دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

«حسن الإمام»: الجسد الحر مجازا للأمة المستقلة

كانت عبقرية حسن الإمام كمخرج تكمن في التراسل والتناغم بين بنية حكايات أفلامه وبنية الخيال العميق في المجتمع المعاصر لإنتاجه. في السبعينات من القرن العشرين، تسيدت “أفلام العوالم” الأنواع الأخرى التي أخرجها حسن الإمام، وأصبحت بحق وسيلة لإعادة كتابة التاريخ “من أسفل”. وتزامنت موجة أفلام العوالم تلك مع اتجاه الصحفيين اليمينيين في السبعينات نفسها إلى إعادة كتابة تاريخ مصر كما عرفناه في بدايات مرحلة التحرر الوطني، لإعادة تأهيل فترة الملكية وانتقاد المرحلة الناصرية.

لكن هذا الحس المرهف الذي يلامس بنية الخيال السائدة في المجتمع يعبر عن نفسه منذ بدايات الإمام. وتحديدا منذ أخرج حسن الإمام فيلم “الجسد” سنة 1955، في لحظة لم يكن الزعيم جمال عبد الناصر قد استكمل فيها إحكام قبضته على البلاد. وربما جاز أن نعتبر الإمام مخرجاً يستشرف المستقبل إن اتفق القارئ مع تحليلي التالي.

تحرير الجسد وتقييده

منذ بدايات النهضة، وبالتأكيد منذ بداية القرن العشرين، تسببت علمنة المجتمع المتسارعة في تحويل البلاد إلى جسد. باعتبار أن العلمنة تجعل من الجسد وظهوره القوي في المجال العام محوراً من محاور تجليات الحداثة في المجتمع. وتأكد مسار تلك العلمنة في مصر بعد ثورة يوليو 1952. حصل الجسد المصري على حرية وطنية برحيل الملك والإنجليز عن البلاد، لكن المقابل كان تخلي الجسد/ المجتمع المصري عن الحرية السياسية. تماماً مثلما عاشت هند رستم في فيلم “الجسد”.

تحررت الشابة هند رستم من سيطرة أمها فاطمة رشدي التي كانت تعلمها الرقص، لتتكسب من جسد ابنتها وتدير أعمالها في ملهى ليلي، بصفتها ولية أمر الراقصة الصبية ثم الشابة. لكن هذا التحرر كان ثمنه وقوع هند رستم فريسة لما يشبه حب المحارم. إذ أقامت علاقة مع رجل في سن أبيها (سراج منير)، ثم وقعت فيما بعد في حب رجل (كمال الشناوي)، اتضح أنه ابن عشيقها. أي كأنها ارتبطت برجل وبابنه.

***

على المستوى المجازي والرمزي، تعادل هذه الحبكة تماماً مثالاً مقلوبا للابنة التي تتزوج بمن في مقام أبيها، أي مثال أم تتزوج ممن في مقام ابنها، أو تتزوج من ابنها. أو مثلما في مجاز مصر التي تتزوج من ابنها/قائدها ناصر. وهو الزواج الذي تم بعد عرض الفيلم بسنة. وقع زفاف مصر على ناصر عام 1956 في بورسعيد، في طقس مهيب اسمه العدوان الثلاثي الغاشم.

مثلما ينتج فيلم “الجسد” صورة حب محارم، ينتج الواقع التاريخي مجاز حب محارم بين القائد والأمة أو الأم (ة). واختيار حسن الإمام لهند رستم في فيلمه، لتكون تجسيداً، أو مجازاً مرسلاً لهذا الجسد المجتمعي أو معادله، ينم عن ذوق عالٍ، نظراً لجماها الفائق وأناقتها الرائعة. كما يكشف هذا المجاز عن وعي ما بأن تحرير جسد المرأة المتواكب مع تحرير البلاد من الاستعمار، لا بد أن تدفع عنه البلاد ثمناً كبيراً.

الرئيس السادات يكرم المخرج حسن الإمام.. الصورة من الكاتب
الرئيس السادات يكرم المخرج حسن الإمام.. الصورة من الكاتب
تحرر الجسد الوطني

في دراسة بالفرنسية عن تناول الجسد في السينما المصرية، قلت إن لحظة التحرر الوطني المصري كانت أيضا لحظة تحرر الجسد الوطني. لو اعتبرنا لحظتي التحرر الوطني الدامغتين هما 1952 مع قيام ثورة يوليو و1956 مع الجلاء النهائي لقوات الاحتلال البريطاني بعد العدوان الثلاثي على مصر، فظهور الجسد كموضوع درامي وكمحور بصري في السينما قد تزامن مع هذين التاريخين.

ظهور جسد عمر الشريف نصف العاري عام 1954، في فيلم يوسف شاهين “صراع في الوادي”، وترسخ نجومية هند رستم عام 1955، في فيلمي “بنات الليل” و”الجسد” أي في الفترة نفسها، قد مثلا إعلاناً رمزياً عن تحرر الجسد المواكب لتحرر البلاد من الاستعمار.

وليست صدفة أن الجسد المتحرر بالتعري أو بالرقص في تلك الأفلام كان جسد الطبقة العاملة أو الشرائح الشعبية البسيطة في مناطق زراعية فقيرة (في الصعيد) في حالة دور عمر الشريف، وفي أحياء مدينية شعبية في حالة دوري هند رستم. وكذلك لا تخفى رمزية تعري جسد رجل شاب مثل عمر الشريف، وكأنها إشارة إلى شباب جسد الدولة الفتية، دولة التحرر الوطني التي ولدت قبل عرض “صراع في الوادي”. بالمثل، فبزوغ جسد هند رستم الراقص كمحور لأحداث جادة يعادل فكرة تحرر جسد المرأة في الدولة المتحررة حديثاً من الاستعمار.

***

بالطبع إن كشف مساحة كبيرة من جلد الممثل النجم، أو جسد الممثلة النجمة، ليس بالضبط هو موضع التحرر. إنما ينجم التحرر عن محورية الجلد المكشوف وإيروسيته في الصورة. يكفي أن تتذكر الفارق بين حسين صدقي مرتديا بذلة صيفية على شط البحر -لا مايوه- في فيلم”شاطئ الغرام” إخراج هنري بركات عام 1950، وعمر الشريف بدون قميص في “صراع في الوادي”، بعد أربع سنوات فقط من عرض فيلم بركات.

ليس الفارق بين جسدي النجمين الأولين هو أن عمر الشريف رياضي بينما حسين صدقي بدين، ولا أن أحدهما يكشف صدره، بينما يرتدي الثاني كامل ملابسه. لكن الفارق أن الكاميرا بعد يوليو 1952 تتوقف عند الجسد والعرق وصمت الممثل والموسيقى. وأن إيروسية الجسد يؤكدها أن شريط الصوت في “صراع في الوادي” تطغى عليه بحة صوت عمر الشريف. كذلك الحال في فيلمي “الجسد” و”بنات الليل” من إخراج حسن الإمام، يصاحب مركزية الجسد الأنثوي في الصورة طغيان بحة الصوت المثيرة عند هند رستم.

وبمعنى ما، فكشف الجسد هو مجاز للتحرر والتنوير. والتنوير نفسه يفهم في الغرب بوصفه كشفَ الحقيقة. وفي حالة جسد أنثوي محوري، مثل جسد هند رستم، يعادل كشف جسد النجمة والتأكيد على إيروسيتها، مجاز المرأة/مصر وهي ترفع الطرحة عن رأسها في تمثال “نهضة مصر”. في الحالين، النهضة مؤنثة. ومجاز تحرر الوطن/المرأة هو الكشف عن مساحة رمزية من الجسد، بإزاحة نسيج أو ملابس.

الرقاصة ربة الجمال

ولع حسن الإمام بنموذج الرقاصة، بوصفها ربة من ربات الجمال، وعلامة من علامات صناعة الترفيه، لم يبدأ مع أفلام العوالم التي اشتهر بها في السبعينات والتي يمكن أن نرجعها إلى “شفيقة القبطية”. ما زالت ذاكرتنا البصرية تحفظ أفلام الإمام عن العوالم والفنانات شفيقة القبطية وبمبة كشر ومنيرة المهدية وبديعة مصابني.

لكن فيلم “الجسد” هو أول فيلم للإمام تتكشف فيه بوضوح ملامح تصوره لمحورية دور الرقاصة في الحياة المصرية. فالرقاصة هي المعادل الحديث لربات الخصوبة القديمة. تمتزج فيهن قداسة الربوبية بالتحامهن اللحماني والنوراني مع الحياة اليومية الأرضية الجسدية. ولهذا فعنوان الفيلم هو حرفياً: “الجسد”، ومحوره جسد هند رستم. عند الانتقال من عصر الوثنية إلى عصر التوحيد المسيحي، حدث خلط بين تمجيد كاهنات ربات الخصوبة لأجسادهن، في إطار شعائر الخصوبة، وبين ممارسة الرقص بهذا الهدف، وبين ممارسة الدعارة. الخلط نفسه ظهر في المجتمع المصري بين وظيفتي الراقصة والعاهرة. كما أن السينما في زمن الأبيض والأسود قد استغلت هذا الخلط لتستخدم الراقصة كمجاز للعاهرة، تجنباً لإثارة حفيظة الرقابة، التي لم تكن تستسيغ تصوير العاهرة بصراحة.

***

لكن الفيلم أيضاً يمثل تحية كبيرة لنجمة العشرينات والثلاثينات فاطمة رشدي. في “الجسد” تلعب فاطمة رشدي دور أم هند رستم، وهي الأم التي تبني حياتها على تربيتها لبنتها كرقاصة، تتعلم الرقص منذ سن ست سنوات. عرض فيلم “الجسد” عام 1955، في لحظة كانت فاطمة رشدي قد اختفت فيها من ذاكرة الجماهير مستهلكة التسلية. لكنها بقيت في ذاكرة حسن الإمام بوصفها الجسد “الأصلي”، حينما ارتبط بنجمة عشقها الملايين منذ العشرينات في دور الفتاة الأولى أو الحبيبة الأولى على الخشبة وعلى الشاشة. ولم يكن دور الحبيبة الذي لعبته فاطمة رشدي في فيلم كمال سليم “العزيمة” (1939) إلا جزءًا من المرحلة الختامية لصورتها كنجمة شابة محبوبة ومشتهاة.

في فيلم “الجسد” لم يزل جسد فاطمة يتمتع بهيبة تاريخية وأمومية، لأنه لم يعد جسداً شاباً. لكنه جسد جسماني شهواني أيضاً، يعبر عن حسيته من خلال تعليمه الرقص للجسد الشاب، جسد الابنة اللي تصبح بعد ربع ساعة من بداية الفيلم هند رستم. وهكذا فاحتفاء السينما المصرية بالرقاصة ليس مجرد حيلة تجارية أو مجازاً تحررياً، بل هو أيضاً استدعاء لموروث قديم يحتفي بالراقصات المقدسات في شعائر الخصوبة الوثنية.

إذاً فيلم “الجسد” علماني في أحد أبعاده، يؤكد حضور الجسد على شاشاتنا وفي فضاءاتنا العامة. وينحي مركزية الكلمة المنطوقة والمقروءة، لصالح الجسد الملموس وصورته المرئية. ويشير إلى مجاز الكشف بوصفه إظهاراً لنور العقل، مثلما ترفع الغلالة عن البصر. والفيلم تحرري في بعدٍ ثانٍ، يؤكد على مجاز تعرية الجسد/تحرير الوطن. فتعرية هند هي استعارة لتحرير مصر. وفي بعدٍ ثالث، فيلم “الجسد” أسطوري، يسترجع ذاكرة جمعية تحتفي بالراقصة في المعابد القديمة، مثلما في عبادة آمون، حيث كان رقص “عذارى أمون” طقساً يحفز الطبيعة على الخصوبة.

التعري/التحرر والستر/الحماية

بدأ حسن الإمام في الإخراج منفرداً حوالي عام 1945 فأقدم فيلم يحمل توقيعه كمخرج، وفقاً لموقع السينما كوم هو “ملائكة جهنم” الذي عرض في أول يناير 1946، أي أن صناعة الفيلم تمت في العام السابق. واستمر الإمام في العمل مخرجاً مساعداً لأساتذته مثل أحمد جلال ويوسف وهبي، حتى بعد أن أخرج وحده فيلم “الستات عفاريت” عام 1947.

أما تأكد بصمته كمخرج متمكن وصاحب أسلوب وصنعة فحدث عام 1948، مع عرض فيلم “اليتيمتان” الذي عادة ما يسمى “اليتيمتين”. أي أن استقلال الإمام فنيا قد بدأ في التحقق في فترة الملكية، غداة الحرب العالمية الثانية. لكن تأكد تميز الإمام قد وقع عام 1948، في لحظة زمنية تتوجه بالفعل نحو شرارة يوليو 1952. فحرب فلسطين وهزيمة الجيوش العربية فيها عام 1948 تمثل صدمةً يمكن اعتبارها بداية مرحلة السعي الحثيث نحو التحرر الوطني.

***

لو التفت المراقب إلى أن حسن الإمام قد أخرج فيلمين فارقين ثقافياً سنة 1955، أي بعد قيام الثورة بثلاث سنين: “الجسد” و”بنات الليل”، لأمكن له تلمس العلاقة الرمزية والثقافية بين ظهور الجسد الأنثوي وطلوع “فجر” الثورة، بفتح الباء. ولو انتبهنا إلى أن الفيلمين يركزان على صورة المرأة الرقاصة وبائعة الهوى، فقط تلك التي تسلك هذا الطريق مضطرةً، بسبب قسوة الناس والظروف وظلم المجتمع، لأمكننا أن نفهم فعالية عمل الإمام على المستوى الرمزي. فحسن الإمام يستدعي هذه المرأة، ليس فقط للتأكيد على أن الثورة حررت جسد المرأة وجسد الوطن معا. ولكن لتبرير الثورة أخلاقيا.

جاءت الثورة لتحمي النساء، ولكي لا تضطر أي امرأة بعد 1952 إلى أن تكون بائعة هوى. بالطبع، يبتعد تصوري هذا عن تصورات حسن الإمام عن فنه. من المؤكد أنه لم يكن يقصد عامداً أن يصنع فيلماً عن بنات الليل، خدمةً للثورة وتحيةً لدورها الاجتماعي. ما أعنيه وأقصده أنا هو أن أفلام حسن الإمام مفتوحة دائماً على مخزن خيالنا الجمعي، وأنه عندما يصنع فيلما وكأنه ينطق بحكمة ويصوغ خلاصة ما، فإن تلك الخلاصة عادة ما تكون صدى لحراك يشغل لاوعينا جميعاً.

بعبارة أخرى، كان حسن الإمام يعبر عن روح العصر أو يجسدها بالصورة، بدون تنظير وتفكير عميق. وهذه القدرة موهبة في حد ذاتها، لا تتعارض مع كون الإمام فناناً اختار أن يقدم فنه للجماهير العريضة في سينما شعبية. ورغم أنه كان مثقفاً جداً وأبعد ما يكون عن السطحية.

اقرأ أيضا:

عوالم حسن الإمام: «بديعة الكاميليا» و«غادة مصابني»

حكاية الغناء والعروبة مع الزمان

واقعية صنع الله رائد جيل الستينات

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.