بين عبثية كافكا وواقع المسرح المستقل: كواليس عرض «بيتر الأحمر»
في الأسبوع الماضي، كان جمهور المسرح السكندري على موعد مع عرض المونودراما «بيتر الأحمر» على مسرح الجراج بالجزويت. العرض مقتبس من قصة «تقرير إلى الأكاديمية» لفرانز كافكا، التي يروي فيها القرد بيتر حكايته منذ لحظة وقوعه في الأسر في إفريقيا، حين أدرك أن السبيل الوحيد للنجاة هو تقليد البشر. بعدما خُيّر بين حياة حديقة الحيوان أو العمل على مسرح المنوّعات.
قدّمت فرقة الورشة المسرحية العرضَ بمعالجة بالعامية المصرية، من إخراج حسن الجريتلي وأداء ياسر مجاهد، مع إتاحة ترجمة نصية إلى الإنجليزية. وجاء العمل محاولةً لنقل روح كافكا المتأرجحة بين العبث والرعب والسخرية اللاذعة التي تشكّل جوهر الكوميديا السوداء. أعقب العرضَ نقاشٌ أدارته د. أمينة الحلواني، أستاذ الأدب الإنجليزي والمقارن بكلية الآداب، جامعة الإسكندرية.
ملتقى «مطبخ للفنون الأدائية»
أُقيمت الفعالية ضمن ملتقى «مطبخ للفنون الأدائية» الذي تنظمه مبادرة “حوار للمسرح المستقل والفنون الأدائية”، بدعم من معهد جوته بالقاهرة ومركز الجزويت الثقافي بالإسكندرية. على الخشبة أعاد ياسر مجاهد- بيتر الأحمر- بشعره وذقنه الطويلة وشعر فرو القرد الظاهر من تحت بدلته، تقديم حكاية كائن (قرد) خضع للترويض، وإنسان يحارب ويتكيف من أجل البقاء، في مواجهة مجتمع لا يشبه حقيقته. يكشف العرض الفجوة بين الصورة التي تفرضها المجتمعات، وبين الكائن الذي يحاول النجاة بطريقته.
بدا لي هذا العرض كأنه إعادة مساءلة للفكرة الكافكاوية نفسها: من يمتلك حق الكلام؟ ومن يملك السلطة لتحديد صورة الآخر؟ القرد في النص يخضع لترويض قاسٍ حتى يصبح مقبولًا. وفي العرض بدا ياسر مجاهد وكأنه يعيد إنتاج هذا الصراع مسرحيًا. لكن داخل سياق محلي يواجه فيه الإنسان المصري مؤسساته بقدْر من السخرية والألم في الوقت نفسه.
بين قصة كافكا ومونودراما الجريتلي: قراءة نقدية حية
بعد انتهاء عرض «بيتر الأحمر»، وبعد تحية الجمهور، جلست د. أمينة الحلواني على كرسيها أمام الجمهور على المسرح لبدء الندوة. بدأت حديثها عن العلاقة بين نص كافكا الأصلي وعرض الجريتلي. وقالت: “معالجة الجريتلي في المونودراما جاءت متسقة مع النص الأصلي… نص كافكا أصلاً به ما يكفي من المرونة. لكن اختيار تقديمه بالعامية قربه كتير من الجمهور”.
التحويل من الألمانية إلى العربية الفصحى، ثم تطويعه للعامية، بدا كطبقات تتشكل على خشبة المسرح، تضيف بعدًا طبيعيًا للانتقال من القراءة إلى الأداء. وأكدت: “كل معالجة بالضرورة تحتوي على تغيير… اختيار العامية كان موفقًا في استقبال المشاهد، بدلًا عن القارئ”.
البعد الرمزي للشخصية
ثم انتقلت إلى البعد الرمزي للشخصية، لا بوصفها رمزا مجردا. بل كشخص واقعي يعيش صراع الفرد مع المجتمع، بين نقد الحداثة الأوروبية وعلاقات الشرق والغرب اليوم. قالت:”النص في جوهره يعبر عن العلاقة بالآخر… ولما يتمثل في “بيتر الأحمر”، بنشوف إعادة تشكيل لوجهة النظر عن الشرق الأوسط والمجتمع الغربي”.
ذكرت أيضًا تأثير كافكا على المسرح المصري، من “مصير صرصار” لتوفيق الحكيم، إلى عروض الخمسينيات والستينيات، مؤكدة أن الأدب الكافكاوي لم يكن غريبًا عن السياق المحلي.
ثم تحدثت عن تفاعل الجمهور: كل شخص يختبر صراع بيتر بطريقته، دون الحاجة لمعرفة مسبقة بالنص. وأضافت: “بغض النظر عن خلفية الجمهور عن النص الأدبي، أظن الناس تفاعلت وأعجبت بالعرض. تلقي المسرح أو الأدب، يحدث على مستويات مختلفة. لا يفترض أن يصير كل الناس ناقد متخصص عشان تستمتع بالعمل الأدبي أو المسرحي”.
وفي لحظة، أشارت إلى بساطة الديكور: كرسي ومكتب فقط، وقالت: “العرض ركّز على العلاقة بين الممثل والنص والجمهور… هم الثلاثة أبطال للعرض”. بدا الحضور وكأنهم يرون بيتر يتحرك بين الكلمات. وياسر مجاهد ينجح في تحويل كل لحظة من مونولوجه إلى تجربة حية، يُشرك الجمهور في أنافسه وحيرته وصراعه.
حسن الجريتلي والممثل: الجذر الأساسي في المسرح
كان تركيز حسن الجريتلي خلال تدريبات عرض «بيتر الأحمر»، منصبًا على الممثل، كما الرياضي في ملعبه يراقب كل حركة. يقول: “أنا دايمًا بدور عن مواد لتدريب الممثلين… وده اللي عملته مع ياسر بطل العرض. التدريب الأساسي زي تدريب الرياضي. أنت مش بتدربه عشان ماتش واحد، لكن بتدربه على المهارات اللي تؤهله يلعب أي ماتش”.
ويتابع موضحا فلسفته: “اهتمامي الأساسي في المسرح بالممثل، خصوصا في المسرح الفقير… فمثلاً إذا حصل حريق واختفى المسرح. بالتأكيد هختار أنقذ الممثل أولاً، ويمكن أضحي بعناصر أخرى”. الممثل بالنسبة له هو جوهر التجربة المسرحية، والرصيد الحقيقي لأي عرض حي.
وبالرغم من أن المونودراما تبدو على خشبة المسرح منعزلة، إلا أن حضور الآخر يظل خفيًا في كل جملة وحركة. يوضح الجريتلي ذلك بالمقارنة بين تجربته مع عبلة كامل في “نوبة صحيان” والتحضير للنص الكافكاوي: “نص كافكا قائم على مونولوج طويل، فيه آخرين هم – أعضاء الأكاديمية- اللي بيتر بيوجه ليهم كلامه. هو مش بيكلم نفسه، لكن فيه مونودرامات مختلفة، فيها مشكلة في عزلة الممثل على خشبة المسرح”.
شخصية بيتر
حين وجهت له سؤالاً عن البعد الرمزي في شخصية بيتر، أجاب حسن الجريتلي بصوت يحمل نوعًا من عدم الارتياح لفكرة السؤال الذي يحتمل إجابة ضمنية: “بصراحة أنا مش بفكر في الرموز خالص، مش بشتغل بالطريقة دي يعني. لكن بشوف إن القصة نفسها بتحمل حقايق وأفكار ومشاعر إنسانية. أنا مش بستخدمها كأداة لتوصيل رسالة جاهزة. نص تقرير إلى الأكاديمية، فيه عناصر ولغة أعمق أهلته إنه يعيش أكتر من مئة سنة”.
ويضيف: “الإفراط في الرمزية غالباً بيحول النص لشيء سطحي، لكن النص الكافكاوي غني بذاته، وقادر على بقاء الشخصية حية ومتجاوزة للزمن”. بهذا المنهج، يبدو أن التجريب المسرحي بالنسبة له عملية اكتشاف مستمرة، تتجاوز الانشغال بالإحصاءات أو ردود الفعل الجماهيرية. وعلى خشبة المسرح، تتحول العلاقة بين الممثل والنص والجمهور إلى قلب نابض للتجربة.
عبر الصندوق الضيق: ياسر مجاهد يروي تجربة بيتر
تحدّث ياسر مجاهد عن تجربته في تجسيد شخصية بيتر، وكأنه ما زال يحمل شيئًا من آثار الصندوق الخشبي في باخرة «هاجينبك». بدا وكأن ملامحه تستعيد القرد الجالس منحني الظهر، يده على ركبته المصابة. حين قال: “كان تحديًا كبيرا ومتعبا، لكن ممتع”. ثم أوضح كيف بدأ العمل من النص نفسه: “اشتغلنا أولاً على ترجمة النص وفهم معانيه…”.
كان ياسر يتتبع حركة بيتر كما كتبها كافكا: ذلك القرد المحشور في قفص ضيق، يحني ظهره ويُسنِد وجهه إلى الصندوق، عاجزًا عن الوقوف أو الجلوس. يعلق: “راقبت حركة القرود وطريقتهم في التفكير والإحساس…”. أراد أن يفهم من الداخل كيف كان يشعر حين أدرك أنه لا مخرج، وأن عليه أن يصنع مخرجًا، وأن الحركة صارت وسيلته للبقاء.
تعلم مجاهد الصبر الذي يجعل بيتر يلعق جوز الهند بإرهاق، ينظف جسده من البراغيث، يضرب رأسه بالحائط. ثم يتعلم أخيرًا أن يمد يده كأول فعل بشري. يقول: “بيتر مثال في التكيّف والمقاومة… عنده ذكاء وصبر ملهم لأي إنسان”. ويضيف: “الشخصية أثرت في جداً… فيها مبادئ إنسانية وتسامح وسعي للحرية مهما كانت الصعاب”.
معوقات وصعوبات
يتحدث عن أصعب جوانب الأداء: “التدريب الجسدي كان الأصعب… ميكانيكا حركة القرود مختلفة تمامًا. احتاجت وقت طويل عشان أقرب منها. ولو عيدت الدور، هستمر في تطويره”. كأنه استعاد لحظة إصابة بيتر في الركبة، ذلك العرج الذي يرافقه حتى بعد أن «استقر بين البشر».
وكان واضحًا أن علاقة العمل مع المخرج حسن الجريتلي مبنية على الاحترام والتعلم المشترك: “أنا سعيد ومتشرف جدًا بالعمل مع حسن الجريتلي، لأنه أستاذ كبير وإنسان جميل. اتعلمت منه كتير. وفي البروفات هو ذوق جدًا، وبيهتم دايمًا بما وراء الكلام من معاني، وده ساعدني أشتغل على النص بعمق أكتر”.
المسرح المستقل في الإسكندرية: تحديات البقاء وفرص الشراكات
جلس عادل عبد الوهاب، مدير الملتقى، متأملًا العروض الأولى، ثم بدأ يوضح سبب اختيار عرض “بيتر الأحمر” ضمن فعاليات “مطبخ مفتوح للفنون الأدائية”. قال، وكأنه يستعيد لحظة تواصلهم مع فرقة الورشة: “اتواصلنا معاهم عن مشروعهم الجديد. وكنا بنسعى لتقديم تجارب جديدة، بتتعرض لأول مرة، وتعتمد على التدريب المتخصص”.
ومع انطلاق الملتقى بثلاث تجارب متباينة – رقص معاصر، حفل موسيقي، ومسرح – بدا أن بيتر الأحمر يمثل نوعًا من التوازن بين البساطة والإبداع: “العرض ده كان مناسب لأنه بسيط إنتاجيًا، لا يحتاج عناصر كبيرة. لكن يرتكز على نص أدبي قوي، تحول لمونودرادما تعتمد على أداء الممثل والسينوغرافيا البسيطة المعبرة”.
عن فكرة الملتقى، قال: “هو محاولة للتجريب، وتطوير التواصل بين الفنانين، وإعطاء مساحة للعروض المنتجة عشان تتحرر من فكرة العرض في مهرجان مكتمل”. ورغم أن معظم العروض اكتملت قبل أيام قليلة من الملتقى. إلا أن العمل كان مستمرًا مع الفرق منذ أشهر عبر الاجتماعات والبروفات لضمان جودة التجربة الفنية.
وأشار إلى الدور الحيوي للمراكز الثقافية، مؤكدًا على شراكاتهم مع مؤسسات مثل معهد جوته: “معهد جوته شريك رئيسي من سنين… واهتمامه بالمسرح المستقل والفنانين الشباب له تأثير إيجابي واضح على الحركة المسرحية. خاصة في دعم تجربتين اتقدموا في الملتقى”. كما لعبت أماكن البروفات مثل استديو روك ساوند ومساحة شيلتر للفنون دورًا كبيرًا في وصول العروض إلى جمهور متنوع.
الجمهور ورد الفعل
أما عن الجمهور، فقال بنبرة تجمع الحماس بالرضا: “الشباب والفنانين الصاعدين هما جمهورنا الأساسي، والحضور ونوعيته أكدوا أن الملتقى حقق أهدافه”. وعن المستقبل، قال وهو يلتفت إلى ما بعد الخشبة: “أكيد فيه تعاون ونقاشات لمشاريع مستقبلية بين فريق حوار وفرقة الورشة. كتدريب وتوثيق للحركة المسرحية المستقلة”.
وأضاف مبتسمًا أن الحركة المسرحية المستقلة في الإسكندرية متميزة جدًا، لكنها تواجه تحديات من نقص المسارح والمساحات وتعدد مصادر التمويل. معبرًا عن تفاؤله بأن الإسكندرية خلال سنوات قليلة قد تؤسس لمواسم مسرحية مستقرة تجذب جماهير متنوعة.
جوته يطلق عام كافكا لدعم الفنانين المستقلين
في مكتب معهد جوته بالقاهرة، حيث تتقاطع الجلسات الرسمية مع حوارات الفن والثقافة، جلست فردريكا بيريا، مديرة قسم البرامج الثقافية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تتحدث -باللغة الإنجليزية التي نُقلت هنا مترجمة- عن دعم المعهد لعرض “بيتر الأحمر” ولملتقى “مطبخ مفتوح للفنون الأدائية”.
تقول، وكأنها تستعيد بدايات تلك الحوارات الطويلة: “بدأت المناقشات حول العرض قبل عامين مع حسن الجريتلي، مؤسس فرقة الورشة، الذي تحمس لفكرة تحويل قصة كافكا القصيرة “تقرير إلى الأكاديمية” إلى مونودراما مسرحية”. وأضافت أن اهتمام المعهد بأعمال كافكا خلال الفترة من منتصف 2023 حتى منتصف 2024 لم يأتِ عبثًا. بل جاء في سياق رؤية ثقافية أوسع: “كتابات كافكا تعكس عبثية ما يسمى بالحداثة. وتؤكد صراع الفرد في مواجهة القيود الهيكلية الطاغية”.
ثم شرحت فردريكا كيف يتعامل المعهد مع المسرح المستقل والفنون الأدائية: “هناك طرق متعددة لدعم هذا الحراك، من منح الإنتاج والاستشارات الفنية، إلى توفير مساحات للورش والتدريب ضمن برنامج تخشينة. وإتاحة فرص التقدم لبرامج التدريب الوظيفي أو الصناديق الدولية للإنتاج. وحتى دعم السفر لتقديم عروض في ألمانيا والمشاركة في مهرجانات محلية، تتضمن غالبًا ورش عمل ودورات تدريبية متقدمة”.





