تصفح أكبر دليل للفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

رحلة في أرشيف البحر.. حكايات المصايف المصرية من ورق البردي إلى الشاليهات

في أحضان نهر النيل، وعلى امتداد شواطئ البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، تنسج مصر حكاية المصيف عبر العصور. تتقاطع فيها الطبيعة مع التاريخ، وتلتقي الروح مع المكان. من لحظات الهدوء على ضفاف النيل. حيث أولى نزهات الاستجمام، إلى الشواطئ التاريخية مثل رأس البر والعجمي وجمصة، التي شهدت حضور الأجيال، ثم إلى مصايف اليوم في الساحل الشمالي وشرم الشيخ والغردقة، تتبدل أشكال المصيف وتتطور. لكن يظل جوهرها واحدًا: ملاذ يبحث فيه الإنسان عن راحة الروح وتجدد الحياة.

وكما تبدأ الحكايات العريقة من جذورها، تبدأ قصة المصيف المصري من مصر القديمة. حيث لم يكن النيل مجرد نهر، بل قلب الحياة وروحها. هناك، عند مياهه، مارس المصريون القدماء أولى أشكال الاستجمام، فكانت النزهات على ضفافه، والسباحة في مياهه، والصيد في بحيراته جزءًا من نسيج حياتهم اليومية. لم تكن فكرة المصيف قد اكتملت بعد، لكن البذور وُضعت هناك، في ظل النخيل وعلى وقع مجاديف المراكب، لتشكل الأساس الذي ستنمو منه لاحقًا ثقافة الاصطياف في مصر.

أصول المصيف من مصر القديمة

تخبرنا الوثائق التاريخية أن المصري القديم كان على صلة وثيقة بالطبيعة، يعرف النزهات ويهوى الصيد، ويجد في الماء راحةً ومتعة. ومن بين الرياضات التي شكلت جزءًا من حياته اليومية، برزت السباحة بوصفها فنًّا عريقًا، مارسه المصريون منذ عصور ما قبل الأسرات. وقد حفظت لنا النقوش القديمة مشاهد لشباب يخوضون المياه بمهارة ورشاقة، لتكون تلك الرسوم أول شاهد مادي على ممارسة السباحة في تاريخ البشرية.

لم تكن السباحة حكرًا على طبقة بعينها، بل كانت متاحة للجميع: العامة، والنبلاء، وحتى الملوك. مارسها الناس في مياه النيل الصافية. وفي البحيرات، وأحيانًا في بركٍ أنشئت داخل القصور الملكية أو بيوت الأثرياء، تشبه إلى حد ما حمامات السباحة المعاصرة. هذا الشغف بالماء، رغم قدمه، لم يكن يترجم إلى ما نسميه اليوم المصيف.

ومع ذلك، نجد بعض الملوك اختاروا السفر إلى أماكن بعيدة للصيد أو الراحة؛ الملك تحتمس الأول -على سبيل المثال- توجه إلى “نهارينا” في الشام. بينما عُرفت الملكة كليوباترا بحبها للرحلات والاستجمام. وحتى عامة الشعب كانوا يجدون في النيل، بتياراته الهادئة، فسحةً تبهج القلب وتنعش الجسد، ومتنفسًا من أعباء الحياة اليومية. وهكذا يتبين أن المصري القديم عرف متعة الاقتراب من الماء، ومارس السباحة والنزهات على نحو متكرر. لكنه لم يعرف المصيف بالمفهوم الذي نعرفه الآن.

مصايف مصر الحديثة

أما مصايف مصر الحديثة فكتب لها تاريخ آخر، إذ نشأت هذه المدن الساحلية لتواكب تطورات العصر وتلبي حاجة المصريين للترفيه والاستجمام. ومن بين هذه المصايف الحديثة التي جمعت بين عبق التاريخ وروح التجديد، نذكر رأس البر، جمصة، بلطيم، الإسكندرية، حيث تحكي كل منها قصة فريدة من النمو والتطور.

رأس البر.. لوحة بين النيل والبحر

تقع رأس البر حيث يلتقي نهر النيل مع البحر الأبيض المتوسط، مدينة تحمل بين شواطئها الذهبية إرثًا تاريخيًا وثقافيًا عريقًا. لم تكن في البداية أكثر من ضاحية صغيرة للصيادين والمسافرين. لكنها تحولت عبر الزمن إلى مصيف راقٍ يستقطب كبار الفنانين وأعيان المجتمع، قبل أن تفتح لكل المصريين بعد ثورة يوليو.

أما عن تفاصيل تحولها لمصيف، فيذكر نيقولا يوسف في كتابه “تاريخ دمياط منذ أقدم العصور”: “في العصور الوسطى، كانت تُعرف باسم «جيزة دمياط». حيث استقر فيها صيادو السمك وبُنيت ثكنات عسكرية لحماية الساحل. كما شهدت حصارات وحروبًا خلال الحملات الصليبية. بينما بقيت مركزًا روحيًا للصوفية بمهرجانات مولد الشيخ الجربي التي ما زالت تحتفظ بمكانتها حتى اليوم. إذ يجتمع الصوفيون والزوار في مراسم تعبر عن تاريخ طويل من التقاليد والروحانية.

أكواخ بين النيل والبحر

مع بداية القرن الـ19، بدأ تطويرها كميناء ومكان للصيد والترفيه. إذ شُيدت أكواخ من الأكياب والحصير على الشاطئ، وتحولت تدريجيًا إلى صفوف منظمة من الأكواخ بين النيل والبحر. وشهدت إقبالًا متزايدًا من الزوار والتجار. وبحلول أواخر، وصفها المؤرخ الألماني كوخ بأنها مصيف فريد بنقاء الهواء وجمال الشواطئ. وبدأت تظهر علامات الحداثة ببناء أول فندق وافتتاح المطاعم، وتحديد شبكة شوارع منظمة وأماكن عامة، إضافة إلى تطوير وسائل النقل التقليدية.

في القرن العشرين، شهدت رأس البر توسعات عمرانية مهمة. مع إنشاء جسر دمياط الذي ربط المصيف بالبر الرئيسي عام 1930، وبناء رصيف اللسان لحماية الساحل عام 1938. حتى أصبحت وجهة مفضلة للنخبة من رجال الدولة والفنانين والأدباء. خاصة خلال الحربين العالميتين. وامتزجت الحياة الثقافية والاجتماعية فيها.

وبعد ثورة يوليو 1952، شهدت تحولًا شاملاً، حيث توسعت البنية التحتية، ودخلت وسائل نقل جديدة مثل «الطفطف». ونُفذت مشاريع للصرف الصحي والمياه، ما حولها من مصيف حكرًا على النخبة إلى وجهة شعبية لكل الطبقات. واستمرت في جذب نجوم الفن والسياح عبر الزمن، مع حفاظها على شواطئها المجانية. لتتحول من عشش الصيادين البسيطة على ضفاف النيل، إلى مدينة سياحية نابضة بالحياة، تروي قصة مصرية تتجدد مع كل موجة من مياه نهرها وبحرها، في لوحة لا تُنسى”.

جمصة: واحة النقاء على ساحل البحر

أما مدينة جمصة فتنمو كواحة تنبض بالجمال والتاريخ. يعود اسمها إلى أيام الحملة الفرنسية. حين أطلق الجنود على تبة عرابي اسم “JAIMECA” أي المكان المحبوب، ليحافظ الاسم عبر الزمن على معناه ويصبح وجهة مفضلة للمصطافين.

بدأت جمصة رحلتها كمصيف في أوائل الستينيات، عندما اقترضت هيئة قناة السويس مبلغ نصف مليون جنيه لبناء 40 شاليهًا وفندقًا صغيرًا على شاطئ البحر. كانت هذه البداية لبناء مكان بدأ يزدهر ويأخذ شكله المميز. وفي عام 1964 تأسست شركة عامة لإدارة المصيف، مستلهمة تجربة المعمورة، لتطوير وتنظيم المدينة بدعم من معسكرات الشباب التي شاركت بحماس في تمهيد الطرق وبناء المرافق وزراعة المساحات الخضراء.

الصيف الذهبي

ورغم التحديات التي مرت بها البلاد، من نكسة 1967 إلى حرب أكتوبر 1973، كانت جمصة ملاذًا لمصطافي مدن أخرى مثل بورسعيد ورأس البر، وأصبحت شواطئها مقصدًا رئيسيًا. حتى جاء صيف 1972 المعروف بالصيف الذهبي، الذي شهد مهرجانًا سينمائيًا واحتفالات كبيرة جذبت النجوم والزوار. وحققت المدينة خلاله إيرادات عالية، لكن مع عودة فتح مصايف أخرى تراجع الإقبال على المدينة.

لكن احتفظت بطبيعتها الساحرة؛ مياه صافية، ورمال ناعمة، وهواء منخفض الرطوبة، تزدان بالحدائق الخضراء التي تحمل أسماء تاريخية مثل الأندلس وأم كلثوم وابن لقمان. وتنبض أسواقها مثل السوق الفرعوني وسوق جمصة البلد بالحياة والروح الأصيلة. كما يضفي الكورنيش الممهد طابعًا فريدًا من الراحة على أرجائها.

بلطيم.. بوتقة التراث والتطوير

في قلب محافظة كفر الشيخ، تقع بلطيم التي تحمل بين ثناياها تاريخًا عميقًا يعود إلى العصر البطلمي. حيث يعود أصل تسميتها إلى ذلك الزمن القديم. لم تكن بلطيم مجرد مدينة عادية، بل نقطة استراتيجية مهمة. كما يظهر في وجود حصن طابية عرابي الذي بناه صلاح الدين الأيوبي للدفاع عن الساحل ضد الغزاة، والذي شهد عدة مراحل من التجديد. إذ أعاد الخديوي إسماعيل ترميمه في عام 1882، قبل أن يستخدمه أحمد عرابي في معاركه البطولية ضد الاحتلال الإنجليزي. ويُعتبر هذا الحصن شاهدًا حيويًا على مراحل النضال والتاريخ المصري.

ولا تزال ذكرى 4 نوفمبر 1956 محفورة في ذاكرة أهل بلطيم. حين هزمت الزوارق المصرية بارجة «جان دارك» الفرنسية قبالة سواحل البرلس، في معركة بحرية بطولية جمعت صيادي البرلس والقوات البحرية المصرية. معلنة موقفًا من الكرامة الوطنية والشجاعة.

وعلى صعيد التطور المدني، برزت بلطيم في الأربعينيات كمصيف هادئ جذب الباحثين عن الهدوء بعيدًا عن صخب المدن، قبل أن تبدأ في الخمسينيات مرحلة التطوير. حيث ساهم شباب من مصر وآسيا وإفريقيا في بناء الطرق وتشييد البنية التحتية. التي أرسى دعائمها لتصبح وجهة صيفية متكاملة. خاصة مع وجود فنار البرلس الذي يضيء ليالي البحر منذ أكثر من 120 عامًا، كرمز للصمود والجهود الهندسية الدقيقة التي سمحت له بمواجهة رياح الزمن. والذي حظي الفنار بتوثيق في دائرة المعارف البريطانية، وأصبح اليوم محور جهود صيانة للحفاظ عليه.

الإسكندرية.. الماضي والحاضر

أما الإسكندرية فهي الأشهر على الإطلاق، سواء في الماضي أو الحاضر، نظرًا لمكانتها التاريخية المرتبطة بمصر الملكية والجمهورية. فهي ليست مجرد مدينة ساحلية، بل هي العاصمة الصيفية لمصر. من الكورنيش إلى المقاهي التي شهدت ولادة أعمال أدبية وشعرية، تحتفظ المدينة بتاريخ غني من الحياة الثقافية والترفيهية.

في الماضي، كانت شواطئ الإسكندرية تحتوي على كبائن خشبية مبنية على أعمدة داخل البحر، متصلة باليابسة بواسطة جسور خشبية. مثل “المنشية”، “سانتي بالميناء الشرقية”، “الشاطبي”، و”الرمل”. بالإضافة إلى “كليوباترا” التي بناها التاجر اليوناني جورج زورو. وفي عام 1934، تم افتتاح طريق الكورنيش الممتد من قصر المنتزه شرقا إلى رأس التين غربا. مما ساهم في توسع المدينة عمرانيًا.

كما ظهرت حمامات خرسانية حديثة في مناطق ستانلي وجليم وسيدي بشر. أما شاطئ ميامي فكان معروفًا بخصوصيته وهدوئه. حيث كان خصص للطبقات الراقية مع رسوم دخول رمزية تحافظ على هذه الخصوصية. كما كانت منطقة بولكلي مركزا لاجتماعات مجلس النظار في الصيف، وكان يرأسها سعيد باشا ذو الفقار، حيث يتم تنظيم المصايف وتنظيمها.

مصايف جديدة

لا يمكن تجاهل التنوع الكبير الذي شهدته المصايف المصرية عبر العقود. فمن البساطة والدفء في المصايف الشعبية، إلى الفخامة والخصوصية في الشاليهات والفيلات التي عبّرت عن اختلاف الطبقات الاجتماعية ورغباتها. هذه التنوعات شكلت جزءًا لا يتجزأ من تاريخ المصايف، ورسمت صورة حية لحياة المصريين الصيفية بكل ألوانها.

ومع تطور الزمن وظهور وجهات جديدة على خارطة المصايف مثل الغردقة ودهب والعلمين الجديدة وشرم الشيخ. بالإضافة إلى الساحل الشمالي. تغيرت أنماط المصايف وتوسعت الخيارات أمام المصطافين. هذه الأماكن الحديثة جذبت شرائح واسعة من الناس بحثًا عن تجارب مختلفة، بمرافق متطورة وأجواء عصرية. لكن رغم بروز هذه المصايف الجديدة، لا تزال المصايف التاريخية مثل رأس البر والإسكندرية تحتفظ بجاذبيتها الخاصة وشعبية كبيرة بين المصريين. الذين يقدرون عبق الذكريات وروح المكان التي لا يعوضها جديد.

اقرأ أيضا

حوار| «سام كين»: كنت أريد الكتابة عن مصر.. وكتابي «عشاء مع الملك توت» ليس خيالا صرفا

حين كتب الأصدقاء على ورق البردي: رسائل ووصايا من مصر القديمة

«أندرو سايمون»: المصريون صنعوا ثقافاتهم الشعبية بالكاسيت.. وهجوم المهرجانات بدأ مع عدوية

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.