبنى الأوتو»، ثم «المبنى الثالث والأحدث» الذي شهد مؤخراً حريقاً كبيراً، ما أعاد تسليط الضوء على القيمة التاريخية وتأثير الحريق على المبنى الحديث، وكذلك انعكاساته المحتملة على نظيره التاريخي.
بداية التليفون في مصر
يرجع تاريخ التليفون في مصر إلى عام 1881، عندما منحت الحكومة المصرية ترخيصا لشركة “أديسون بل” الأمريكية لإنشاء شبكة اتصالات تليفونية في مدينتي القاهرة والإسكندرية وضواحيهما، وذلك بحسب موسوعة “مدينة القاهرة في ألف عام” للدكتور زكي عبدالرحمن.
وقد جاء ذلك بعد مرور 17 عاما على تأسيس مصلحة التليفونات والتلغراف في مصر، بالتزامن مع إنشاء أول خط تلغراف لتأمين خدمات السكك الحديدية. وظهرت خطوط التلغراف لاحقا في القصور الملكية، حيث تم استخدامها كوسيلة للتواصل مع الدول من خلال ربطها بخط دولي بحري.
تليفونات القاهرة
كانت خدمة الهاتف تربط بين محافظتي القاهرة والإسكندرية، وانتشر الهاتف في مصر بالتزامن مع الاحتلال البريطاني عام 1882، حيث سعى البريطانيون إلى زيادة عدد الكابلات في المحافظات التي تواجدوا فيها، مثل مدن القناة.
وقد أُوُلي اهتمام خاص بالاتصالات السلكية واللاسلكية، وجرى نقل هذه الخدمات إلى مصر. وفي عام 1888، تم تشغيل سنترال يدوي من طراز “الماجنيتو”، خدم حينها 3000 خط، وظل في الخدمة حتى عام 1936.
وانتقل ترخيص تشغيل الشبكة لاحقا إلى “الشركة الشرقية” أولا، ثم إلى “شركة التليفون”. وبحلول عام 1900، كانت المواصلات التليفونية قد انتشرت في مديريات مصر. وفي عام 1918، قامت الحكومة بشراء المنشآت التليفونية بمبلغ 750 ألف جنيه، وضمتها إلى مصلحة التلغرافات.
افتتاح سنترال رمسيس
وفقا لموسوعة “مدينة القاهرة في ألف عام”، شهد عام 1926 افتتاح سنترال العتبة الأوتوماتيكي، من خلال تركيب وحدة من طراز “بي ستروجر”.
وبحسب مجلة صباح الخير (عدد 2001)، استحدث في العام التالي (1927) سنترال القاهرة، المعروف بـ”سنترال رمسيس”، بنظام البطارية المشتركة، وسعته بلغت ستة آلاف خط. أنشئ المبنى في شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليا)، ووصل عدد الخطوط حينها 3000 خط.
وقد افتتح “دار التليفونات الجديدة” في 25 مايو 1927 بالموقع نفسه، ليعرف لاحقا باسم «سنترال رمسيس». وفي عام 1928، تم تركيب سنترال مشابه في الإسكندرية.

تسجيل مبنى سنترال رمسيس كأثر
قالت سها المنياوي، شاهدة عيان على الحريق لـ “باب مصر”، إن سنترال رمسيس مكون من ثلاثة مبان، الأول هو مبنى الديوان وهو الأقدم، وبعده تم بناء مبنى الأوتو، ثم المبنى الثالث والأحدث. وأضافت: “الحريق اندلع في المبنى الثالث، حيث أعمل”.
ويفصل مبنى الديوان عامان فقط عن مرور 100 عام على إنشائه، وهي المدة القانونية المطلوبة لتسجيله كمبنى أثري. فهل يؤثر تعرضه لآثار الحريق، مثل الدخان أو الحرارة المرتفعة، على إمكانية تسجيله؟
تواصل «باب مصر» مع الدكتور عبدالحميد الكفافي، مدير عام التخطيط والمتابعة لترميم الآثار الأسبق، الذي أكد أن المبنى لم يُدرج حتى الآن ضمن قائمة المباني الأثرية.
وأضاف: “لذلك، لا يخضع لقانون حماية الآثار، ولا يدخل ضمن مسؤوليات وزارة السياحة والآثار أو المجلس الأعلى للآثار”.
وأوضح الكفافي- في تصريحات خاصة- أن المبنى يُعد منشأة جوهرية في البنية التحتية المصرية، ويمثل شريانا مهما للاتصالات والتحول الرقمي. وتابع: “لا أعلم إن كان هناك بديل له في حال الطوارئ، لكن من الضروري التفكير في ذلك مستقبلاً”.
فرص تسجيل المبنى
حول فرص تسجيل المبنى القديم كأثر مستقبلا، أشار الكفافي إلى أن تسجيل أي مبنى كأثر يخضع لمجموعة من المعايير، أبرزها مرور 100 عام على إنشائه، وتوفر عناصر معمارية وزخرفية مميزة، بالإضافة إلى مواد البناء وتفاصيل التصميم التي تعكس القيمة التاريخية أو الفنية.
وأضاف: “المباني التي تتوفر فيها هذه الاشتراطات يمكن تسجيلها كآثار، حتى وإن كانت لا تزال تؤدي وظيفة عملية. فالتسجيل لا يعني بالضرورة تحويلها لمتاحف أو وقف استخدامها”.
نظام المحاسبة على المكالمات
في عام 1931، تحولت السنترالات الثلاثة الرئيسية بالقاهرة (المدينة، البستان، والعتبة) إلى سنترال أوتوماتيكي واحد بسعة 20 ألف خط، ثم أدخل نظام المحاسبة على المكالمات التليفونية المحلية عام 1933.
وفي الوقت نفسه، تم افتتاح سنترال أوتوماتيكي خاص بالوزارات. كما تحول سنترال مصر الجديدة إلى النظام الأوتوماتيكي في عام 1934، وهو العام الذي صدر فيه أول دليل لمشتركي الهاتف في القاهرة والإسكندرية. وفي عام 1936 تحول سنترال الجيزة إلى النظام الأوتوماتيكي أيضا.
كان يسمح لكل مشترك بإجراء ألفي مكالمة سنويا ضمن قيمة الاشتراك. وما زاد على ذلك يحاسب عليه المشترك بواقع 3 مليم عن كل مكالمة. وبلغت قيمة الاشتراك السنوي 8 جنيهات تدفع على قسطين، وزادت لاحقا إلى 12 جنيها مع زيادة تكلفة المكالمة الزائدة إلى 15 مليما.
تطور سنترال رمسيس
شهد عام 1947 تحديثا جديدا لآلية العمل بسنترال رمسيس. وبحسب جريدة “الأهرام الاقتصادي”، تم تحويل السنترال إلى النظام الكهروميكانيكي. ولاحقا، تم تركيب سنترالات كهرومغناطيسية بنظام “القطبان المتقاطعة”، تلتها السنترالات الإلكترونية، ثم الرقمية. وقد بدأ استخدام النظام الأول (الكهروميكانيكي) عام 1947 بسعة 40 ألف خط بسنترال وسط القاهرة.
وفي عام 1990، تم التعاقد على إنشاء مصنع جديد لإنتاج السنترالات الإلكترونية الرقمية بمدينة 6 أكتوبر، بمشاركة كل من: الشركة المصرية للاتصالات، والشركة المصرية لصناعة المعدات التليفونية، وشركة سيمنز الألمانية. وفي العام نفسه تم إنشاء الشبكة القومية لنقل المعلومات، خاصة بالمؤسسات التجارية والصناعية.
الاتصال الدولي من سنترال رمسيس
بحسب الشركة المصرية للاتصالات، لم يقتصر دور «سنترال رمسيس» على الاتصالات المحلية فقط، إذ اتفقت الشركة مع شركة ماركوني على تركيب أول محطة إرسال واستقبال هوائي في مصر عام 1928، بهدف إنشاء شبكة اتصالات دولية.
وقد نُفذ المشروع بالفعل عام 1930، من خلال تشغيل أول سنترال آلي من طراز “الروتاري” في سنترال رمسيس. وفي عام 1932، تم استبدال الكابلات الأرضية بين القاهرة والإسكندرية بخطوط هوائية، مما أسهم في إنجاز أول ربط لاسلكي بين مصر وإنجلترا، حيث أُجريت أول مكالمة دولية ناجحة.
وظلت مصلحة التليفون والتلغراف تعمل حتى عام 1957، وهو العام الذي شهد تأسيس “هيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية”، التي تولت حقوق تشغيل خدمات الاتصالات.
سنترال رمسيس في السينما
مكانة «سنترال رمسيس» كمركز حيوي ومهم في مصر، ألهمت الكُتاب وصناع السينما، فكان عنصرا محوريا في العديد من الأعمال الفنية. أبرزها فيلم “اللعب مع الكبار- إنتاج 1991. في هذا الفيلم يؤدي الفنان محمود الجندي دور عامل بسنترال يتجسس على مكالمات كبار رجال الدولة. ويبلغ صديقه عادل إمام بالمعلومات، الذي يستغلها لمحاربة الفساد.
وبحسب كتاب “الكوميديا والغناء في الفيلم المصري” للناقد محمود قاسم: “في سنترال رمسيس، كان العامل يتصنت على المكالمات ويعرف ما يمكن أن يحدث من عمليات مشبوهة. وكان يشترك مع زميله في مقاومة الشر قدر الإمكان. إذ تجمع بينهما صديقة عميقة تؤلف بين قلبيهما، وهموم مشتركة تجعل مصيرهما مشتركا”.

موقع سنترال رمسيس
يقع «سنترال رمسيس» في منطقة حيوية بوسط القاهرة لا تخلو من الزحام. وبحسب كتاب “القاهرة” للمؤلف محمد رياض، فإن الزحام في شارع الجلاء يرجع إلى كونه الشارع الوحيد الذي تتجه فيه الحركة جنوبا من باب الحديد إلى ميدان التحرير. مقابل شارع رمسيس الموازي له.
ويضيف المؤلف: “الشارع يكاد يكون حكرا على أبنية عامة للناس فيها مصالح متعددة. في البداية عمارة تشمل مكاتب الشهر العقاري شمال القاهرة، وعدة محاكم متخصصة. ثم يأتي قسم شرطة الأزبكية، ومستشفى السكة الحديد، والبنك الصناعي، ومجمع محاكم شمال القاهرة، وأبراج مؤسستي الأهرام وأخبار اليوم. وأيضا مستشفى الجلاء للولادة، ومعهد ليوناردو دافنشي. وعدة مبانٍ حكومية وبيوت فقيرة، إلى أن نصل إلى هيلتون رمسيس وميدان الشهيد عبدالمنعم رياض”.
ويستكمل: “أما الجانب الشرقي، فتطل عليه الواجهات الخلفية لأبنية عامة ضخمة على شارع رمسيس. مثل مصلحة الكيمياء وسنترال رمسيس، وجمعية الإسعاف، ونقابة المهندسين”.
وحتى أوائل الخمسينيات، كان شارع الجلاء مليئا بالمساحات الفارغة وضعيف الحركة مقارنة بشارع رمسيس. وكانت أكثر مناطقه نشاطا تلك الواقعة عند تقاطعه مع شارع فؤاد (26 يوليو حاليا)، المؤدي بواسطة الترام من العتبة إلى بولاق والزمالك وإمبابة.
ويشرح الكاتب أن سبب تكدس شارعي رمسيس والجلاء يعود إلى أن كلا منهما كان مسارا لترعتين متجاورتين تمتدان من النيل شمال كنيسة “كل القديسين”. وقد ردمتا في آخر القرن التاسع عشر، مع ردم مسار الخليج المصري من فم الخليج حتى غمرة عام 1899.
اقرأ أيضا:
200 جنيه شهريا دون مقر أو زي.. أزمة فرقة الموسيقى القومية بسوهاج تتصاعد
في ظل العنب: تاريخ عمل الأطفال والفتيات من دفاتر مصر القديمة
سمر دويدار: الفلسطينيون ليسوا أرقاما.. و«حكايات فلسطينية» هي الدليل