جمال عمر يكتب في ذكري نصر أبوزيد: ثلاثة عقود من قصة التفرّيق

كنت أستمع لمحاضرة بالإنجليزية للباحثة الألمانية أنجيليكا نويفيرت، وقدمتها في مركز الدراسات الإسماعيلية بجامعة آغا خان بلندن هذا العام، عن الدرس الأدبي للقرآن، وأفكر في حالة عدم الاهتمام بمدرسة الشيخ أمين الخولي بجامعة فؤاد الأول في دراسة الموضوع، وفي كل المحاضرات التي سمعتها لها عن الدرس الأدبي لا تشير لهذه الجهود.

وفي موضع من مواضع المحاضرة، ذكرت اسم نصر حامد أبوزيد، منطوقا بكيفية نطقة في اللهجة المصرية، وليس منطوقا بكيفية نطق اللغة الفصحى.

أبوزيد، الذي أعده آخر حلقة من حلقات مدرسة الخولي للدرس الأدبي للقرآن الكريم، المدرسة التي تم محاربتها في أربعينات القرن العشرين، وتم القضاء على جهودها في قسم اللغة العربية بكلية آداب القاهرة. وكانت دراسات نصر في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي هي إحياء لهذه المدرسة.

كل هذا تجمع في شهر يوليو، الذي يشير إلى مرور عقد ونصف على رحيل نصر أبوزيد عن عالمنا. لكن عام 2025 يشير إلى مرور ثلاثة عقود على حكم محكمة استئناف مصرية على التفريق بين نصر أبوزيد وزوجته د. ابتهال يونس، القضية التي رفضتها محكمة ابتدائية، وقبلتها محكمة استئناف وقضت فيها، وتم إيقاف تنفيذ الحكم وأيدت محكمة النقض الحكم.

محنة عدم الترقية

كانت عملية انهيار الكتلة الشرقية/ الشيوعية في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وموجة أعمال العنف التي تولدت من جماعات العائدين من الجهاد في أفغانستان بعد خروج السوفيت، عامل حافز للتيارات الدينية، وكانت أيضا مناظرات ومواجهات فكرية، بين أصحاب التيار “الإسلامي”، وأصحاب التيار “المدني/ العلماني”، المواجهات أخذت أشكال متعددة. وكانت هناك حالة من الاحتقان الفكري والسياسي.

وفي نهاية عام 1991، قضت محكمة لأمن الدولة بمصر بسجن الكاتب علاء حامد ثماني سنوات، بعد تقرير لمجمع البحوث الإسلامية على رواية. وكانت محاولة مصادرة كتب المستشار سعيد العشماوي من قِبل لجنة أزهرية بمعرض كتاب القاهرة.

والمناظرة المشهورة ضمن أنشطة المعرض: بعنوان “مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية”، التي شارك فيها د.محمد أحمد خلف الله، ود.فرج فودة ممثلان للتيار المدني، والشيخ محمد الغزالي، ونائب المرشد العام للإخوان المسلمين الهضيبي، ود.محمد عمارة، وأدارها د.سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب. حالة من الاحتقان بين تيارين فكريين في الحياة الثقافية.

***

وفي التاسع من مايو سنة اثنين وتسعين تقدم د. نصر أبوزيد بإنتاج علمي للجنة الدائمة لترقيات أساتذة أقسام اللغة العربية في الجامعات المصرية – بعد هذا التوقيت بشهر تم اغتيال الكاتب فرج فودة وهو خارج من مكتبه – قامت اللجنة بتوزيع الأعمال في الثامن والعشرين من الشهر على ثلاثة من الأساتذة: د. شوقي ضيف (1910- 2005) رئيس لجنة الترقيات، د. محمود علي مكي (1929- 2013) د. عوني عبد الرؤوف (1929- 2020) على أن يقدم كل منهم تقرير عن الأعمال خلال ثلاثة أشهر. في الثاني والعشرين من أكتوبر اعتذر د. شوقي ضيف، لظروفه الصحية، وخرج من لجنة تقييم الأعمال، وأدخل مكانه د. عبد الصبور شاهين (1929- 2010).

اجتمعت لجنة الترقيات في الثالث من ديسمبر، فقدم د. محمود علي مكي تقرير عن الأعمال يقر بأحقية المتقدم في درجة الأستاذية، وكذلك تقرير د. عوني عبد الرؤوف، يوصي بأحقية المتقدم في درجة الأستاذية، والتقرير الثالث من د. عبد الصبور شاهين يوصي بأن أعمال المتقدم لا ترقى به إلى درجة أستاذ. وتمت عملية التصويت فوافق سبعة أعضاء في اللجنة ضد ستة أعضاء على أحقية نصر أبوزيد للأستاذية، رغم وجود تقريرين بأحقيته ضد تقرير واحد.

اجتمع أساتذة قسم اللغة العربية بكلية آداب القاهرة يوم السابع من ديسمبر لمناقشة تقرير اللجنة، ورفض أساتذة القسم الاثنا عشر المجتمعون قرار اللجنة. وكتبوا تقريرا بأحقية نصر أبوزيد في درجة الأستاذية، وتم رفعه لمجلس كلية آداب القاهرة.

***

في اجتماع مجلس الكلية يوم التاسع من ديسمبر، تشكلت لجنة ضمت: د. مصطفى سويف (1924 – 2016)، د. عبد العزيز حمودة (1937 – 2006)، د. حسن حنفي (1935 – 2021)، د. جابر عصفور (1944 – 2021). وكتبت اللجنة تقريرا ردت فيه على تقرير لجنة الترقيات، ووافق مجلس الكلية بالإجماع. وتم إرساله لرئاسة جامعة القاهرة.

أشار لموضوع عدم الترقية الأستاذ فهمي هويدي بمقاله الأسبوعي في جريدة الأهرام 26 ديسمبر 1992، في سياق سجال بينه وبين نصر أبوزيد عن مقدمة أبوزيد لترجمة كتاب صوت الجنوب.

تم حجز الموضوع في أدراج مجلس الجامعة. وحدثت مفاوضات من رئاسة الجامعة مع نصر أبوزيد علي أن لا تتم ترقيته هذا العام وتتم الترقية العام القادم، فما الداعي أن تتم ترقيته ويتم اغتياله أو طعنه. وفي اجتماع طارئ يخص فرع الجامعة في الخرطوم في الثامن عشر من مارس عام 1993، أقر مجلس الجامعة مبدأ الاعتداد بتقارير اللجان العلمية، في حين أن القرار كان دائما هو قرار المجلس.

***

تفجر موضوع عدم الترقية في الصحافة المصرية:

  • كتب فهمي هويدي 23 مارس 1993 بجريدة الأهرام يقترح خلق مناطق فكرية آمنة لا يتناولها البحث والنقاش.
  • كتبت مجلة روزاليوسف 29 مارس 1993 خبر حجب الترقية.
  • جريدة الأخبار تقرير صحفي كتبته عبلة الرويني، بعنوان “أزمة في جامعة القاهرة”.
  • كتب جمال الغيطاني عموده “مسألة د. نصر”.
  • فريدة النقاش في جريدة الأهالي: “الإرهاب يكفر أستاذا”.
  • غالي شكري في مقاله الأسبوعي بالأهرام “قضية نصر أبوزيد”.
  • يوم الجمعة الثاني من إبريل، صدرت مجلة المصور، بتحقيق لحلمي النمنم بعنوان: “معركة في جامعة القاهرة، حول ترقية أبوزيد”.

وفي خطبته الأسبوعية بجامع عمرو بن العاص، أول مساجد إفريقيا، تطرق الشيخ د. عبد الصبور شاهين، الأستاذ بدار العلوم، عضو اللجنة الدائمة للترقيات للقضية تحدث في الموضوع.

وكتب الأستاذ لطفي الخولي مقالا من صفحة كاملة بجريدة الأهرام بعنوان: “جامعة القاهرة وكُتّاب سيدنا”، وفتح صفحة الحوار القومي الأسبوعية التي يشرف عليها في الجريدة للقضية، وقام بنشر التقارير العلمية الثلاث من لجنة الترقيات، وفتح الصفحة لنشر التعليقات عليها. كذلك مجلة القاهرة نشرت ملف كامل به كل التقارير.

نصر أبوزيد وزوجته
نصر أبوزيد وزوجته
محنة قضية التفريق بين الزوجين

تقدم المحامي محمد صميدة عبد الصمد، مستشار سابق بمجلس الدولة، ومجموعة من المحامين: عبد الفتاح عبد السلام الشاهد، وأحمد عبد الفتاح أحمد، وهشام مصطفى حمزة، وأسامة السيد بيومي، وعبد المطلب محمد أحمد، والمرسي المرسي الحميدي، وجميعهم من مكتب محمد صميدة عبد الصمد، واتخذوا من العنوان ثلاثة وثلاثين، بشارع جامعة الدول العربية بالمهندسين بالجيزة مقرا لهم.

تقدموا برفع قضية حسبة للتفريق بين د. نصر أبوزيد وبين زوجته الأستاذة بجامعة القاهرة، أمام محكمة الجيزة الابتدائية في دائرة الأحوال الشخصية، بدعوى أن هناك علماء قالوا بأنه خارج عن الإسلام وأنه لا يجوز لمسلمة أن تكون متزوجة بغير مسلم، وأنها دعوى حسبة دفاعا عن حقوق الله، يوم الإثنين السابع عشر من مايو سنة ثلاثة وتسعين.

في هذه الفترة كانت تُنظر قضية اغتيال فرج فودة، وفي شهر سبتمبر محاولة اغتيال رئيس الوزراء المصري، ومحاولة اغتيال وزير الإعلام المصري.

اعتمدت الدعوى على أن هناك فارق بين حرية العقيدة وبين الآثار المترتبة على هذا الاعتقاد من الناحية القانونية. الجزء الثاني أن هذه دعوى حسبة تدافع عن حق من حقوق الله، وهي حقوق يعود نفعها على الناس كافة لا على أشخاص بأعينهم.

***

والدعوى هنا تطرح سؤال قانوني آخر: هل الحسبة موجودة قانونيا أم ألغيت. حيث أنه كان هناك محتسب وكانت له ممارسات في القرن التاسع عشر، ومع عمليات التقنين والمحاكم الأهلية الحديثة ووضع قوانين تنظم الإجراءات، لم يتم النص على إجراءات تنظم الحسبة ولا تم وضع نصوص تقول أن الحسبة قد تم إلغاؤها.

هيئة الدفاع عن د. نصر في القضية ركزت على الجانب الشكلي؛ بأنه لكي تقضي محكمة بالتفريق يتعين عليها أن تحكم بردة الزوج، ولا يوجد في القانون المصري ولا في لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ما يجيز لأي محكمة أن تقضي بإسلام مواطن أو كفره أو ردته، وأن أحكام التفريق التي صدرت في المحاكم كانت في حالات ردة ثابتة بطريقة لا تدع مجال للشك، بإثبات في أوراق رسمية مثل حالة مسيحي أسلم ثم رجع إلى المسيحية وغير ذلك في أوراق بطاقته.

الدفع الآخر أنه ليس للمدعين أي صفة قانونية لرفع الدعوى فهم لم يقع عليهم ضرر شخصي، بمعنى أن طلب الطلاق يكون من حق من وقع عليه الضرر وفي هذه الحالة زوجة دكتور نصر.

***

في جلسة الخميس السابع عشر من يناير عام أربعة وتسعين انعقدت المحكمة برئاسة القاضي محمد عوض الله، وعضوية القاضيين محمد جنيدي ومحمود صالح ووكيل النائب العام وائل عبدالله. وحكمت محكمة الأحوال الشخصية الابتدائية برفض الدعوى، ورفض التفريق بين دكتور نصر أبوزيد وزوجته د. ابتهال يونس.

استندت المحكمة في رفضها إلي أنه حين تم إلغاء المحاكم الشرعية تمت التفرقة بين القواعد الموضوعية وبين القواعد الإجرائية التي تحكم الأحوال الشخصية السابقة في المحاكم الشرعية، وأن الإجراءات أصبحت تخضع لقانون الإجراءات، والذي صدر عام 1968. وهذا القانون لم ينظم إجراءات دعوى للحسبة. وأقر أيضا القانون أن لا تقبل دعوى لا يكون لصاحبها مصلحة قائمة يقرها القانون، وتكون مصلحة مباشرة.

الجزء الآخر الذي استندت عليه حكم المحكمة أن نص المادة الثانية بالدستور المصري التي تشير إلى أن مبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع، هذا النص موجه للمشرع من خلال المجالس التشريعية وليس موجه ليطبقه القاضي مباشرة بدون أن يصدر تشريع ينظم الأمر. فحكمت المحكمة بعدم قبول دعوى التفريق وإلزام رافعيها بالمصاريف.

القضية في محكمة الاستئناف

قدم المحامي طعن على حكم المحكمة الابتدائية في العاشر من شهر فبراير عام أربعة وتسعين، أمام محكمة الاستئناف، نظرته المحكمة في 24 يوليو عام أربعة وتسعين. ليصدر الحكم بعدها بعام في شهر يوليو عام خمسة وتسعين.

استند حكم الاستئناف، إلى أن حكم المحكمة الابتدائية هو حكم في موضوع القضية يتعلق بأصل الحق في الدعوى، وبذلك تكون قد أخذت موقف، فتكون قد استنفذت ولايتها ولا تُرد لها القضية للنظر في موضوعها. وأن محكمة الاستئناف ستتصدى للفصل في موضوع القضية. وأن المحكمة تختص ببحث حصول الردة من عدمه لتستطيع الفصل في التفريق بين زوجين بسبب حدوث ردة أحدهما. لكن المحكمة فرقت بين الاعتقاد وكونه داخل الإنسان، وبين الردة التي لها كيان ووجود خارجي.

***

النقطة الأخرى التي تثيرها القضية هي هل الحسبة موجودة، وهل الحسبة أصبحت من اختصاص النيابة العامة أم أن الحسبة تم إلغاؤها؟

لذلك فحكم محكمة الاستئناف حدد أن النيابة العامة في مرافعتها كان عليها أن تقول إن كتابات نصر أبوزيد المستأنف ضده لا تشكل في نظرها ردة، أو أنها تُشكل ردة، مع توضيح الأسباب. والنيابة لم تفعل هذا. وبناءً عليه قبلت المحكمة دعوى الاستئناف في موضوع القضية، وحكمت بالتفريق بين نصر أبوزيد وبين زوجته د. ابتهال يونس. ولكن تم إيقاف تنفيذ حكم المحكمة من قِبل المحامي العام لأنه لا توجد في قانون الإجراءات إجراءات لكيف يتم تنفيذ حكم كهذا. فتوقف حكم التفريق وظل حكم الردة.

***

قدم محامو نصر أبوزيد، وقدمت النيابة العامة أيضا، طعون في حكم محكمة الاستئناف أمام محكمة النقض. وكان حكم الاستئناف مفاجئا للحكومة، التي سعت إلى تعديل في قانون الإجراءات أُقر في شهر مايو عام ستة وتسعين، تقر فيها بوجود الحسبة، لكنها جعلتها من اختصاص النيابة العامة، على أن ترد المحاكم كل القضايا المرفوعة أمامها على وجه الحسبة التي لم يصدر بها حكم نهائي إلي النيابة العامة من تلقاء نفسها. متصورة الحكومة بهذه الإجراءات أنها قد أنهت موضوع حكم التفرقة.

فتقدم محامو نصر أبوزيد بطلب لمحكمة النقض لفتح باب المرافعة في القضية لكي يستفيد موكلهم من تغيير القانون، فمدت المحكمة الأجل لحكمها إلى الخامس من شهر أغسطس عام ستة وتسعين، ورفضت إعادة فتح الباب لمرافعة الدفاع.

وحكمت المحكمة بتأييد حكم التفريق، وأن نصر أبوزيد لا يستفيد من تغيير القانون لأن المحكمة كانت قد حجزت القضية للحكم فيها قبل تغيير القانون. ومحكمة النقض دورها يقتصر على مراجعة الحكم وليس على الفصل في موضوع القضية.

***

ومنذ هذه اللحظة من ثلاثة عقود وكأن الزمن توقف، فنحن دائما نقف في منتصف طريق التحديث، حيث يتجاور القديم والجديد، فالحسبة موجودة ولكنها غير مفعلة، وحكم الردة والتفريق صادر، لكنه موقوف التنفيذ لأنه ليس هناك إجراءات لتنفيذه. وبعد عقد ونصف من رحيل نصر أبوزيد يظل الدرس الأدبي للقرآن الكريم في مصر متوقف عند نفس اللحظة في جامعة القاهرة، لكن هل يمكن أن تأتي الجهود من ألمانيا وفي كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بعد توقفها في آداب القاهرة؟

اقرأ أيضا:

«كارل مولر».. فنان ألماني أحب مصر

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.