زيارة لديوان الخط والكتابة

حينما ترددت في ذاكرتي عبارة مُعلم اللغة العربية: “اكتب ما يملى عليك”، في حصة الإملاء، راودتني مشاعر رفدت بمعان أبرزت قيمة إتقان الخط وتحسينه، حتى صار تعبير “حسن خطك” من العبارات المألوفة لدي. وأن هذا الفعل، يمثل أداء فني راقٍ، وليس محض علم وفقط.

وأن تسَّلمنا كراسة لخط الرقعة وأخرى لخط النسخ، كان ذات دلالة؛ وأن نشهد آنذاك مفتشاً للخط، وكتابة مُعلم الموسيقى لبيت من الشعر على السبورة بخط بديع ننشده معاً حيث اكتسب تفرداً نوعياً. وقتها ادركت فضيلة الكتابة بخطوط فاتنة تتميز بالجلال عبر مطالعتي لعديد من الكتابات المخطوطة.

تردني الذاكرة لتأملات تخص طوائف الخطاطين عبر العصور، في تحدٍ للمطبعة. حيث كانت الطباعة تعد من “عمل الشيطان”، وأنها أشبه بشجرة الدفلى السامة. حيث طرقت أعتاب مدرسة تحسين الخطوط، التي أسسها محمد إبراهيم وكامل إبراهيم بشارع الخديوي الأول في العام 1937 بالإسكندرية، حيث أحدثت دهشتي القاعات الهائلة ذات الجدران المزينة بصنوف لوحات الخط المتنوعة والمقاعد الخشبية العريضة وطلاؤها البني الداكن.

***

شغفت برائحة الحبر حينما طرقت دروبا احتضنت مطابع شهيرة وقتذاك، “الأكروبول” لصاحبها كوليتاس بشارع الكنسية الأسقفية، و”مطبعة بروكشيا” لصاحبها لورنس بروكشيا بشارع صلاح الدين. حيث هويت مشاهدة رص الحروف اليومي.

وكثيرا ما أطللت على مكتبات مكتظة بالكتب، مكتبة إخوان بنزاكي بشارع سعد زغلول، وجلون بشارع طوسون، ومكتبة “مدينة الكتب” لصاحبها موستاكي وشركاه بشارع فؤاد. حيث ألمح وسط الكتب العتيقة مخطوطات نادرة،. ومن اللافت، وقتذاك ذيوع وانتشار ورش تجليد الكتب، وكعوب تحمل أسماء أصحابها المذهبة، ورشة حاجي “مانولي ألكسندر”، و”ورشة أرملة المرحوم هنري هاسيد” بشارع النبي دانيال.

في ظل تلك الأجواء، اجتر وشائج أبي مع الكتب. حيث يعكف ساعات في القراءة وملازما لغواية تجليد وترميم ما تلف من الكتب يوم أن استكمل كتابة فصل مفقود من كتاب “فقه اللغة” للثعالبي. حين استعار نسخة مكتملة وشرع في كتابة ما تبدد بالريشة ومداد الحبر الشيني في خط بديع.

***

وفي رحلة السير التي أسرتني طويلاً، صرت مأخوذاً بالفرجة على نسَّاخ الشوارع. حيث صار النسخ حرفة لعديد من الهواة، كتابة كالرسم في دقة وإتقان، لافتات ويافطات المحلات وغيرها واجتذبتني لافتات ذائعة في مواسم الانتخابات حيث نشهد ضجة وصخباً اشبه بالمهرجان. وحفلت بعض الشوارع بمنصات الرصيف لهواة الخط حيث يحترف أصحابها كتابة أسماء الزبائن أو الآيات القرآنية. مثلما احترف بعض آخر رسم الصور الشخصية.

وعبر تلك المسيرة تستلفتني دوما شواهد القبور العتيقة في مدافن الروم الأرثوذكس ومدافن اللاتين بشارع فؤاد. حيث أطالع كتابة بخطوط فريدة ومتفردة تحمل كثير من فن العمارة والخط وتماثل كتابات بديعة في صدارة البنايات الأثرية تدون تاريخ العمران وأسماء رجال العمارة.

كل تلك الظواهر، برهنت على أن الروح ما زالت تخفق في كافة أرجاء الحياة.

اقرأ أيضا:

«مسارات المدينة».. تأملات في وعي آخر

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.