«بليغ حمدي».. بداية مضيئة ونهاية درامية

اسمه «بليغ عبدالحميد حمدي مرسي»، ولد في 7 أكتوبر 1932 بشارع التوفيقية في روض الفرج بحي شبرا العريق، وتوفي في 12 سبتمبر 1993 بمستشفى “جوستاف روسيه بفرنسا”. وبين تاريخي الميلاد والوفاة، امتدت رحلة كبيرة من الطرب والألحان… والآلام أيضا.
والده هو العالم الأديب الدكتور عبدالحميد حمدي مرسي. قال عنه بليغ: “كان والدي من علماء الطبيعة المتخصصين في علم البصريات، وله مؤلفات عديدة. وإلى جانب ذلك كان مهتما أشد الاهتمام بالموسيقى، يعزف على البيانو ويملك صوتا جميلا، وكان من أوائل المشجعين للموسيقى في مصر. كاد أن يحترف الغناء، لكن جدي سارع بإرساله إلى لندن في بعثة علمية ليكمل دراسته في الطبيعيات، يعني قطع عليه طريق الغناء. وكان من أصدقائه زكريا أحمد والقصبجي، وكانا يزورانه في بيته حيث تعقد مجالس السماع والطرب”.
بيت ثقافي
أما الدته، فهي عائشة أو “ماما عيشة ” كما كان يناديها بليغ. كانت على درجة من الثقافة، وفدية متعصبة، كتبت شعرا في مدح زعيم الأمة سعد زغلول، وكانت عضوة عاملة في جمعية السيدات الوفديات.
قال عنها بليغ: “أتذكر أن والدتي كانت تمنعنا من الذهاب إلى المدرسة إذا أمطرت الدنيا، وهي نادرا ما تمطر في القاهرة، فجعلني هذا أحس بخوفها علينا وحبها لنا، وكنت أحبها أكثر مما تحبني, فقد كنت حين أرى في السماء غيمة سوداء أسرع إلى والدتي من أي مكان أكون فيه، وأقول لها: (إلحقي يا ماما، الدنيا حتمطر). ثم آخذها بيدي إلى الغرفة وأحتمي بها.. وتحتمي بي”.
رابع الأبناء
كان بليغ رابع الأبناء بين خمسة أشقاء: الأكبر هو الدكتور مرسي سعد الدين، الكاتب والصحفي البارز وأحد أبرز كتاب جريدة الأهرام، وكان بمثابة الأب الفعلي لبليغ بعد وفاة والده. أما الشقيقتان صفية وأسماء كانتا من هواة الرسم، وعملت صفية فترة كمصممة أزياء وصحفية في مجلة الجيل. حزنت كثيرا على رحيل بليغ فلحقته بعد 40 يوما فقط. أصغر الأشقاء هو حسام، ضابط بالجيش، توفي شابا بسبب مرض القلب.
الدراسة
حصل بليغ على الشهادة الابتدائية من مدرسة “هدى شعراوي” بشبرا عام 1946. وكان جاره الشاعر الكبير صلاح جاهين الذي روى ذكرياته معه: ” كان هذا في شبرا في الثلاثينات المبكرة. كانت القاهرة كلها مليئة بالموسيقى والأنغام. ومن الموسيقيين الذين قابلتهم أيضا في تلك الحقبة التاريخية الهامة، حذروا فذروا مين؟ بليغ حمدي، كنا طفلين، ما نزال ننقل من مكان إلى آخر بواسطة الآخرين.
وكانت أسرتانا تسكنان شقتين متجاورتين، فإذا أرادت الوالدتان أن تشربا فنجان قهوة معا، كان عليهما أن تضعانا على الأرض في ركن من أركان الحجرة. حتى تتمكنا من الدردشة بسلام دون مخافة سقوطنا وإصابتنا. وكنت أكبر من بليغ ببضعة شهور وطبعا لم أكن أعتقه، كنت أضربه وأهبشه وأضع أصابعي في عينيه، صحيح أنه كان يعضني دفاعا عن نفسه ولكن المنتصر دائما كنت أنا، لا لشيء إلا لفارق السن طبعا. ولي رجاء واحد فقط: لا تظنوا أن هذا هو السبب في أن بليغ لم يلحن لي أي أغنية حتى الآن، فقلبه أبيض ولا يمكن أن يظل حاقدا علىّ طوال هذه السنين!”.

ثلاث مدارس
في المراحل التالية، تنقل بليغ بين ثلاث مدارس: النيل، والأمير فاروق، والتوفيقية. وبعد حصوله على التوجيهية أراد أن الالتحاق بمعهد الموسيقى العربية، لكن والدته أصرت على كلية الحقوق، فالتحق بها، وفي الوقت نفسه التحق بالمعهد العالي للموسيقى المسرحية (الدراسة المسائية).
ظل طالبا في كلية الحقوق سنوات طويلة دون الحصول على الليسانس لانشغاله بالفن، وكان يؤجل امتحاناته كل عام، حتى توفي قبل أن يحصل على الليسانس.
وفي المعهد درس “الصولفيج”، قراءة النوتة الموسيقية، علم الأصوات، والهارموني على يد كمال إسماعيل، حتى وصل إلى مرحلة “الكونتر بوانت” أي اللحن العكسي، وهي مرحلة متقدمة في علم الموسيقى. كما درس الموشحات الأندلسية وحفظ الكثير من الأدوار وألحان الفلكلور.
بدايته مع الموسيقى
قال بليغ: “من زمان… من زمان قوي كنت في السادسة من عمري على ما أذكر، كانت هوايتي الوحيدة الاستماع إلى الراديو. وكان في بيتنا بيانو قديم، جاء ضمن جهاز العروس كما كانت العادة. وقد استقدم والدي أستاذا ليعطي شقيقتي أسماء وصفية دروسا في العزف، لكن أنا اللي تعلمت وهما لم تتعلما. حينها شعر والدي بموهبتي وشجعني على الاستماع للموسيقى الكلاسيكية التي كنت أكرهها في البداية بحكم سني.
لكن والدي كان يفرض علي أن أجلس إلى جانبه مرة في الأسبوع لكي أصغى إلى السيمفونيات العالمية، بالإضافة إلى تشجيعي على سماع الأغاني العربية. لم تكن الموسيقى تعطلني عن الدراسة حتى المرحلة الثانوية والتحاقي بكلية الحقوق ومعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية. ومن هناك سمعني الدكتور الحفني- والد رتيبة الحفني- ونقلني إلى المعهد العالي للموسيقى المسرحية”.
ويضيف: “كان هناك سبب يدفعني إلى عدم إهمال الدراسة، وهذا السبب هو أني كنت عازما على تحقيق رغبة أمي في أن أحصل على دبلوم الحقوق لكي لا يقال إنها لم تحسن تربيتي بعد وفاة والدي، بالإضافة إلى أنني كنت أريد إرواء عطشي للموسيقى بدراستها في أرقى المعاهد وهو ما كان سيسعد والدي لو بقى على قيد الحياة”.
بليغ حمدي مطربا
تعرف بليغ على شلة مدرسة التوفيقية الثانوية، وهم: لطفي عبدالحميد، يوسف عوف، محمد عوض، صلاح عرام، وسمير خفاجي. وكانت تُسمى “الشلة الفاقدة”، لأن أعضاءها كلهم من المخضرمين في الدراسة، إذ رسبوا كثيرا بسبب تعلقهم بالفن. ومن هذه الشلة تكونت فرقة “ساعة لقلبك” التي حققت شهرة كبيرة.
قدم بليغ في بداياته أغنيات بصوته من ألحان غيره، وأحيانا كان يلحن بعض الاستعراضات. لكن طموحه كان أكبر من أن يكون مجرد مطرب في فرقة إذاعية، فقرر أن يطرق باب الإذاعة لامتحان صوته. وكان صاحب القرار وقتها في الإذاعة هو الأستاذ محمد حسن الشجاعي، الذي أعجب بصوته ووافق على اعتماده كمطرب. إلا أن بليغ كان مصرا على أن يصنف كملحن لا كمطرب، لكن الشجاعي رفض ذلك بإصرار.

أول ظهور إذاعي
قدم البرنامج العام في الإذاعة المصرية بليغ حمدي للمستمعين كمطرب لأول مرة يوم 25 إبريل 1955، بأغنية “الطير العاشق” كلمات مصطفى عبدالرحمن، وألحان الدكتور يوسف شوقي. وبعد يومين فقط، في 27 إبريل 1955، أذيعت له أغنية ثانية بعنوان “يا فجر” من كلمات وألحان نفس الثنائي.
يا فجر نورك هل وبان ساحر فتان
طاف ع الزهور صحى النعسان وروى العطشان
وردد الطير الفرحان أحلى الألحان
وقد نشرت مجلة “الإذاعة” نص الأغنية مع أول صورة لبليغ في الصحف، وذلك في العدد 1057 الصادر يوم 18 يونيو 1955، لتكون أول إطلاله له على الجمهور. وبعد أكثر من أسبوعين، شارك بليغ في البرنامج الغنائي “قرية الجن” مع كارم محمود ومديحة عبد الحليم والمجموعة، وهو من أشعار أحمد شوقي وألحان يوسف شوقي، وأذيع يوم 14 مايو 1955.
ثم غاب نحو ثمانية أشهر قبل أن تعود الإذاعة لتقدم له طقطوقة “يا ليل العاشقين” كلمات محمد فتحي مهدي وألحان عبد العظيم محمد، التي أذيعت يوم 15 يناير 1956.
وتبدأ الطقطوقة بالمطلع:
يا ليل العاشقين ارحم شوية ارحم شوية حبيبي وأنت ليه قاسيين عليه
يا ليل العاشقين كان قلبي خالي سعيد في دنيتي قبل انشغالي
تلتها أربع أغنيات أخرى:
- “لو كان قلبي خالي” (ألحان رؤوف ذهني – كلمات أحمد حلمي) أذيعت يوم 21 يناير 1956.
- “يا باكي من أسى الأيام” (ألحان فؤاد حلمي – كلمات ظريف السويفي) أذيعت يوم 1 فبراير 1956.
- “ما بقتش أصدق حلفانك” (ألحان محمد قاسم – كلمات محمد فتحي مهدي) أذيعت يوم 22 يونيو 1956
- “زي اليومين دول” (ألحان محمد عمر- كلمات عبداللطيف البسيوني) وكانت آخر ما قدمته الإذاعة له كمطرب.
وبذلك يكون رصيده كمطرب في الإذاعة المصرية ثماني أغنيات، شعر بليغ أن معظمها يفتقد لمقومات النجاح، فقرر تصحيح المسار وترك الغناء.
أول لحن
جاءت النقلة الحقيقية لبليغ حمدي عن طريق المطربة فايدة كامل، زميلته في الجامعة وفي “ساعة لقلبك”. إذ سمعته يوما يغني أغنية من ألحانه بعنوان “ليه فايتني ليه”، فأعجبت بها وطلبت أن تغنيها بصوتها. رحب بليغ، وبعد تسجيلها في الأغنية تحقق للأغنية نجاح كبير. أذيعت لأول مرة يوم الخميس 1 نوفمبر 1956، أي بعد أقل من خمسة أشهر من آخر أغنياته كمطرب.
نجاح الأغنية دفع الأستاذ الشجاعي للاتصال به ودعوته إلى مكتبه، وقال له: “أنا سمعت ألحانك وأعجبت بها. شوف يا ابني أنا كنت حاسس بالموهبة الموسيقية التي تملكها ولكني لم أكن أريد أن أدفعك للاحتراف قبل أن أتأكد من أنك درست الموسيقى دراسة حقيقية”.
ويحكي بليغ عن تلك المرحلة: “كان الشجاعي يوليني اهتماما عظيما. وكان يرى أن المعاهد الموسيقية لا تعطي طلابها ما يجب أن يأخذوه، فأرسلني إلى البروفيسور ميناتو ليعلمني النظريات الموسيقية، وإلى البروفيسورة جوليا لتعميق دراستي للبيانو. لكن ما أفادني أكثر وأكثر هو معايشتي للوسط الفني والأدبي أيامها، فتعلمت من زكريا أحمد ومحمد فوزي والقصبجي وأنور منسي وعبدالغني السيد. ومن كامل الشناوي تعلمت تاريخ الأدب العربي، ومن عبدالرحمن الخميسي فن القصة القصيرة”.
مع الأحداث الوطنية
جاءت إذاعة “ليه فايتني ليه” مواكبة للعدوان الثلاثي على مصر (1956)، فتفاعل بليغ مع الأحداث وبدأ مسيرته الوطنية. قدم ثلاث أغنيات أثناء العدوان:
- “نشيد يا الله يا خويا.. يالله يا عمي” (غناها الكورال).
- “ح نقاتل” (غنتها هدى سلطان).
- “باسم الأحرار” (غناها كارم محمود).

المقال الأول عنه
نُشر في 27 نوفمبر 1956 بصحيفة «الأخبار» مقال بعنوان «تذكر هذا الاسم»، يتنبأ فيه كاتب المقال بمستقبل باهر لبليغ حمدي، الذي كان رصيده وقتها يتعدى بضع ألحان. ورغم ذلك، استطاع المقال – بعين ثاقبة- أن يتوقع لهذا الشاب مستقبلا كبيرا. وجاء فيه.
«يدرس القانون وسيحصل على إجازة الحقوق هذا العام، لكنه وهب قلبه ووجدانه وكل مشاعره لحبه الأول والأخير، حبه الذي لن يموت: إنه يعشق حبه ويكافح من أجله وهو بعد طالب يدرس التاريخ واللغات في المدرسة الثانوية ويجري إلى أساتذة الموسيقى في مدرسة الفن.
في الرابعة والعشرين من عمره، قصير القامة عنيد الإيمان، يتتلمذ على أيدي عازف البيان الإيطالي جوليو والموسيقار الإيطالي كافيادس ويدرس الموشحات على يد عبده قطر وأنور العلايلي.
تقدم العام الماضي للإذاعة كمطرب، ونجح وأذيعت أغانيه، لكن هوايته الأصيلة هي للموسيقى. هي لخلق الألحان وبعث الأنغام. فوهب كل وقته ليحضر ميلاد كل لحن جديد مع كمال الطويل والموجي وفؤاد حلمي وعبد العظيم محمد. ثم بدأ يستخرج عصارة أعماقه على الأوتار حتى التقت به المطربة فايدة كامل في استديوهات الإذاعة، فأسمعها لحنا وصاحت أنه رائع وأنها تتمنى أن تغنيه. وحين سألته عن اسم الملحن رفض أن يبوح، فحفظت اللحن دون أن تعرف مؤلفه، ثم نجح اللحن وبدأت الجماهير تطالب به فايدة في كل الحفلات. ثم عرفت فايدة أن لحن ”ليه فاتني ليه” هو من إبداع الفنان الجديد “بليغ حمدي”.
ثم قدم لحنا آخر للمطرب كمال حسني، فسجله على الفور في استديوهات جلال. وهذا الأسبوع تغني له حورية حسن لحنا جديدا. قال لي إن دراسة القانون علمته الاحتكام بالمنطق، وأن التهاب شعوره بالموسيقى يناديه دائما أن يترجم منطق العاطفة إلى اللغة العالمية التي تتعارف بها كل القلوب.. القلوب التي لا تؤمن بالمنطق».
رحلة المجد واللقاء الأول مع أم كلثوم
عندما بدأ نجم بليغ يلمع في سماء الألحان، طلبت السيدة أم كلثوم أن تراه. تم اللقاء في منزل الدكتور “زكي سويدان”، وضمت السهرة عازف الكمان المعروف أنور منسي، والشاعر مأمون الشناوي، والمطرب عبدالغني السيد، والموسيقار محمد فوزي الذي رتب اللقاء.
في تلك الليلة، غنى بليغ مطلع أغنية جديدة لم يتم لحنها، كتب كلماتها شاعر شاب يدعى “عبدالوهاب محمد”، وكان يعمل موظفا في شركة بترول. يقول مطلعها: “حب إيه اللي أنت جاي تقول عليه”. وفي نهاية السهرة همست أم كلثوم في أذن بليغ، الذي لم يتجاوز الثامنة والعشرين:
- فوت عليَ بكرة الصبح في البيت!
وفي الصباح ذهب بليغ وليس في ذهنه إلا تصور واحد وهو أن أم كلثوم تريد منه أن يقوم بتلحين أغنية لابن شقيقها إبراهيم خالد، الذي كان يفكر في احتراف الغناء آنذاك، وبالفعل، تحدثت معه أم كلثوم عن ابن شقيقها، وبعد ذلك طلبت منه أن يسمعها اللحن الذي غناه أمس في السهرة، وبعد أن استمعت له، سألته:
- كلام مين ده؟
- شاعر صديقي، مهندس في شركة شل، اسمه عبدالوهاب محمد.
- أنت حافظ بقية كلام الأغنية؟
- لا… لكن نكلم عبدالوهاب.
ونهض بليغ وطلب عبدالوهاب محمد، الذي لم يصدق نفسه هو الآخر.
ومنذ ذلك اليوم، ارتبط بليغ بأم كلثوم، وغنت له أولى أغانيها يوم الخميس 1 ديسمبر 1960، وكانت “حب إيه”.

نجاح الأغنية
عن نجاح الأغنية كتب كمال الملاخ في عموده “من غير عنوان” بالأهرام: “مع الفجر استمعت – مع الملايين – إلى أغنية أم كلثوم الجديدة أنت فين والحب فين. كانت أم كلثوم في قمتها وهي تشدو باللحن وكأن صوتها آلة موسيقية جديدة أضافتها إلى الموسيقى. أبسط ما يقال: إنها أروع مرة استمعت فيها إلى أم كلثوم، التي كتبت أمس بأغنيتها شهادتي ميلاد جديدتين لملحنها بليغ حمدي ومؤلفها عبدالوهاب محمد”.
ضاعف نجاح “حب إيه” من رصيد بليغ في سوق الغناء المصري، بعدما قبلته أم كلثوم كملحن في رحاب عالمها الغنائي. وقد سبق ملحنين كبار مثل محمد عبدالوهاب، حيث جاء اللقاء الأول لأم كلثوم مع عبدالوهاب عام 1964، بينما لم يوفق آخرون مثل محمد فوزي وفريد الأطرش ومحمود الشريف.
منذ ذلك الوقت قرر بليغ أن يجاور أم كلثوم في السكن. فقد كان يسكن في شبرا بينما هي في الزمالك، فاستأجر شقة في 34 شارع بهجت علي، صارت صومعة إبداعه. جلس فيها بالساعات الطويلة يعد ألحانه، حتى أطلق سكان المنطقة على الميدان المقابل “ميدان بليغ حمدي”. وبعد زواجه من الفنانة وردة استأجر لها شقة ثانية في ميدان سفنكس، مع الاحتفاظ بالشقة المجاورة لفيلا أم كلثوم كمكان للعمل.
ألحان بليغ حمدي لأم كلثوم
لحن بليغ حمدي لأم كلثوم إحدى عشرة أغنية، بدأت بـ”حب إيه” (1960) وانتهت بـ”حكم علينا الهوى” (1973)، التي لم تستطع تقديمها على المسرح بسبب اشتداد المرض عليها، فسجلتها فقط للإذاعة. ومن ذكرياته معها قال: “لم تحدث بيني وبينها خلافات شديدة، كلها أشياء عبرت بسلام. مثلا، كنت أكتب نوتة عالية فتعترض وتقول: “يا ابني أنا هغني على المسرح وهكرر ده كتير، ياريت ما توصلهوش للنوتة العالية”.
لم تكن أم كلثوم متزمتة، بل كانت تقبل الجديد الذي تشعر أنه يضيف لفنها، في أغنية سيرة الحب فكرة في الاستعانة بآلة” الأكورديون”. أحضرت فاروق سلامة وجعلته يحفظ الصولو الخاص باللحن في بيتي وكان اندهاش أم كلثوم شديدا حينما وجدت فاروق يحمل الأكورديون ويدخل إلى البروفة دون سابق إنذار فقال له:
- تعالى يا ابني أنت مين ورايح فين؟
ارتبك فاروق ولم أكن أعلم أنه أتى وأسرعت وقلت لها:
- أنا جئت به لتسمعي منه صولو
- قالت: يا ابني ده بيلعب أكورديون هيعمل معايا إيه؟
- اسمعيه وإذا لم يعجبك فليذهب ونلغي الصولو
ولما سمعته أعجبها جدا وقررت الإبقاء عليه وكانت هذه بدايات التجديد التي أدخلتها في ألحاني لام كلثوم.
بليغ .. النهاية
على مدى مسيرة امتدت من 1955 حتى وفاته عام 1993، لم يترك بليغ مطربا أو مطربة إلا وضع بصمته على مشواره. كان شريكا في مشوار كل المطربين والمطربات باختلاف الأجيال من أم كلثوم إلى أحمد عدوية ومن عبدالحليم حافظ إلى على الحجار وهاني شاكر، ومن صباح ووردة وعفاف راضي إلى ميادة الحناوي ونجاة وعايدة الشاعر وشادية ولطيفة وصفاء أبوالسعود ونادية مصطفى ومها صبري وماهر العطار ومحرم فؤاد ومحمد رشدي وغيرهم. فقد وصلت قائمة ألحانه -وفق جمعية المؤلفين والملحنين- إلى 1359 لحنا.
لكن النهاية كانت درامية، فكما تعشق الأساطير الصخب وتأبى ألا تعيش بهدوء، جاءت حادثة الانتحار الشهيرة بشقته يوم 17 ديسمبر 1984 التي قلبت الدنيا رأسا على عقب. وفي 10 فبراير 1986، أصدرت محكمة أول درجة حكمها بحبس بليغ حمدي سنة مع الشغل، وكفالة ألف جنيه لوقف التنفيذ، مع وضعه تحت مراقبة الشرطة مدة مساوية لمدة العقوبة.
مأساة بليغ حمدي
قبلها بشهر تقريبًا، كانت مأساة بليغ حمدي موضع حوار مطول بين الكاتب الصحفي محمود عوض والموسيقار محمد عبدالوهاب. وكان عوض وقتها يخوض تجربة رئاسة تحرير صحيفة الأحرار، التي اعتبرها تجربة ملهمة وتحديا مهنيا جديدا وبالفعل ارتفعت أرقام توزيع الأحرار من ثلاثين ألف نسخة إلى مئة وستين ألف نسخة. وفي خضم تلك النجاحات، تلقى محمود عوض مكالمات تهنئة حارة بنجاح تجربته الجديدة، كان في مقدمتها اتصال من الموسيقار محمد عبدالوهاب، فانتهز عوض الاتصال وطلب من عبدالوهاب أن يكتب مقالا باسمه وينشره في الجريدة.
سکت عبدالوهاب لحظات قبل أن يسأله: أنت بتتكلم بجد؟ طيب أنا موافق.. لكن طبعًا إنت اللي تكتبه لي.
فأجابه عوض:
نعم.. سأكتبه لك من حصيلة مناقشاتنا معًا. أليس من رأيك بليغ حمدي مظلوم؟ وأن الصحافة مذنبة؟ والمصيبة التي جرت لا يجب أن تجعل الناس قساة القلوب على بليغ، لأنه هو أيضًا ضحية؟ وأن الحملة الجارية والمتصاعدة أكبر بكثير من شخص بليغ لتشمل كل ما هو فن مصري؟
قاطعه عبدالوهاب مستدركًا:
لكن…!!
أجابه عوض قبل أن يكمل:
نعم، هناك دعوى تأخذ مسارها أمام القضاء، لكن المقال الذي أقترحه عليك لن يتعرض لها مطلقًا. وحتى اسم بليغ حمدي لن يرد فيه. فقط سنتناول قيمة الفنان، قيمة مصر، مسؤولية المجتمع، معنى العطاء، خطورة التشفي، وجناية الإثارة الصحفية. وبذكاء القارئ المصري سيعرف الجميع أنك تتحدث عن بليغ.
وافق عبدالوهاب على أن يكتب محمود عوض المقال وينشره باسمه. كتب محمود عوض المقال وقرأه على عبدالوهاب كلمة كلمة قبل أن ينشره.
إنني أشكو الصحافة
صدر العدد الجديد من جريدة الأحرار يوم 13 يناير 1986، يحمل في صدر صفحته الأولى إشارة إلى أن محمد عبدالوهاب يكتب مقالًا لأول مرة. وجاء المقال بعنوان: «إنني أشكو الصحافة.. إلى الصحافة»، قال فيه: “وحينما يبالغ البعض في تحميل سلوك هذا الفنان أو ذاك بأكثر مما يحتمل، وحينما يمارس البعض محاكمات مستمرة لكل الفنانين المصريين بحجة أو بأخرى، فإنهم بذلك لا يقللون من مكانة الفن والفنانين فقط، ولكنهم بذلك يقومون- بغير وعي غالبا- بوضع المزيد من الألغام في طريق الريادة الفنية المصرية في العالم العربي. إن هناك دولًا نعرفها جميعًا مستعدة لإنفاق ملايين الملايين حتى تكون لها بعض هذه الريادة المصرية في العالم العربي. فدعونا لا نعطى عن حسن نية ذلك النوع من الذخيرة الذي يستخدم فورًا ضد مصر والمصريين جميعًا”.
كان يريد محمود عوض من هذا المقال أن يخفف عن بليغ بعض من آلام الهجمات التي كان يتعرض لها من الصحف أثناء محاكمته. وعندما شعر بليغ بالخطر يقترب، وفي الوقت نفسه بدأت أعراض مرض الكبد تداهمه، فضل السفر إلى لندن ومنها إلى باريس حيث يمتلك شقة هناك وقدم محاميه نقضا في الحكم.
وبعد نحو 5 سنوات من الغربة – وصفها بليغ بأنها تعادل مليون سنة في ثقلها ومرارتها – عاد إلى أرض الوطن قبل ثلاثة أشهر من سقوط الحكم بالتقادم. عاد إلى القاهرة يوم 24 نوفمبر 1990، وفي اليوم التالي أصدرت الدائرة الجنائية بمحكمة النقض حكما حضوريا ببراءته من تلك التهمة الجائرة، وألغت الحكم الصادر من محكمة العجوزة الجزئية، لينتهي الكابوس الطويل الذي عاشه، بليغ بعد أن دفع ثمنه فادحا.
لكن بليغ لم يعد بعد القضية كسابق عهده. فقد كانت بداية نهايته للأسف. وعندما اشتد المرض سافر باريس للعلاج بمستشفى “جوستاف روسيه”. حيث توفي يوم 12 سبتمبر 1993. وكانت وصيته أن يدفن بجوار والدته.