حرائق القاهرة: تاريخ طويل والفاعل دومًا مجهول

أثار حريق مبنى سنترال رمسيس الكثير من الشجون حول تاريخ الحرائق مع مدينة القاهرة، ففي الكثير من اللحظات والمنعطفات التاريخية شكلت الحرائق نقطة تحول في تاريخ المدينة العمراني، وبداية مرحلة جديدة في تاريخ المدينة تتجاوز مجرد حريق عابر التهم مبنى أو عدة مباني، أحيانًا يكون الحريق مدبرًا وأحيانًا لا يتجاوز خانة الإهمال، ولكن المحصلة واحدة وهي أن مدينة القاهرة لديها تاريخ في الحرائق التي غيرت الكثير من معالمها.
** **
الحريق الافتتاحي هنا كان في مدينة منفصلة سرعان ما ابتلعتها القاهرة وحولتها إلى حي ملحق، القصد هنا على مدينة الفسطاط (مصر القديمة حاليًا)، التي كانت العاصمة السياسية لمصر على مدار ثلاثة قرون ثم أصبحت العاصمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية طوال العصر الفاطمي (358- 567هـ/ 969- 1171م)، لكن في نهاية العصر الفاطمي، قرر الوزير شاور إحراق مدينة الفسطاط، لعجزه عن الدفاع عنها أمام تقدم الجيش الصليبي، فظلت النار تأكل في المدينة لـ 54 يومًا، وشكل قرار شاور هذا نقطة تحول فمن هذه اللحظة، حسمت القاهرة الصراع مع الفسطاط فأخذت الأولى في النمو والأخرى في التراجع، حتى ابتلعت القاهرة مدينة الفسطاط وحولت بقاياها إلى حي ملحق عرف باسم مصر القديمة أو العتيقة، بينما شكل الحريق علامة نهاية للدولة الفاطمية فبعد ثلاث سنوات أسقط صلاح الدين دولتهم وأسس دولة الأيوبيين.
** **
وشهدت القاهرة التي دخلت مرحلة فوران عمراني في العصر المملوكي (648- 923هـ/ 1250- 1517م)، عدة حرائق طوال هذا العصر بسبب اكتظاظ المدينة بالسكان، وتخلف وسائل مواجهة الحرائق وقتذاك، فبداية حكم المماليك شهدت أحد أشهر حرائق القاهرة، فبعد أن قتل أيبك وشجر الدر الأمير المملوكي فارس الدين أقطاي سنة 652هـ/ 1254م، هرب مماليكه وفي مقدمتهم بيبرس البندقداري، حاول عز الدين أيبك القبض عليهم فأمر بإغلاق أبواب القاهرة، لكنهم هجموا على باب القراطين؛ أحد أبواب المدينة في سورها الشرقي، وأحرقوه وخرجوا منه هربًا إلى الشام، ومن حينذاك عرف الباب باسم “الباب المحروق”.
وترصد المصادر المملوكية الكثير من الوقائع المتعلقة بحرائق في المدينة بسبب صراع المماليك على الحكم، ومن الحرائق الكبيرة في العصر المملوكي حريق حي بولاق، وكان الأخير هو ميناء القاهرة والمدخل النهري للمدينة الذي تأتي عبره مختلف السلع والمؤن للمدينة، ففي سنة 862هـ/ 1457م، وقع الحريق الذي التهم معالم الحي العريق، حتى أن المؤرخ المملوكي ابن تغري بردي قدر الخسائر بقوله: “كان عدة ما احترق فيه من الأرباع زيادة على ثلاثين ربعًا، كل ربع يشتمل على مائة سكن وأكثر، أعاليه وأسفله، ما خلا الدور والأماكن والأفران والحوانيت وغير ذلك”.
لكن تظل أشهر حرائق القاهرة في العصر المملوكي تلك المتعلق بفترة سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة (709-741هـ/ 1310-1341م)، فرغم أن عصر السلطان بيبرس البندقداري شهد واقعة حريق التهم حارة الباطلية (الباطنية) بالكامل سنة 663هـ/ 1265م، إلا أن الواقعة الأشهر هي حرائق سنة 721هـ/ 1321م، في إطار فتنة طائفية شملت الكثير من الحرائق التي طالت كل مكان في القاهرة، فهدمت الكثير من الكنائس وأحرقت النيران الكثير من البيوت والأرباع والفنادق والمساجد والمدارس، وكان أعنف هذه الحرائق في المنطقة بين حارة زويلة وحارة الروم، وذهب في هذه الحرائق الكثير من المنشآت المهمة في مقدمتها ربع السلطان الظاهر بيبرس خارج باب زويلة، والذي تعرف المنطقة باسمه حتى الآن؛ (تحت الربع) رغم زوال رسمه.

حريق القاهرة
واستمر الوضع على نفس المنوال في العصر العثماني، بسبب ضعف وسائل الحماية المدنية، إلا أن العصر الحديث شهد الحرائق الأكثر شهرة، فإذا كان حريق الفسطاط علامة على نهاية دولة الفاطميين قبل ألف سنة، فإن حريق القاهرة الشهير في 26 يناير 1952م، علامة ساطعة على قرب أفول حكم أسرة محمد علي (1805- 1953م)، وهو الحريق الذي جاء في ظل أوضاع شديدة التوتر مرت بها البلاد بعد إلغاء مصطفى النحاس العمل بمعاهدة 1936، التي جعلت وجود الاحتلال البريطاني في القناة غير شرعي، فبدأت أعمال المقاومة الوطنية التي رد عليها الاحتلال بارتكاب مذبحة ضد الشرطة المصرية في الإسماعيلية في 25 يناير 1952، لتكون النتيجة انفجار الأحداث في القاهرة.
لا أحد يعلم على وجه اليقين الجهة التي وقفت خلف حريق القاهرة، خصوصا في المنطقة الواقعة بين ميدان إبراهيم باشا وشوارع فؤاد وسليمان باشا وقصر النيل، ألقيت التهمة على الجميع؛ القصر والإنجليز وتنظيم الضباط الأحرار والإخوان والتيار الشيوعي، وقد استفاضت الصحف وقتذاك في تغطية الحريق وما جرى فيه، وترك لنا المؤرخ عبد الرحمن الرافعي سردية تاريخية متماسكة عن أحداث هذا الحريق، وقد بدأ حديثه في كتاب (مقدمات ثورة 23 يوليو 1952): “في يوم السبت 26 يناير سنة 1952، وقع حادث مشؤوم في تاريخ مصر، لم يسبق له مثيل في نوعه، وهو حريق القاهرة، كانت هذه أول مرة أضرم فيها النار فريق من أبنائها، تحت سمع الحكومة وبصرها، وبإهمالها وتهاونها”.
** **
بدأت الأحداث بمظاهرات شعبية كرد فعل على مقتل رجال الشرطة على يد الإنجليز بالإسماعيلية، أول نقاط الحريق كانت في ميدان الأوبرا، بمهاجمة كازينو أوبرا، الذي أشعل المتظاهرون فيه النار، يقول الرافعي: “فلم تكد النار تشتعل في كازينو أوبرا، حتى سرت عدوى الحريق بين المتظاهرين، فراحوا يشعلون النيران في الأماكن والأحياء المجاورة، ثم امتدت إلى الأماكن الأخرى، وكان المتظاهرون يستعملون في إضرام النار البترول والبنزين والكحول، وما إلى ذلك من مواد الحريق، وتخلل الحرائق نهب وسلب لمعظم المحلات المحترقة”. ويعدد الرافعي الشوارع التي امتدت إليها النيران فنجد أنها تكاد تشمل قاهرة وسط البلد بالكامل.
وكان الإحصاء النهائي لحريق القاهرة، كالتالي: 300 متجر منها كبرى المحلات التجارية بالقاهرة، و30 إدارة ومكاتب لشركات كبرى، 117 مكتب أعمال وشقق سكنية، و13 فندقا من الفنادق الكبرى، في مقدمتها فندق شبرد العالمي، و40 دارًا للسينما، وثمانية محال ومعارض كبرى للسيارات، و10 متاجر للسلاح، 73 مقهى ومطعما وصالة، 92 حانة، و16 ناديًا، وبنك واحد هو بنك باركليز، وبلغ عدد القتلى في هذا اليوم 26 شخصًا، منهم 13 في بنك باركليز، وتسعة في التورف كلوب، وواحد أمام بنك باركليز، واثنان أمام محل عمر أفندي، وواحد توفي أثناء حريق أحد المتاجر بشارع شريف، في ما بلغ من أصيبوا بحروق أو كسور أو جروح 552 شخصًا.
وشكل حريق القاهرة علامة النهاية للنظام الملكي، فبعد أشهر قليلة نجح تنظيم الضباط الأحرار في الإطاحة بالملك فاروق، ثم أعلنوا في العام 1953م اسقاط نظام أسرة محمد علي وإعلان الجمهورية، مع دخولنا في العصر الجمهوري استمرت الحرائق تضرب القاهرة وتشكل معالمها فالكثير من الحرائق ضربت شركات في ظاهرة باتت متكررة وتحمل شبهة إخفاء معالم فساد استشرى تحت ذريعة الحرائق التي تلتهم أرشيف هذه الشركات في صورة باتت مكررة درجة الملل وتابعتها الصحف على مدار عقود.

الأوبرا المصرية
لكن الحريق الذي شكل منعطفا في مصر هو حريق الأوبرا المصرية في منطقة الأزبكية، والتي افتتحت في نوفمبر 1869م، ضمن تجهيزات الخديو إسماعيل لافتتاح قناة السويس، وظلت تعمل حتى 28 أكتوبر 1971م، عندما شب حريق في المبنى الخشبي للأوبرا، التي كانت تحفة معمارية في قلب القاهرة وأحد أبرز معالمها الثقافية والفنية، كان حريق المبنى علامة على نهاية عصر من الرقي والفن والجمال، وبداية عصر القبح والمادية والتشوه المعماري الفج، فبني مكان الأوبرا جراج للسيارات متعدد الطوابق، بشكل قبيح كرس عشوائية المنطقة التي كانت تشع جمالا ذات يوم.
المسافر خانة
الحرائق أضاعت على القاهرة واحدة من أشهر مبانيها وأكثرها جمالا، ففي دروب حي الجمالية، كان ينتصب قصر المسافر خانة، الذي يعود بتاريخه إلى شاهبندر التجار محمود محرم، الذي كرس عظمة ثروته الضخمة في بناء منزله بين دربي المسمط والطبلاوي، سنة 1193هـ/1779م، جاء القصر تحفة معمارية بما امتاز به من أعمال خشبية شديدة الدقة، حتى قيل إن فيه أكبر مشربية في العالم الإسلامي كله، والصور التي خلدت الأثر البائد تحمل لنا بعض روح العظمة التي جعلت البيت واحدا من أعظم بيوت القاهرة في وقته، حتى نزله إبراهيم باشا بن محمد علي باشا، وفيه ولد الخديو إسماعيل، ثم تحول إلى دار لاستقبال ضيوف الدولة، فعرف باسم المسافر خانة، وظل قائمة حتى احترق بنيران لا يعرف من أشعلها في أكتوبر 1998م.
بكى ابن حارة الطبلاوي، جمال الغيطاني، الأثر الذي عاش في أحضانه أيامه الأولى في مرثية على شكل كتاب باسم (استعادة المسافر خانة.. محاولة بناء من الذاكرة). يقول الغيطاني عن المسافر خانة باندفاع محب حتى الوله: “القصر الذي يضارع الحمراء [في غرناطة]، وإيوان كسرى، وطوب قابي سراي، وصولمه باشا، إلى ما لن نجده من الماضي أو الحاضر الذي التهمته النيران الآثمة”. وحكى الغيطاني وهو شاهد عيان كيف أهمل القصر المغلق، ولم يعد له بعض الاهتمام إلا على هامش الاحتفال بالذكرى الألفية لمدينة القاهرة سنة 1969، ثم سلم بعدها إلى مجموعة من الفنانين ليمارسوا فيه أعمالهم الإبداعية، لكن جاء الحريق في أكتوبر 1998، والذي لا يعرف حتى يوم الناس هذا من تسبب فيه لينهي كل شيء، التاريخ والجمال والفن.

مبارك وحرائق الثورة
قبل نهاية حكم الرئيس السابق حسني مبارك (1981- 2011م)، وقع حريق هائل ظلل سماء القاهرة بسحابة سوداء، كان هذا مبنى مجلس الشورى (الغرفة الثانية من البرلمان)، ولم يعرف من يقف خلف الحريق وإن كان التماس الكهربائي متهم مفضل لتبرير هذه الجرائم، المبنى التاريخي يعود إلى العام 1866م، عند تأسيس مجلس شورى النواب في عصر الخديو إسماعيل، لكن النيران حرقت التاريخ الطويل للمبنى، والذي أعيد بناؤه بعد ذلك بنفس الشكل المعماري، لكن ثورة يناير 2011 جاءت سريعا وأطاحت بنظام مبارك، الذي شهد عصره الكثير من الحرائق بما فيها حريق المسرح القومي في 2008، وحرائق متفرقة في القاهرة القديمة.
ووقعت بعض الحرائق في قلب المدينة ضمن أحداث ثورة يناير 2011، ربما يكون الحريق الأشهر الذي طال مبنى الحزب الوطني المطل على نيل القاهرة بجوار المتحف المصري، اشتعلت النار في المبنى في يوم 28 يناير، فالمبنى الذي بني في عهد الزعيم جمال عبد الناصر، استخدم كمقر للاتحاد الاشتراكي، ثم الحزب الوطني، وكلاهما تنويعة على الأداة التي استخدمتها السلطة كبديل لحياة ديمقراطية سليمة، لذا استهدف الثوار المبنى وأحرقوه ثم تعرض لنهب كنتُ شاهد عيان عليه، ثم صدر القرار الرسمي بهدم المبنى الذي ظلت علامات الاحتراق واضحة على واجهته كعلامة على انتهاء دولة مبارك، في العام 2015، بينما أحرق المجمع العلمي في مدخل شارع قصر العيني ضمن أحداث مجلس الوزراء في 17 ديسمبر 2011، وهو المبنى الذي يضم تشكيلة ضخمة من الكتب النادرة التي أكلتها النيران.
وفي العقد الأخير زارت الحرائق القاهرة أكثر من مرة خصوصا في الأحياء القديمة، مثل حريق الرويعي في 2016، وحريق الموسكي 2024، وهي مناطق تجارية مكتظة، وجاءت الحرائق بالتوازي مع إعلان الحكومة عن خطة لتطوير منطقة الأزبكية كلها، لنصل في النهاية مع حريق سنترال رمسيس، هذا المبنى الحيوي والذي أثر سلبا على حياة القاهريين جميعا، فالمبنى الذي يعود إلى نهاية عشرينيات القرن الماضي، لم يتوقع أحد أن يكون له هذا التأثير الحاسم على شبكة الاتصالات.
** **
هكذا يتشابك تاريخ القاهرة مع الحرائق التي لا تخلو منها مدينة، ولكن حظ القاهرة أن معظم حرائقها الكبرى كانت عند منعطفات تاريخية مهمة، علامة على زوال عصر وبداية آخر، هذا الملمح أكسب حرائق القاهرة طابعها الخاص، ثباتها في الذاكرة، تأثيرها الأكبر من كونها مجرد حرائق عابرة، فعلى الرغم أن المعزية مدينة ذات حيوية هائلة ولم يوقفها أي من الحرائق الكثيرة التي مرت بها عن مسيرتها في النمو العمراني والتضخم السكاني، إلا أن الحرائق التي عادة ما تسجل ضد مجهول، كانت محطات مهمة وكاشفة في تاريخ المدينة، وتركت من الآثار العميقة في مجرى التاريخ أكثر بكثير مما التهمته ألسنة النيران.
اقرأ أيضا:
الجريمة مستمرة: نقل رفات أمير الشعراء أحمد شوقي تمهيدا لهدم مقبرته