«ترزي الباشوات» في بورسعيد.. حكايات 65 عاما من تاريخ الموضة المصرية

في أحد أقدم شوارع حي الشرق ببورسعيد، يعمل الحاج «محمد علي»، المعروف بـ«ترزي الباشوات»، منذ أكثر من 65 عاما في خياطة القمصان. ورث المهنة عن والده، وشهد عبرها تغيرات الموضة والمجتمع، محتفظا بأدواته القديمة وشغفه بالحرفة التي يعتبرها فنا وإرثا.
من الباشوات إلى الشباب.. كيف تغيرت الموضة؟
من داخل ورشته الكائنة بحي الشرق، يجلس الحاج محمد علي وسط أدواته التي لم تفارقه منذ عقود، يُمسك القماش كأنّه يقرأ فيه تاريخًا مكتوبًا بخيوط من حرير، لا حاجة له إلى “باترون” أو أجهزة حديثة؛ فالعين واليد والعقل أدواته الحقيقية.
يقول: “زمان كان الباشوات يلبسون القمصان المصنوعة من قماش البوبلين والكتان الصافي، بألوان هادئة وقصات واسعة. دلوقتي الشباب بيحبوا القمصان الضيقة والقصيرة، والألوان الجريئة”. ورغم تغير الذوق العام، ما زال “ترزي الباشوات” يحيك القمصان لكل الطبقات، من بشوات خمسينيات القرن الماضي إلى شباب جاءوا إليه خصيصا ليفصّلوا قمصان زفافهم.
المهنة تتراجع.. ولكن الشغف لا يموت
رغم شغفه الدائم، يعترف الحاج محمد علي أن المهنة لم تعد كما كانت: “دلوقتي الناس بتشتري من المحلات الجاهزة، والمهنة بتموت شوية بشوية. لكن اللي اتربى على حب الشغل عمره ما يسيبه”. ورغم دخول التكنولوجيا عالم الخياطة، لا تزال يداه تفضّلان المقص القديم والإبرة التي خاط بها آلاف القمصان.
65 عاما من تغير الأذواق
يقول الحاج محمد لـ«باب مصر – بحري»: “أنا من مواليد بورسعيد عام 1948، وأعمل بالخياطة منذ 65 سنة. ورثت المهنة عن والدي، الذي كان أقدم ترزي قمصان في المدينة ومؤسس جمعية صناع الملابس. لدي 9 أشقاء من الرجال والنساء”.
وأضاف: “كان ترزي القمصان وقتها 95، واليوم لم يتبق سوى 3 أو 4 فقط، منهم 2 من أشقائي. والدي علم الكثيرين المهنة. وكانت له سمعة طيبة بين أهالي محافظة بورسعيد. وقمت بحياكة القمصان للكثير من باشوات بورسعيد وصفوة المجتمع، من أطباء ومهندسين. وكذلك للجالية الأجنبية التي كانت تعيش في المحافظة”.
الأزياء الراقية في بورسعيد
أشار الحاج محمد إلى عدد من العائلات العريقة مثل عائلة لطفي باشا سيارة، وعبده صديق اللمعي، وعائلة زكري، وطيرة، وغندر وغيرها. ومن أكثر الباشوات الذين بنوا المساجد التراثية في بورسعيد كان لطفي باشا شبارة، الذي شيد مسجدا أمام الكنيسة الكاتدرائية بحي الشرق.
وأوضح: “كان هناك كبار التجار في مجال الأقمشة مثل أبو العينين، وسالم وندا. وكان الزي زمان محترم والأزياء راقية، والسائد للرجال في بورسعيد القميص والبنطلون والبدلة. أما للنساء فكان الجيب والبلوزة، والفساتين. كنت متخصصا في القمصان والبلوزات. وأغلب الأقمشة من الكتان الإسباني، والساتان الياباني، والڤوال السويسري، والزقطان والجوبلان، والأسماكن”.
ونوه إلى أن أغلب الأقمشة كانت مستوردة، فكانت الأسواق بها محال كل منها متخصص في نوع مستورد؛ منها القماش السويسري، والألماني، والإيطالي، والياباني. وكنا بنخيط فساتين الأفراح التي أصبحت مرتفعة السعر الآن، والبدل السفاري والكتان الصيفي”.
أشهر خياطين السيدات في بورسعيد
يقول الحاج محمد: “كان من أجمل ما يصنعه الترزي الحريمي هو البالطو الفرو. فكانت تأتي الزبائن من بورسعيد وخارجها، لحرفتهم ورُقي ذوقهم في اختيار أنواع الأقمشة والأزياء. ومن أشهر أسماء خياطين السيدات في بورسعيد؛ عبد الفتاح إسماعيل والزهيري وحسونة، وكان لديهم متدربين كُثر يتعلمون الصنعة”.
وتابع: أما بعد الانفتاح وتحويل بورسعيد لمنطقة حرة، تغيرت نوعية الأقمشة والموضة. وأصبحت خطوط الموضة العالمية لها طابع وتأثير على موضتنا وأزيائنا. ونقُص عدد محال تفصيل الملابس، وأيضا محال بيع الأقمشة. أصبحت الموضة تأتينا جاهزة. وتخصصت بعض المحال في بيع الملابس الجاهزة على أحدث موضة ومستوردة كمحل “روما” و”سير”؛ وغيرها في شارع النهضة.
وأوضح أنه وقت رسو السفن السياحية على رصيف ميناء بورسعيد، كانت تنتعش الأسواق. حيث ينزل السياح الأجانب من الأطقم البحرية والقباطنة وركاب السفن، للتجول في شوارع المحافظة الخامسة فجرا، وكانت المحال تظل مفتوحة طوال الليل حتى الثامنة والتاسعة صباحا.
غزو “الدنجريه” لأسواق بورسعيد
يضيف الحاج محمد: “كانت تباع الجواكت الجلد (السويتر) المصنوعة من أجود أنواع الجلود بأسعار تصل إلى 30 أو 40 جنيها، واشتهر ببيعها محل “الشراع المصري”، ويعتبر جيلنا من تربى على البناطيل الجينز وكان يسمي قديما بـ”الدنجريه”، والبدلة الجينز والجاكيت أيضا”.
وأشار إلى أنه بعد غزو “الدنجريه” لأسواق بورسعيد، أغلقت محال ومصانع كثيرة لصناعة البنطلون القماش، بسبب إقبال الجميع على ارتداءه وعزوفهم عن البنطلون القماش، وبعدها ظهرت أيضا أقمشة “الجبردين”، والتي كانت نوعا ما بين الجينز والقماش، وظلت مستمرة حتى الآن ويرتديها الجميع.
أما الأحذية، فكانت أغلاها سعرا تباع بـ3 جنيهات فقط، وبالتقسيط بتسديد 25 قرشا كل أسبوع. وحوالي 10 محلات جميعهم عليهم إقبال كبير في شارع النهضة لبيع الأحذية. كان أشهرهم محل أحمد حرب الذي كان يبيع منها بـ99 قرشا فقط.
أزياء زمان.. حكايات من الزمن الجميل
لا تخلو ذاكرة “ترزي الباشوات” من حكايات نادرة، يروي إحداها قائلا: “وفي مرة جاء زبون لي بقميص سويسري ثمنه بلغ 125 جنيها. في حين أن أغلى قميص وقتها كان بـ25 جنيها فقط، وقال لي فصل لي مثله تماما،. واشترى قماش سويسري مستورد، فقمت بحفظ الموديل والطريقة بعد فحصي إياه. وقمت بتفصيله كأنه هو تماما وحتى أزرار القميص اشتراها مخصوص مستوردة أيضا. فكل البورسعيدية زمان كانوا بشوات حتى لو لم يحصلوا على اللقب رسميا. جميعهم يحبون ارتداء أغلى الملابس والأكثر أناقة، “اتربوا على الغالي وخير القناة والبحر”.
واستكمل حديثه: “ليس فقط في الملابس، بل في المأكل والمشرب والثقافة وكل شيء، لكننا كنا آخر الجيل الذي رأي الخير والبركة في الحياة وكل شيء، فقد تربينا على الأصول وكانت أمهاتنا تعلمنا 3 أشياء مهمة؛ الرضا والقناعة وعدم النظر لرزق الغير. أما الآن فلا تجد النساء وقت لتربية الأبناء، ضاعت لمة العيلة على سفرة واحدة لتناول الطعام. وضاعت الأذواق الراقية واحترام الأصول، وما نجده في الشوارع اليوم يحزنني”.
أين الأزياء الراقية؟
يتساءل الحاج محمد علي: “أين الملابس المحترمة والأذواق الراقية؟ فالبناطيل مقطعة، وهذه هي الموضة. والبنات تغير ذوقهن وأصبحت تتبعن خطوط الموضة التي لا تناسب أنوثتهن. ويتشبهن بالذكور في ارتداء البناطيل المقطعة من الأرجل والضيقة والجينز والملابس غير المناسبة حتى لأعمارهن”.
ويضيف: “كنا زمان في المدرسة الجميع يرتدي نفس الزي والحذاء والحقيبة المدرسية، نفس الأدوات ونفس الطعام. كلنا كنا نشبه بعضنا البعض الغني مثل الفقير. فكنا نشعر كأننا أسرة واحدة، أما الآن فهناك اختلاف كبير في الطبقات الاجتماعية والاقتصادية وأسلوب الحياة، والبركة ضاعت”.
حرفة تراثية تستحق البقاء
وفي رسالته للأجيال القادمة، يقول “ترزي الباشوات”: “لو كل واحد حافظ على مهنته وحبها، عمر التراث ما هيندثر. الخياطة مش بس شغل.. دي فن وأصل، ولازم نعلّمه للّي بعدنا”.
وفي دكانه المتواضع، حيث لا يُقاس الزمن بالساعات بل بالخيوط، تظل حكاية “ترزي الباشوات” شاهدًا حيًا على جمال الحرفة وبساطة الأناقة، وتاريخ مدينة ما زالت تفخر بأهلها وصنّاعها.