«جاليري حيفا».. واحة ثقافية فنية في قلب المنصورة

«وما بِكْفي كُتْرِ الكلام.. يِوْصِفْ حلَا حِيفا وهواها» لعل هذه الكلمات، من أغنية “نويل خرمان” عن حيفا، تجسد الشعور الذي يجده زائر «جاليري حِيفا» للمرة الأولى، هناك في شارع عبد العظيم محمود، المتفرع من شارع الجلاء، بحي جامعة المنصورة. وإن قيلت- هذه الكلمات- في الأصل عن «حيفا» الفلسطينية، فلا مانع من إسقاطها على الـ”جاليري” المنسوب إليها.
وزوار «جاليري حيفا» هم غالبا هاربون إليه من صخب الحياة، يبحث أحدهم عن مكان يستريح فيه من هموم الدراسة أو ضغط العمل. وليس أنسب من “جاليري حيفا” لهذا المطلب؛ إذ سرعان ما يأسره هدوء المكان، والمزيكا التي تخاطب الجمال في نفسه، وتأخذه الأنتيكات، والمشغولات الفلسطينية، والصور العتيقة، وتنقله إلى زمان ومكان مختلفين، تختلط فيهما نسائم حيفا الفلسطينية بألحان وأصوات عربية طربية.
جاليري حيفا بالمنصورة: عندما يتحول المقهى إلى مساحة فنية وثقافية حرة
يبدو الجاليري للوهلة الأولى مجرد كافيه أو مقهى ثقافي، تُقدم فيه المشروبات الساخنة والباردة، وتعم أرجاءَه مزيكا هادئة من أغاني “الزمن الجميل” لعبد الوهاب وأم كلثوم وفيروز وحليم، إلى آخر القائمة التي تبث في نفس الزائر شيئا من العتق والسكينة والجمال الآسر.
ولكن بمجرد أن يدير الزائر بصره في الجاليري، يجد معرضًا صغيرا للمشغولات اليدوية: قلائد وحقائب وأساور وخرائط لفلسطين، ومنحوتات خشبية، ولوحات صغيرة بديعة، وكثيرا من المشغولات الفلسطينية الفلكلورية. كما يجد أيضا عددا ليس بالقليل من الصور لأعلام الفن والغناء والتمثيل: أم كلثوم وعبد الوهاب وبليغ ووردة، وأحمد زكي وسعاد حسني، وغيرهم،. ويقع على يسار الداخل من باب الجاليري جدارية للست فيروز، وإلى جانبها قطع أثرية أو “أنتيكات”: تلفاز قديم، جرامافون، هاتف قديم، آلة للكتابة، بيانو عتيق، راديو.
من مقهى إلى منصة ثقافية: كيف أصبح “جاليري حيفا” مركزًا للفنون والذاكرة؟
يجد الزائر أيضا أسطوانات وشرائط لأهم الأغاني من القرن الماضي، لأعلام الملحنين أمثال زكريا أحمد، والقصبجي، والسنباطي. وهكذا.. قطع من زمن بعيد تعطي للمكان بعدا ثقافيا وتاريخيا خلابا. وفي ذلك تقول إحدى الزائرات: “كل تفصيلة بالمكان، خاصة بالزمن الجميل، تأسر قلبي. وكان دخولي من الباب قد فصلني عن العالم الخارجي المليء بالتِّكنولوجيا والمُشَتِّتات إلى حقبة زمنية بعيدة جميلة جدا”.
وبالفعل، شيئا فشيئا يدرك الزائر أن الجاليري ليس مجرد مقهى أو كافيه يأتيه لمشروب ساخن وحسب. بل سرعان ما يتساءل عن الجاليري وما يقدمه؟ ويلح عليه السؤال: لماذا حيفا؟! ولماذا هذا الهدوء؟ وهل هو هدوء دائم؟ ثم ينتبه إلى لافتة المكان الخارجية والمكتوب عليها: (Art space & Cafe).
جاليري حيفا: ملاذ الباحثين عن الجمال والتراث
يكتشف الزائر إعلانا عن ندوة لأحد كتاب المنصورة ستقام يوم كذا في الساعة كذا في “جاليري حيفا”، أو حفل توقيع كتاب لكاتب آخر، أو ندوة شعرية مقامة في المكان. ومرة أخرى يجد حفلا موسيقيا غنائيا سيقام في الجاليري في موعد محدد، بحضور فنانين من أبناء المنصورة أو من خارجها، أو قعدة طرب تلقائية لبعض الزوار من غير ترتيب أو إعداد، منشورة على مواقع التواصل. كل ذلك يجعل “حيفا” في عين مرتاديه: واحة فنية ثقافية ترحب بكل الفنون من غناء وعزف ورسم ونحت وتصوير، وتوفر لهم المناخ المساعد على ذلك.
ولعل ذلك يقودنا إلى قصة “جاليري حيفا” ووصولها إلى المنصورة. في عام 2017، بدأ الأخوان محمود وسامح العطار بإنشاء معرض متنقل للمشغولات اليدوية والمنحوتات الخشبية في وسط البلد، يعرضان أعمالهما في ساقية الصاوي وغيرها، حتى أتيحت لهما الفرصة أن يؤسسا أول معرض دائم
لماذا حيفا؟
تعود التسمية إلى لحظة التأسيس. فكر الأخوان كثيرا، ووجدا أنهما يريدان أن يرتبطا بالبلد الذي نشأ فيه والداهما قبل أن يهاجرا إلى مصر. فهما مصريان من أصول فلسطينية، من حيفا تحديدا. ووجدا في التسمية فرصة لربط اسميهما بالبلد التي حرموا العيش فيها، ومنعوا من دخولها إلا في زيارات قصيرة، كان يحرص عليها الوالدان كلما سمح الزمان، بسبب الحرب التي تعانيها البلد.
ولا يعتبر “حيفا” رابطا شخصيا خاصا للأخوين فقط، بل هو ربط ثقافي عربي بين بلدين لطالما كانت العلاقة بينهما في اتصال دائم. ويسعى الأخوان من خلال الجاليري إلى الحفاظ على التراث الشعبي الفلسطيني وعرضه في الشارع المصري.
ويؤكد ذلك ما أضافه محمود العطار: أن الجاليري، بكل فروعه، ينظم معرضًا سنويا في 14 ديسمبر من كل عام، يسمى “السوق الفلسطيني السنوي للمشغولات اليدوية”، ويقدَّم فيه مجموعة متنوعة من المنتجات: مطرزات، أخشاب، ميداليات، سلاسل، كوفيات، ملابس فلسطينية.

روابط وجدانية تحيي التراث الفلسطيني على أرض مصرية
يشارك في المعرض فرقٌ فنية تقدم الدَّبْكة الفلسطينية، وكورال للغناء، إلى جانب الأكلات الفلسطينية التقليدية. كل ذلك في فروع “جاليري حيفا” في مختلف محافظات مصر.
وقد افتتح الجاليري سنة 2018 بجهود ذاتية من الأخوين، وبمعونة مباشرة من أصدقائهما، ومنذ اللحظة الأولى، استعان الأخوان بفنانين لإثراء المكان بلوحات مرسومة على الجدران، وإحياء الأمسيات بالحفلات الغنائية والقعدات الطربية. وكانا مرحِّبَين بكل منتَج فني يمكن عرضُه في الجاليري. وهو الأمر الذي صبغه هذه الصبغة المختلفة المركبة، المثيرة للإعجاب والدهشة في نفس الوقت.
متى تتحول الذاكرة إلى منتج فني؟
سرعان ما لاقت الفكرة نجاحا، وجاءت مرحلة التوسع، فمن وسط البلد، إلى الزمالك، إلى الإسكندرية، ثم إلى المنصورة.. ومؤخرا إلى الزقازيق. لكن الذي يعنينا هنا هو فرع المنصورة، وما أضافه إلى المدينة. فهل كانت في حاجة إلى جاليري حيفا؟ وهل ما زالت في احتياج إلى المزيد؟
تحظى المنصورة، التي تمثل الدقهلية بأكملها، بتاريخ حافل في النضال، والفن، والثقافة والفكر. فهي المدينة التي أخرجت لدنيا الأدب والفكر: أحمد حسن الزيات، وأنيس منصور. ولعالم الفن: أم كلثوم، وفاتن حمامة. وأعلاما آخرين يضيق المقال والمقام عن ذكرهم فردا فردا.
ومع ذلك، فإن الحركة الأدبية والفنية والثقافية فيها لا تسير على ما يرام وما ينبغي أن تكون عليه في العقود الأخيرة، وخاصة مع فجر الألفية الثالثة.
ويمثل وجود “جاليري حيفا” في المدينة متنفسا للفنانين والمثقفين الصاعدين أو المغمورين بها، الذين سرعان ما برزوا مع افتتاح الفرع. فبحسب محمود العطار، كان افتتاح الفرع قائما على فنانين من المنصورة نفسها، ومن محافظة الدقهلية عموما. كما أقام عدد من الكتاب حفلات توقيع لمؤلفاتهم الجديدة في الفرع الذي افتتح قبل 3 سنوات.

المنصورة تحتضن حيفا: كيف ساهم الجاليري في إحياء الحركة الفنية المحلية؟
أضاف الجاليري لمدينة المنصورة رابطا ثقافيا جديدا بينها وبين “حيفا” التي أحبها المصريون دون أن يروها. واكتفوا برؤية أهلها المهاجرين عنها، وسماع الحكايات والقصص التي تروى لهم. كما وفر للطلبة والعاملين بالجامعة مساحة آمنة للمذاكرة، وممارسة الفنون، وإعداد الدروس، والمحاضرات. فالجاليري في الصباح يتحول إلى “ورك شوب”.
ويوضح محمود العطار أن لكل مكان موسما خاصا به، أو (سيزون) يزدحم فيه بالزوار. وأن موسم فرع المنصورة هو أيام الدراسة؛ نظرا لوجوده في حي الجامعة. على عكس غيره من الأماكن التي تكون الإجازة الصيفية بالنسبة لها موسما تحقق فيه أعلى الإيرادات.
وبعد ثلاث سنوات من وجود الفرع بالمنصورة، أثبت تفاعل مرتاديه معه أن المدينة تَدين له بالفضل، وتنتظر منه مزيدا من الفعاليات الثقافية والفنية. وتتوقع التفات أصحاب رؤوس الأموال والنفوذ إلى أهمية ذلك النوع من الأماكن التي تساهم في إثراء الجانب الثقافي الفني وإحيائه، والاهتمام بالفنانين والمثقفين الجدد. ودعم فكرة الربط الثقافي بين المدينتين: المنصورة، وحيفا.
اقرأ أيضا
مولد «ابن سلام».. ذكرى صحابي يعيد الروح لقرية بمحافظة الدقهلية