بعد افتتاحها رسميا.. عودة الحياة إلى مقبرة «أمنحتب الثالث» في وادي الملوك

بعد أكثر من عشرين عاما من أعمال الترميم الدقيقة، تُفتح مقبرة «الملك أمنحتب الثالث» أخيرا أمام الزوار، لتكشف عن روعة الفن المصري القديم. وشهدت الأقصر افتتاح المقبرة رسميا، في احتفال أثري يعيد الحياة لأحد أعظم ملوك مصر القديمة، بجهود مشتركة بين فرق مصرية ويابانية، وبدعم من منظمة اليونسكو والحكومة اليابانية. ليتوج المشروع كأحد أبرز إنجازات صون التراث العالمي في وادي الملوك.
ترميم استمر أكثر من عقدين
بدأت أعمال الترميم في المقبرة عام 2001، ضمن مشروع دولي كبير لصيانة اللوحات الجدارية لمقبرة الملك أمنحتب الثالث. التي تحمل الرقم (KV22) في وادي الملوك بالبر الغربي من الأقصر.
وتم تنفيذ المشروع على ثلاث مراحل رئيسية: الأولى بين عامي 2001 و2004. والثانية بين 2010 و2012، والثالثة والأخيرة بين 2023 و2024. تحت إشراف وزارة السياحة والآثار ومكتب اليونسكو الإقليمي بالقاهرة، وبالتعاون مع جامعة هيغاشي نيبون الدولية في اليابان.
ثلاث مراحل هامة
خلال المرحلتين الأولى والثانية، أنجز فريق من الخبراء المصريين واليابانيين والإيطاليين أعمال الترميم الأساسية، التي شملت ترميم اللوحات الجدارية والأعمدة والأسقف في الغرف الرئيسة للمقبرة. إلى جانب إعادة تركيب غطاء التابوت الجرانيتي الأحمر الذي كان مكسورًا إلى أكثر من 200 قطعة.
أما المرحلة الثالثة، فركزت على الصيانة الوقائية، ومعالجة الشروخ الدقيقة وتنظيف الأحجار والصخور، وتثبيت الصور الجدارية. إلى جانب تركيب أجهزة تحكم بيئي حديثة لمراقبة درجات الحرارة والرطوبة داخل المقبرة وضمان استقرارها.
تتويج جهود طويلة
قال الدكتور محمد إسماعيل، أمين عام المجلس الأعلى للآثار، إن افتتاح المقبرة يمثل “تتويجًا لجهود طويلة امتدت لعقدين من العمل العلمي والفني الدقيق”. وأكد أن المشروع يعد نموذجًا للتعاون الدولي الناجح بين مصر واليابان واليونسكو. مشيرا إلى أنه “يعكس حرص الدولة المصرية على الحفاظ على تراثها العالمي للأجيال القادمة”.
وأضاف إسماعيل أن المقبرة كانت تعاني من تدهور كبير بسبب الرطوبة العالية، والكائنات الحية الدقيقة التي غزت جدرانها. فضلًا عن تآكل الألوان وسقوط أجزاء من الطبقات الجصية. وقال: “كنا أمام تحدٍ علمي كبير، لكن خبراء الترميم المصريين أثبتوا كفاءتهم العالية. ونجحوا في إنقاذ المقبرة وإعادتها إلى حالتها الأصلية تقريبًا”. مشيرا إلى أنه سيتم فتحها أمام الزوار بنظام الفتح الخاص للحافظ عليها.
خطة علمية ومعايير دولية
من جانبه، أوضح الدكتور وجدي عبد الغفار، مدير عام آثار الأقصر، أن المشروع خضع لرقابة علمية دقيقة في كل مراحله. حيث تم إعداد خطة ترميم وفقًا لمعايير اليونسكو الدولية لحماية التراث العالمي.
وأضاف أن المشروع لم يقتصر على الترميم فقط، بل شمل أيضًا إعداد خطة إدارة مستدامة للموقع لضمان استمرارية الصيانة والمراقبة المستقبلية بعد افتتاح المقبرة أمام الزوار. وأشار عبد الغفار إلى أن المقبرة ستفتح للزيارة بتدابير سلامة مشددة. تتضمن تحديد عدد الزوار اليومي للحفاظ على استقرار البيئة الداخلية، كما تم تجهيز ممرات خاصة وإضاءة متحكم بها لضمان مشاهدة النقوش دون التأثير عليها.
فلسفة جديدة في العمل الأثري
أما محمد عبد البديع، رئيس قطاع الآثار المصرية، فأكد أن المشروع يعكس “فلسفة جديدة في العمل الأثري تعتمد على الدمج بين التكنولوجيا الحديثة والخبرة المصرية العريقة”.
وأضاف أن أعمال الترميم الأخيرة استخدمت تقنيات تصوير وتحليل متقدمة لرصد حالة كل جدار وسقف قبل التدخل. إلى جانب توثيق رقمي شامل لكل تفاصيل المقبرة، لتصبح نموذجًا يحتذى به في مشاريع الترميم المستقبلية.
التراث والإنسان
من جهته، قال الدكتور سعدي زكي، مدير عام ترميم آثار ومتاحف مصر العليا، إن هذا المشروع “لم يكن مجرد مهمة فنية، بل تجربة إنسانية امتدت لعشرين عامًا”. وأوضح أن المقبرة كانت في حالة سيئة جدًا في بدايات المشروع. إذ كانت الجدران مغطاة بأعشاش الخفافيش والواطاويط، وتسببت الرطوبة العالية في تشققات واسعة وتلف في الطبقات اللونية. وأضاف: “تمكّنا من إزالة كل تلك التهديدات بعناية كبيرة، واستخدمنا مواد تثبيت آمنة بيئيًا، تضمن بقاء الألوان الأصلية لأطول فترة ممكنة دون تدخل متكرر”.
وبصوتٍ يغلب عليه التأثر، تحدث محمد محمود محمد، كبير فنيي الترميم، بالمعاش، قائلاً: “بدأت العمل في هذه المقبرة وأنا شاب في الثلاثين من عمري، وشعري أسود. واليوم أراها تُفتتح وأنا على المعاش وشعري أبيض. كبرت أنا والمقبرة معًا، وكل جدار فيها يحمل ذكرى تعب وحب وإصرار”. وأضاف بابتسامة فخر: “واجهنا صعوبات كثيرة، من الظلام والرطوبة إلى الخفافيش التي كنا نخرجها بأيدينا. لكننا كنا نؤمن أننا نحمي قطعة من روح مصر، واليوم أشعر أن تعبنا لم يذهب سدى”.
التدريب وبناء القدرات
إلى جانب أعمال الترميم، شمل المشروع برامج تدريبية لبناء القدرات المحلية. فقد تم تدريب 195 من الكوادر المصرية من العاملين في مجال الآثار والترميم على أحدث تقنيات الصيانة والحفظ وإدارة مواقع التراث الثقافي.
كما نظمت وزارة السياحة والآثار ورش عمل توعوية للأطفال والشباب والنساء في المجتمع المحلي. لتعزيز الوعي بأهمية الحفاظ على التراث ودوره في دعم السياحة والتنمية المستدامة.
عظمة أمنحتب الثالث
يُذكر أن الملك أمنحتب الثالث (1390 – 1352 ق.م) هو أحد أعظم ملوك الأسرة الثامنة عشرة، وتميز عهده بازدهار فني ومعماري غير مسبوق، كما تمتعت مصر في فترة حكمه بالسلام والرخاء. وهو ابن الملك تحتمس الرابع والملكة موت إم ويا، وزوج الملكة الشهيرة تي. وقد شيّد العديد من الصروح المعمارية الضخمة، مثل الجزء الأكبر من معبد الأقصر. وله إضافات مميزة في الكرنك. كما أن تمثالي ممنون الشهيرين في البر الغربي من أعماله.
أما مقبرته (KV22)، فتتشابه في تخطيطها مع مقبرة والده تحتمس الرابع. لكنها تميزت بزخارفها البديعة ونقوشها الرمزية، التي تصور رحلة الملك إلى العالم الآخر. حيث يظهر في مناظر دينية يتلقى رمز الحياة “عنخ” من الآلهة. وقد زين سقف حجرة الدفن بالنجوم الصفراء على خلفية زرقاء في إشارة إلى السماء الأبدية. بينما تضم جدران الغرف فصولاً من كتاب “إيمي دوات”، الذي يصف رحلة الروح في العالم الآخر بعد الموت.
اقرأ أيضا:
مدرسة «الشيخ الطاهر» في الكرنك.. منبر علم تحوّل إلى أطلال
حلم «سمر» يتحول إلى مكتبة.. «بيان» نافذة ثقافية في قلب الأقصر