سليمة إكرام: كرسي «أميليا بيبودي» يعزز مستقبل علم المصريات في مصر
في خطوة تُعد علامة فارقة في تاريخ البحث الأكاديمي في المنطقة، أعلنت الجامعة الأمريكية بالقاهرة خلال الأيام القليلة الماضية عن تأسيس كرسي أميليا بيبودي الممول لعلم المصريات. وهو الأول من نوعه في الشرق الأوسط وإفريقيا، وواحد من القلائل على مستوى العالم. جاءت هذه الخطوة لتعزز مكانة مصر الأكاديمية عالميًا. وتؤكد الدور الريادي الذي تلعبه في الحفاظ على تراثها وإعادة تقديمه من منظور علمي حديث.
سليمة إكرام أول من يتولى الكرسي
تم اختيار الدكتورة سليمة إكرام، أستاذة علم المصريات بالجامعة وأحد أبرز علماء الآثار الميدانيين عالميًا. لتكون أول من يتولى هذا الكرسي، تكريمًا لمسيرتها الطويلة في البحث والتعليم. وإسهاماتها التي تجاوزت حدود الجغرافيا لتضع بصمة خالصة على خريطة علم المصريات الدولي.
في هذا الحوار، تتحدث دكتورة سليمة عن وقع هذا التكريم عليها، وأهمية الكرسي في مستقبل دراسة علم المصريات في مصر والمنطقة. كما تتناول التحديات التي تواجه هذا العلم في العالم العربي وسبل دعمه أكاديميًا ومجتمعيًا. وتفتح النقاش حول رحلتها كامرأة باكستانية-مصرية تعمل في مجال يهيمن عليه اهتمام غربي واسع. وعن العلاقة العميقة التي تربطها بالريف المصري وتراثه الحي. وصولًا إلى رؤيتها لمستقبل علم المصريات بعد افتتاح المتحف المصري الكبير. وكيف يمكن لهذا الصرح أن يكون جسرًا جديدًا بين الماضي والمستقبل.
-
كيف استقبلت خبر إنشاء كرسي أميليا بيبودي الممول لعلم المصريات وتعيينك كأول من يتولاه؟
لقد فوجئت وسعدت جدًا عندما تلقيت الخبر. وأسعدني ذلك بشكل خاص لأن أميليا بيبودي هي من شخصياتي المفضلة في الروايات التاريخية.
-
ما الذي يعنيه لكٍ هذا التكريم على المستويين الشخصي والعلمي بعد سنوات من العمل الميداني والأكاديمي؟
هذا الكرسي يعني لي الكثير على المستوى الشخصي، فمن الرائع أن يُعترف بعمل الإنسان ويُكرم بهذه الطريقة. كما أنني أشعر بالتواضع أمام هذه الهدية، لأنها في الوقت نفسه امتياز ومسؤولية. إن إنشاء هذا الكرسي الأكاديمي في علم المصريات هو الأول من نوعه في المنطقة بأكملها. ومن القلائل جدًا على مستوى العالم، لذا فهو أمر مذهل. ويسعدني أن يكون في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. لأن ذلك يعني أنه رغم التحديات المالية التي تواجه مؤسسات التعليم العالي عالميًا. فإن استمرار علم المصريات في الجامعة الأمريكية مضمون. ففي الوقت الذي تلغي فيه العديد من الجامعات برامجها في التاريخ والآثار والتخصصات الأخرى المشابهة. يأتي هذا الكرسي ليضمن بقاء علم المصريات مزدهرًا في مصر.
-
كيف ترين تأثير هذا المنصب الجديد على مستقبل دراسة علم المصريات في مصر والمنطقة؟
دائمًا ما يكون من الصعب جذب الطلاب إلى هذا المجال، لأن الآباء يقلقون من أن شهادة في علم المصريات قد تكون غير مفيدة من الناحية العملية. لكن على العكس، دراسة علم المصريات تمنح الطالب أساسًا صلبًا ليس فقط في تاريخ وثقافة ولغة مصر القديمة. بل أيضًا في التفكير النقدي، والكتابة الجيدة، والتواصل الشفهي المقنع، والبحث العلمي، لتكوين إنسان مثقف واسع المعرفة. وشهادة علم المصريات لا تعني بالضرورة أن صاحبها سيعمل في المجال نفسه. إذ يمكنه أن يصبح صحفيًا أو رجل أعمال أو أن يعمل في مجالات متعددة أخرى، فمهارات التفكير التي يكتسبها تنطبق على العديد من المهن.
-
ما الجوانب التي ستركزين عليها في أبحاثك ضمن هذا الإطار الجديد؟
آمل أن أواصل العمل على نشر أبحاث حول المومياوات الحيوانية، وتطور تعديل الجسد البشري، وعادات الطعام عند قدماء المصريين، وأعمالي في وادي الملوك. إضافة إلى دراسة استغلال الإنسان للبيئة وتغيّر المناخ في واحة الخارجة.

-
في رأيك، ما أبرز التحديات التي تواجه دراسة المصريات في العالم العربي اليوم؟
التحدي الرئيس يكمن في أن معظم الأهالي لا يرغبون في أن يتجه أبناؤهم إلى هذا المجال. الناس يريدون لأبنائهم دراسة الكمبيوتر أو الهندسة أو إدارة الأعمال أو الإعلام. لذلك يُحرم العديد من الطلاب الأذكياء والمتفوقين والمهتمين فعلاً من دراسة مصر القديمة. وهذا أمر مؤسف للغاية. أعتقد أن قيمة التراث يجب أن تؤكد ويُسلط عليها الضوء أكثر في العالم العربي، مع توفير مزيد من الفرص للدارسين في هذا المجال.
-
كيف يمكن للمؤسسات الأكاديمية أن تدعم هذا المجال بشكل أعمق ومستدام؟
تحتاج المؤسسات الأكاديمية إلى إعطاء قيمة أكبر للعلوم الإنسانية والفنون، ودعم الطلاب ماليًا. كما يجب إنشاء مختبرات متطورة وتعزيز التعاون مع وزارة السياحة والآثار لخلق فرص للباحثين الشباب للتدريب والعمل التطوعي في المتاحف والمواقع الأثرية.
-
هل ترين أن الاهتمام الدولي بعلم المصريات يطغى على الجهود المحلية؟ وكيف يمكن تحقيق توازن؟
على العكس، الاهتمام الدولي بعلم المصريات لا يطغى على الجهود المحلية – والدليل على ذلك واضح في تقارير الإعلام. لكن سيكون من المفيد أن يكون هناك عدد أكبر من المنشورات العلمية عالية المستوى من الباحثين المصريين العاملين في الميدان. كما يمكن زيادة الحماس والاهتمام المحلي من خلال تغطية إعلامية أوسع وبرامج تُقدم باللغة العربية لجذب الجمهور العام، لا تعتمد فقط على تناول تاريخ مصر بل أيضًا تاريخ المناطق المجاورة.
-
ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الجامعات المصرية في ربط الأبحاث الأكاديمية بالمشروعات الأثرية الميدانية؟
تقوم الجامعات المصرية بأعمال حفر وتنقيب في عدة مواقع. لذا هناك بالفعل مشروعات ميدانية وفرص محتملة لتدريب الطلاب في الجامعات الحكومية والخاصة على حد سواء. ومن ثم يجب التركيز على النشر العلمي ونشر المعرفة في المنصات الأكاديمية والجماهيرية. مع الالتزام بالمعايير الأكاديمية العالية. حتى يتمكن الطلاب المصريون من المنافسة على الساحة العالمية.
-
في رأيك، كيف يمكن للبحث في علم المصريات أن يسهم في تعزيز الهوية الثقافية المصرية المعاصرة؟
الهوية الثقافية المصرية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بماضيها، أي بالحضارة المصرية القديمة. خاصة منذ عشرينات القرن العشرين، حين أصبح تاريخ مصر القديمة رمزًا موحدًا للحركة الوطنية المصرية. يمكننا أن نلمس هذا التأثير في الفن والأدب والعمارة، وكذلك في التصريحات السياسية التي صدرت عن الوطنيين المصريين منذ ذلك الوقت وحتى اليوم. إن تعزيز الشعور بالانتماء إلى التاريخ الطويل لمصر يجعلها أمة أقوى. ويقوي ترابط المصريين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو انتماءاتهم الجغرافية.
-
كيف ترين مسؤوليتك كعالمة باكستانية مصرية تمثل جسرًا بين ثقافتين مختلفتين؟
كلما طالت إقامتي في مصر، شعرت أكثر بتشابه الثقافتين المصرية والباكستانية. فالطيبة والكرم وحسن الضيافة التي يتميز بهما الشعبان هي تقاليد مشتركة بعمق. كما يتمتع كلا البلدين بتاريخ طويل وعريق. وهناك أوجه شبه بينهما، منها التجربة الاستعمارية. وأتمنى بشدة أن يتم تعزيز الروابط بين البلدين على المستويين الثقافي والأكاديمي.
-
ذكرت في أحد حواراتك أنك حين تعملين في مصر تضطرين لأن تكوني أفضل مرتين لأنك امرأة ولأنك من باكستان.. ما العقبات التي واجهتك في هذا السياق؟ وكيف تغلبت عليها؟
أن تصبح عالم مصريات ليس أمرًا سهلًا أبدًا، إذا أراد المرء أن يبرع فيه، لأن هذا التخصص بحد ذاته يتطلب الكثير من الجهد والمعرفة. وطبعًا، يكون الأمر أصعب حينما لا يكون الباحث مصريًا أو من إحدى الدول الأمريكية أو الأوروبية الكبرى التي تمتلك تقاليد راسخة في دراسة هذا المجال. لذلك، على الشخص أن يعمل بضعف الجهد ليثبت نفسه.
كنت محظوظة جدًا لأنني حصلت على فرص تعليمية ممتازة بفضل والدي والأساتذة الذين درست معهم. كما أنني محظوظة لأنني درست في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. إذ إنني لم أتلق تدريبًا جيدًا فقط، بل أُتيح لي لاحقًا أيضًا أن أُدرِس هناك. وأصبحت الجامعة وطني الأكاديمي بعد سنوات طويلة من العمل. كما أعتقد أن كون المرأة أكاديمية أصعب في الغرب منه في مصر.
***
وبالطبع، فمصر أيضًا – وللأسف أكثر الآن مما كانت عليه عندما كنت أصغر سنًا – تشهد مظاهر متزايدة من التمييز ضد النساء. لكن مع ذلك، لا تزال مكانًا أفضل للباحثات على عدة مستويات. فإذا نظرنا إلى الجامعات والوزارة. سنجد أن هناك عددًا أكبر من النساء العاملات في علم المصريات في مصر أكثر من أي مكان آخر.
إحدى الموجهات اللاتي كان لهن أثر كبير في مسيرتي كانت الدكتورة فايزة هيكل، التي كانت حقًا رائدة في هذا المجال. في الواقع، أنجبت مصر العديد من العالمات البارزات اللواتي كان لهن تأثير دولي كبير في علم المصريات. لذلك أشعر أنني في صحبة متميزة جدًا.
إضافة إلى ذلك، فإن دراستي في كلية برين ماور في الولايات المتحدة. وهي كلية نسائية، منحتني الثقة في قدراتي الفكرية والإيمان بإمكانية النجاح في علم الآثار.
-
ذكرت سابقًا أنك تفضلين الريف المصري أكثر من مصر الحضرية لأنك تحبين ما هو أقرب إلى الطبيعة والتراث اليومي.. ما القيمة التي تجدينها في البحث عن المواقع غير المرئية في علم المصريات؟ وكيف يمكن دمج هذا الجانب في المناهج الأكاديمية؟
لطالما وفر الريف المصري مساحة يمكن من خلالها تتبع التقاليد الثقافية والتقنية التي تمتد جذورها إلى العصور القديمة. للأسف، لم يعد هذا الأمر صحيحًا كما كان في السابق. لذا، أحث الطلاب على قضاء مزيد من الوقت في توثيق ما تبقى من هذه التقاليد، لأن المعلومات الإثنوغرافية تمثل حلقة وصل بين الماضي والحاضر. وقد تكون أحيانًا ذات فائدة كبيرة من خلال نقل تقنيات قديمة إلى الحاضر بعد أن أوشكت على الاندثار.
ومن هنا تأتي أهمية تسجيل الطرق التقليدية في البناء بالطوب اللبن، وصناعة الفخار، والزجاج، والمعادن، والأخشاب، والأحجار. لما في ذلك من قيمة ثقافية وعلمية كبيرة لنا اليوم.
-
أخيرًا، ما رأيك في حفل افتتاح المتحف المصري الكبير؟ هل تعتقدين أنه سيؤثر على أبحاث علم المصريات أو على طرق تدريسه في الجامعات؟
كان افتتاح المتحف المصري الكبير حدثًا مدهشًا للغاية جذب أنظار العالم نحو مصر من جديد، إذ ركز الحفل على إبراز التراث المصري القديم وغنى الماضي التاريخي. أعتقد أن هذا الافتتاح سيثير اهتمامًا واسعًا داخل مصر وخارجها بدراسة علم المصريات. وآمل أن لا يقتصر أثره على تنشيط السياحة فحسب، بل أن يمتد أيضًا إلى الإنتاج الأكاديمي داخل مصر وخارجها. بما يسهم في توضيح فهمنا لتاريخ مصر القديمة وثقافتها.
اقرأ أيضا:
كيف استقبل علماء المصريات حول العالم افتتاح المتحف المصري الكبير؟
تراث مصر غير المترجم.. ميراث الحضارات بين صوت المصري وقلم المستشرق
«عماد فيليب» في احتفالية اليوم العالمي للتراث: اندثار حرفة «الشفتشي» يهدد الهوية الثقافية



