«حصة شبشير».. هنا يصنع عسل النحل بروح وذاكرة لا تزول

على أطراف مدينة السيد البدوي، وفي حضن الريف الأصيل، تقع قرية «حصة شبشير» التابعة لمركز طنطا بمحافظة الغربية. تستكين المناحل فيها بهدوء، وتتراص بيوتها بين الحقول وعلى حواف الطرق، تنبض بحياة مختلفة عن قرى مصر، فهي تنتج 70% من عسل النحل على مستوى الجمهورية.
ولا تقاس الحياة في شبشير بعدد السكان، بل بعدد الخلايا ونموها، ورغم أن الكثير من النحالين اعتزلوا المهنة في السنوات الأخيرة واتجهوا نحو السفر، إلا أن القرية لها طعم مختلف، ففي مثل هذا الشهر من كل عام، تزدهر الأجواء فيها استعدادًا لموسم الفرز، سواء كان يدويًا أم باستخدام الأدوات الحديثة.
موسم جني العسل
انطلقت في رحلة واسعة بين أرجاء القرية، شاهدت أبواب الكتاتيب المفتوحة على أرجائها. صدّقت على حديث العاملين بالمناحل بأن الرزق هذا العام وفير رغم ندرة البرسيم. تأكدت أن في هذه القرية روحا مختلفة، تجذب نحوها الآلاف من العمال ليتذوقوا عسلًا طبيعيًا غير مغشوش. وعندما تذوقته، كان له أثر طيب في نفسي، وشفاءً لتساؤلاتي المستمرة عن احتمالية العيش بجانبه.
كان أبي يعمل في تربية النحل، ومنذ صغري وأنا أخاف القرب من منحلنا. أذكر يوم الفرز جيدًا واحتياطه باستدعاء خبراء من قرية «حصة شبشير». وأذكر أيضا قوله من ملامح طفولتي وهو يأمر أمي إكرام الضيوف لأنهم من «الحصة»، أشهر قرية على مستوى الغربية وقتها في عسل النحل. الآن أصبحت على مستوى الجمهورية وربما العالم العربي.
حارس الخلية
يشبه النحل في صمته وعمله، يدور حول البيوت يبيع إنتاج نحله من العسل في مثل هذا الوقت من كل عام. يدور بخفة وفرح، يشبهه في صبره على الناس لسداد مبالغ العسل والشمع، كما يصبر النحل على رحيقها. هذا هو أقل ما يوصف به عمّ عماد وهو يتحدث عن عشقه للمهنة.
في أحد مناحل قرية حصة شبشير، يصحب عمّ عماد نحله، يطمئن على رحيقه ومجهود عمله. ويقول لـ«باب مصر ـ بحري»، إنه ورث عشقه للمهنة من جده، وبدأ فيها منذ أن كان في العشرين من عمره. وهو الآن يتم الستين، أقبل عليها بتشجيع صديقه أحمد. وافتتحا سويًا منحلهم الخاص والذي ينتج نحله الهجين الكثير من العسل الأصلي الطعم.
ويضيف جميل: «زادي من صناديق الخشب كان ثلاثة فقط، سلمها والدي لي بيديه، أوصاني بالحفاظ عليهم، رغم عدم عمله في المهنة إلا أنه كان يعشق مواسم الفرز وخير الله الآتي. ومنذ لحظتها، وأنا أربت على كل خلية، أعاشرها بروحها الهادئة وأستهلم منها الكثير».

مناحل قرية حصة شبشير
بوجه مٌشرق يستعيد عماد ذكرياته مع النحل، والنظام الذي تعلمه من مراقبة خلاياه. القرية التي يوجد بها نحالون كثيرون ولكن يصبح لخلاياه معنى آخر حينما يطل عليها كل يوم، يعمل بالتربية والتعليم. يستقي من النحل قصصه ويعكسها قيمًا لطلابه. يدون في ذاكرته ملامح القرية منذ نشأته في حواريها وبين مناحلها وعذوبة أهلها كعذوبة عسلهم.
ويتحسر جميل على الحال الذي وصلت له القرية ومهنة النحل فيها. يتحسر على اندثار المهنة بشكل متدرج بعد أن كانت القرية كلها تعمل كخلية نحل فعلًا. يؤكد أن الشباب اتجهوا للسفر للخارج والتعليم العالي بدلًا من نفع القرية وتطويرها والمحافظة على تراثها. يتحسس التغير الذي يحدث في منحله ببطء، يئن لتغيره. ولكنه يرى أنه حتى لو النحل تغير فلن يتغير عشقه له وصبره عليه.
قرية متماسكة
«منذ سبع سنوات صنفت قرية حصة شبشير أنها القرية الأولى على مستوى محافظة الغربية، التي لا يوجد بها عاطل واحد. كله يعمل في خلايا النحل ويتقاضى أجورها، في تصنيع العسل وإنتاجه حتى، الآن.. نهتم بالمناحل بنفس الروح ولكن الشباب لا يساعدون». هذه كانت أولى كلمات الحاج فؤاد بدران، عضو جمعية وادي النيل لتربية نحل العسل لـ«باب مصر – بحري».
وأوضح أن السر في ذلك يعود لرجوع الشباب من العراق. فكان لا بد من إيجاد طريقة تساعدهم على كسب المال فكانت تربية النحل. مؤكدًا أن ما يميز هذه القرية عن باقي القرى المصرية التي تعمل في تربية نحل العسل: أنها نجحت في تصدير منتجات العسل بجانب العسل نفسه. فكان في القرية ورش لتصنيع الشمع، وورش لتصنيع ملابس النحالين، غير مصانع تعبئة عسل النحل وتصديره للخارج.

اندثار مهنة جني العسل
على عكس عم عماد، لا يخشى الحاج بدران من اندثار المهنة في القرية. بل يخاف من اندثار ذاكرة القرية في الأجيال الجديدة، لأنهم حتى لو كانوا يعملون، فإنهم يعملون بلا روح مثلهم. يخاف أن يختفي العسل من كل بيوت النحالين القدامى في القرية والذين اعتزلوا المهنة، يخاف من ضياع سيرة الخلية.
يمتلك الحاج فؤاد مناحل كثيرة في الجبل، في البحيرة وكفر الشيخ. لكنه لم يعد يسافر كثيرًا كما كان من قبل. يؤكد أنه يحافظ على أهل القرية في الوقت الحالي في مواسم الفرز ولا يفرز فيها، يشرف على خلاياه من بعيد. يشجع أولاده على عدم تركة المهنة وتذكرها دومًا والسفر والانتشار بالعسل ومنتجاته.
واختتم بدران حديثه قائلا: «ما يربط القرية ببعضها هو نحل العسل، لو توقفنا عن تربيته ستتوقف الحركة في القرية. هنا بدأت المهنة في القرية من خمسينات القرن الماضي. وبدأت حصر شبشير تعرف في جميع بلاد مصر، ويتغذى أبناؤها منه، دائمًا ما أقول إنه من يعرف شبشير فقد عرف العشرة الحسنة ومعنى الحياة والعمل بانتظام. كل من في القرية يدرك ذلك المعنى جيدًا».
أنواع العسل في حصة شبشير
يفتخر موسى الرفاعي بأنه سليل أربعة أجيال امتهنت النحل في قريته، يعبر لـ«باب مصر – بحري» عن امتنانه وشكره لله لأنه قضى عمره بين المناحل. توارث منها الصبر والحكمة، قدره أن رزقه يراه أمام عينيه كل عام، حتى ولو بذل مجهودًا أعلى والإنتاج قليل. فيكفيه أنه كان شاهدًا على قطرات العسل التي تنزل من الخلايا بكل حبٍ ورضا بتقسيم الخلاق.
يحب الرفاعي أنواع العسل الذي تنتجه ملكات الخلايا في القرية. يحب عسل السدر والبرسيم والموالح، يحب فرز شهري يونيو ويوليو من كل عام. ويعشق السفر للجبل بعد ذلك لعيش قصة أخرى مع عسل السدر، يؤكد أن الملكة القوقازية هي أفصل أنواع الملكات في منحله، هذا بجانب الهجين والكورنيولي.
ويشير إلى بداية المهنة في القرية منذ خمسينات القرن العشرين. حيث حمل رجل يدعى الحاج محجوب، خلاياه من قنا، وجاء للقرية ليستقر بها. يسمع أنه أعجب بهوائها الطلق ونمو الأزهار فيها، منذ لحظتها والنحل جزء أصيل من تفاصيل البيوت والحكايات.
إلى أين تمضي القرية؟
بعد جولتي في القرية، لاحظت أن معظم البيوت تعيش على الترحال الموسمي بخلايا النحل. إذ تنطلق في الشتاء إلى الجنوب والأماكن الدافئة، وتعود إلى القرية لجني العسل الأبيض. هناك في القرية لهجة خاصة، مختلفة عن لهجة أهل الغربية، لهجة ذات نزعة حماسية، محفوفة بالصبر، وببشاشة وشغف للحديث عن كل ما يخص عسل النحل.
وتجد في حصة شبشير مزيجًا نادرًا من التنوع الثقافي والزراعي، تدمج بين التراث والاقتصاد الشعبي والحداثة، لا تنتج العسل فقط. بل تركز على جعل رائحته الزاكية تصل إلى كل جوانب المحروسة، تحتفظ نساء القرية بمهارة تصنيع الشمع بأيديهن. ورغم أن الأسعار زادت فأصبح كيلو العسل بـ200 جنيه. إلا أنهم دومًا ما يحاولون الحفاظ على جودة العسل وعدم الالتفات لمن يغشونه.
مشكلة تسويق العسل
لا تخلو الحياة هناك من العقبات، ولكنهم يحاولون دومًا السيطرة عليها، خاصة أن التسويق للعسل أصبح مشكلة. حيث يقتصر على القرى المجاورة والزبائن القدامى كما يقول علي، أحد الشباب العاملين في المنحل. وأيضًا الذبذبات التي يتلقاها النحل إثر تعرضه لأعمدة الكهرباء في الحقول، تؤثر على جودة إنتاجه، التطوير الذي ينال القرية كل يوم يصبح عبئًا عليهم. ولكن الثبات على مبادئهم في عدم غش العسل يعتبر ما يميز القرية حتى الآن.
وعلى إيقاع جناحي النحل، تبقى القرية تجاهد حتى الرمق الأخير كما يعبر أهلها. تحتفظ بسحرها رغم التحديات، ويتعلم أهلها من مناحلهم الصبر والانتظام والحكمة والعمل بجد والتنظيم. تمضي الحياة هناك بخفة لا يشعرها العابرون، ولكن الإثمار هو أعظم ما يمكن أن تداوى به القلوب والأبدان؛ هو «عسل النحل». قرية علمت أهلها أن كل ما هو جميل يبدأ من «الخلية».
اقرأ أيضا:
هل تُعوّض بدائل قرى الغربية غياب بيوت الثقافة المهددة بالإغلاق؟