دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

رحلة العمرة: تجربة ثقافية بين التاريخ والحداثة

في السابعة والنصف مساءً، كان مطار الأقصر الدولي مزدحماً على غير عادته. وجوه متعددة، ملامح أنهكها الانتظار، وعيون لامعة بدموع الشوق. هناك من يقرأ القرآن بصوت منخفض، وهناك من ينشغل بتفقد أوراق السفر. مئات المسافرين يتأهبون للرحيل نحو مكان واحد: مكة المكرمة.

ما يلفت النظر في مثل هذه الرحلات أن الألقاب والمناصب والوظائف تتلاشى فجأة أمام قطعة قماش بيضاء. الزي الموحَّد يلغي الحواجز ويجعل الجميع متساوين، كأنما في هذا العبور تختفي الفوارق الطبقية والاجتماعية، ليصبح الكل جزءاً من جماعة واحدة تسعى لهدف واحد.

على متن الطائرة، تحولت المقاعد إلى ما يشبه صفوفاً من “النوارس البيضاء”. وحين أعلن الطيار اقترابنا من الميقات، دوّى صوت التلبية من أفواه الركاب، مشهد لا يمكن وصفه إلا بأنه احتفالية إنسانية كونية.

مكة: قدسية المكان وضخامة العمران

الوصول إلى مكة تجربة مدهشة منذ اللحظة الأولى. فمن جهة، هناك الكعبة المشرفة، ثابتة في مركز المشهد منذ آلاف السنين، رمزاً للإيمان ومقصد القلوب، ومن جهة أخرى، أبراج شاهقة ومجمعات فندقية فخمة تحيط بالمكان، أبرزها “برج الساعة” الذي يطل على الحرم كعلامة من علامات العمارة الحديثة.

في الطواف، تتجلى رهبة المشهد، آلاف الأقدام تدور في انسجام حول بناء صغير في حجمه، عظيم في معناه. أما السعي بين الصفا والمروة، فقد تغيّر كلياً، لم يعد مجرد وادٍ مكشوف كما تحكي كتب السيرة، بل أصبح ممراً رخامياً مكيفاً، متعدد الطوابق، التكنولوجيا هنا لم تُلغِ الرمزية، لكنها أعادت صياغة التجربة الروحية في قالب حديث يستوعب ملايين الزائرين سنوياً. إنها مفارقة بين البساطة التاريخية والحداثة المعاصرة.

المزارات: بين الجغرافيا والذاكرة

زيارة جبل عرفات، غار ثور، مزدلفة ومنى ليست مجرد جولات سياحية، بل هي محطات تستحضر أحداثاً كبرى من التاريخ الإسلامي، تضاريس صعبة، جبال صلدة وطرق ملتوية، تجعل الزائر يتخيل المشقة التي عاشها النبي وصحابته.

لكن الدولة السعودية أعادت صياغة هذه المواقع عبر طرق سريعة ومرافق منظمة وممرات واسعة، تحولت المشقة إلى سهولة، لكن الذاكرة بقيت حاضرة، هنا يتجلى سؤال: هل يفقد المكان جزءاً من رمزيته حين يتحول إلى موقع مكيَّف ومنظم؟ أم أن التنظيم ضرورة لتستوعب الجغرافيا ملايين البشر؟

أما متحف برج الساعة، فهو حالة خاصة، معروضاته من مخطوطات وأدوات فلكية قديمة تقف إلى جانب أحدث تقنيات قياس الوقت، على شرفته المطلة على الكعبة، يشعر الزائر وكأنه يطل على مفترق طرق: بين ماضٍ روحاني متجذر ومستقبل مادي متسارع.

حاولت أن أصوّر تقريراً صحفياً عن المتحف. أبرزت هويتي الصحفية لمسؤول هناك، لكنه، بعد اتصالات متعددة، قال إن الأمر يحتاج إلى موافقة “الهيئة الوطنية الملكية”. استغربت، ففي هولندا وبلجيكا كنت أصوّر في البرلمان ووزارات الخارجية والجامعات دون أن أُسأل حتى عن هويتي الصحفية. بدا لي الأمر هنا أكثر تعقيداً، كأنما المكان ليس مجرد متحف بل جزء من منظومة ذات حساسية سياسية ورمزية عالية.

المدينة المنورة: سكينة الروح وإيقاع الحياة

حين انتقلنا إلى المدينة المنورة، شعرت وكأني دخلت مدينة أخرى بروح مختلفة. إذا كانت مكة تجسد الجلال والرهبة، فإن المدينة تختزل السكينة والطمأنينة. الطقس ألطف، الوجوه أكثر بشاشة، والنظام واضح لكنه غير متوتر.

الدخول إلى الروضة الشريفة عبر تطبيق “نسك” كان مثالاً على الرقمنة التي غيرت إدارة الشعائر. لم يعد الأمر مرتبطاً فقط بالوصول المبكر، بل بتنظيم إلكتروني يوزع الزوار بعدالة.

المزارات هنا -مسجد قباء، جبل أحد، المساجد السبعة – تحمل روحاً تاريخية بامتياز. ليست مجرد مبانٍ قديمة، بل صفحات حية من التاريخ الإسلامي المبكر، تقرأها العين وتستعيدها الذاكرة، وفي كل زاوية ثمة ما يذكّرك بأن هذه المدينة كانت مسرحاً لأول تجربة حضارية للإسلام.

تفاصيل التنظيم والخدمات

ما يثير الإعجاب أن التنظيم في مكة والمدينة صارم بشكل لا يسمح بالفوضى. الحافلة التي أقلّتنا مثلاً، توقف سائقها في مكان غير مخصص، فلم ينجُ من الغرامة المالية الباهظة حيث دفع 500 ريال سعودي في ظرف أقل من 5 دقائق لا مجاملات ولا استثناءات.

لكن الصرامة لم تُلغِ الإنسانية. في الطرقات يُوزع الماء والطعام، وفرق من الشباب والفتيات يقدمون المساعدة بلغات مختلفة، هناك من يمسك بيد مسن ليدله على الطريق، وهناك من يشرح لمجموعة من الزوار القادمين من إندونيسيا كيفية استخدام تطبيق الحجز، نظافة الشوارع لافتة، وفرق العمل لا تتوقف، كأنما المكان بأكمله في حالة استنفار دائم لاستقبال ضيوف لا ينقطعون.

الوجه الآخر: العمالة المهاجرة وظلال الواقع

وسط الأجواء الروحانية، برزت لي أحاديث جانبية تكشف عن طبقات أخرى من المشهد، التقيت بمصريين يعملان في السعودية، تحدثا بمرارة عن نظام الكفالة ورسوم الإقامة المرتفعة. قال أحدهما: “نحن نعيش بجوار أقدس مكان في الأرض، لكننا نعاني من هموم يومية لم نكن نتوقعها حين جئنا.” فمطلوب منا دفع 6000 آلاف ريال سنويا للكفيل السعودي إذا لم تدفعها لا تجدد إقامتك وتقع عليك غرامات تصل للسجن والترحيل.

كذلك لفت نظري انتشار المتسولين والمتسولات في مكة. نساء كثيرات يجلسن قرب الحرم، بعضهن يبعن الحبوب لإطعام الحمام، وبعضهن يستجدين العابرين، في المدينة المنورة لم أرَ هذا المشهد مطلقاً، لم أجد إجابة شافية لذلك، لكنه سؤال ظل يلاحقني: لماذا تختلف الصورة بين المدينتين رغم تقاربهما في القدسية؟

أثر الجغرافيا في الناس

الاختلاف بين مكة والمدينة بدا لي متجذراً حتى في الجغرافيا. مكة محاطة بجبال شاهقة صلدة قليلة الخضرة، ما يضفي على أهلها شيئاً من الصرامة والخشونة في التعامل، أما المدينة فممتدة في أرض منبسطة، تنتشر فيها واحات النخيل، وجبالها أقل ارتفاعاً، وهو ما يجعل الحياة أكثر هدوءاً، والناس أكثر وداً وبشاشة.

وقد التقيت بأحد الأقطاب المتصوفة، فسألته عن هذا التباين، فأجاب: “الكعبة ميزها الله بالجلال، فهي بيت الله الحرام، أما المدينة ففيها رسول الله الرحمة المهداة، لذلك يطغى عليها السكون والطمأنينة.”

تنوع الجنسيات: فسيفساء إنسانية

في الحرم المكي تحديداً، يذهلك مشهد البشر. آلاف من كل الجنسيات: أفارقة، آسيويون، عرب، أوروبيون، أمريكيون. تعدد أزياء ولهجات ولغات يجعل المكان أشبه بفسيفساء إنسانية ضخمة. أحياناً يصعب التواصل بالكلمات، لكن الابتسامة أو الإشارة باليد تكفي.

إنها صورة مصغرة للعالم الإسلامي، حيث تتنوع الألسن وتتوحد القلوب.

الخاتمة: ما وراء الشعيرة

رحلة العمرة، كما خرجت بها، لم تكن مجرد أداء لشعيرة دينية. كانت رحلة إنسانية وثقافية بامتياز، هي اختبار لتداخل الروحانية مع الجغرافيا، واندماج التاريخ مع الحداثة، ولقاء شعوب متعددة في مكان واحد.

من مطار الأقصر إلى مطار جدة، ومن الطواف بالكعبة إلى الوقوف عند جبل أحد، ومن متحف برج الساعة إلى الروضة الشريفة، كانت الرحلة مرآة للإنسانية كلها: صرامة التنظيم، حرارة الطقس، تعدد اللغات، ورهبة المقدس.

في النهاية، لم أنسَ تلك الموظفة في مطار جدة التي ابتسمت قائلة: “عمرة مقبولة.” كانت كلماتها البسيطة كافية لتغلق الدائرة: رحلة بدأت بالشوق وانتهت بالسكينة، رحلة تذكرك أن العمرة ليست مجرد شعيرة، بل تجربة وجودية تمزج بين الإنسان والمكان والزمن.

اقرأ أيضا:

«أوكرا».. مطبخ إسنا التراثي الذي أعاد للذاكرة نكهة العدس والشلولو

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.