دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

بطل قومي وجندي يعاني.. «الفلاح المصري» في لوحات الفن التشكيلي وكتب الأدب

منذ أن خطَ المصري القديم أول أثر على جدران المعابد، كان الفلاح هو البطل الأول الذي جسد فيه حكاية الأرض والنيل. لم يكن مجرد عامل يزرع ويحصد، بل صورة مكثفة لروح مصر، رمزًا للخصب والعطاء والصبر. وفي كل حقبة تاريخية، عاد الفلاح ليطل من جديد، مرة عبر ريشة فنان يترجم ملامحه في صلابة الجسد وعمق النظرة، ومرة عبر قلم أديب جعل منه بطلًا شعبيًا أو إنسانًا مأزومًا تحاصره الأوجاع.

في الفنون التشكيلية بدا الفلاح كأنه أيقونة حية؛ فلوحات محمود سعيد وحسين بيكار حملت كبرياء الأرض. بينما كشفت أعمال إنچي أفلاطون عن الجانب الإنساني المثقل بالأسئلة والمخاوف. الفلاح عندهم ليس مجرد شخصية مرسومة، بل كيانا يختزن ذاكرة الريف كله، بعرقه وكرامته. وفي الأدب، أطل في كتابات يوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي، مرة مقاتلًا ضد الإقطاع والاحتلال، ومرة إنسانًا بسيطًا يعمل ليواجه قدره بشجاعة. وثالثة رمزًا لمعاناة ممتدة تتناوب عليه قسوة الفقر والإهمال.

بطل قومي ورمز معاناة

إن تحول صورة الفلاح من بطل قومي يستمد منه معنى المقاومة والكرامة، إلى رمز للمعاناة يعكس أوجاع الريف وأزماته. يكشف عن حجم التحولات الاجتماعية والسياسية التي عاشتها مصر. ومع ذلك، يبقى الفلاح هو الخيط الذي يربط بين الماضي والحاضر، بين أرض لا تكف عن العطاء ووطن لا يكتمل وجهه من دون أبنائه. ويأتي عيد الفلاح المصري ليذكرنا بأن وراء كل سنبلة قمح ونغمة في أغنية ريفية ولوحة أو رواية. يقف هذا الإنسان الذي صنع التراث وحمل على كتفيه تاريخ أمة بأكملها.

لوحة إنچي أفلاطون
لوحة إنچي أفلاطون
الفلاح في الفن التشكيلي

لم يكن حضور الفلاح في الفنون التشكيلية المصرية مجرد اختيار جمالي، بل انعكاسًا لوعي الفنان بقيمة الأرض والإنسان. لذا، مع بدايات النهضة الفنية في أوائل القرن العشرين، اتخذ الفنانون التشكيليون من الفلاح المصري أيقونة تحمل ملامح الهوية الوطنية.

فلاحو محمود سعيد ومحمود مختار

في لوحات محمود سعيد نرى الفلاح بملامح شامخة وأجساد قوية، يبدو وكأنه تمثال حي ينطق بكرامة الأرض. ألوانه الدافئة تعكس روح الريف وخصوبته، وتجعله بطل اللوحة بلا منازع. وفي لوحات أخرى، يمزج الأصالة بالحداثة، ويعود بنا إلى الجذور، حيث يستحضر الفلاح كعامل في الشادوف يرفع الماء من النهر. في مشهد يعكس العرق والإصرار.

الجسد العاري المشدود أقرب إلى هيئة المحارب منه إلى المزارع. في إشارة إلى أن العمل في الأرض معركة بقاء. وعلى الناحية الأخرى، تظهر امرأة تحمل جرة ماء يقف بجوارها حمار أبيض، في توازن بين الجهد الذكوري والقيمة الأنثوية للحياة.

أما تمثال الفلاحة للنحات محمود مختار، فيعد واحدًا من أبرز الأعمال التي خلدت صورة الفلاحة المصرية. يبلغ ارتفاعه 42 سم، وقد نفذ منه ما يقارب 23 نسخة خلال الفترة ما بين 1931 و1948. لم يكن هذا العمل سوى امتداد لروح مختار الإبداعية التي استلهمها من نشأته في قرية قريبة من المنصورة. حيث التصقت ذاكرته منذ الطفولة بمشاهد الريف والترعة وطمي النيل.

تمثال الفلاحة محمود مختار
تمثال الفلاحة محمود مختار
الفلاحة كرمز للنسوية

بجرأتها ونضالها، كانت إنچي أفلاطون صوت الفقراء والمظلومين في زمن الظلام الاجتماعي والسياسي. ففي عام 1959، تم اعتقالها سياسيًا، لكنها لم تخضع، بل حولت معاناتها وتجربة السجن إلى لوحات نابضة بالحياة. وقبل ذلك، قدمت من زاوية نسوية وإنسانية صورة الفلاح المصري، خاصة المرأة الريفية التي تتحول إلى محور اللوحة: أم ومناضلة في الوقت ذاته، تحمل الأرض على كتفيها، وتختزن صمت المعاناة.

الريف في الحياة اليومية

بريشة مختلفة، جسد حسين بيكار الريف والفلاح في سياق الحياة اليومية: مشاهد الحصاد، عادات الريف، والاحتفالات الشعبية. لم تقتصر لوحاته على التصوير البصري، بل وثقت تفاصيل الثقافة الشعبية.

وينضم إليه الفنان التشكيلي حامد ندا، رائد التصوير الجداري في مصر، الذي أنجز لوحته الشهيرة “الريف” عام 1974 مستخدمًا خامات الأكريليك والألوان الزيتية على التوال. معبرًا عن صورة الريف المصري من خلال رموز متعددة مثل لعب الأطفال معًا وتربية الأغنام والدواجن. كما اعتمد على ألوان الأزرق والأبيض والأصفر ليعكس هدوء الريف وأمانه. بالإضافة إلى أصالته ومصريته.

لوحة حسين بيكار
لوحة حسين بيكار
الفلاح في الأدب المصري

أما في الأدب المصري، فلم يقتصر تصوير الفلاح على كونه عاملًا في الأرض فقط، بل تعددت صوره بحسب الظروف والمكان. فمنذ أدب مصر القديمة وحتى الروايات الحديثة والمعاصرة، قد يظهر الفلاح كجندي يحمل سلاحه دفاعًا عن وطنه، أو فلاح ينتقل من الريف إلى المدينة ليواجه تحديات جديدة. وهو محافظ على أصالته وعلاقته بالأرض. بهذه الصور المتباينة، عكس الأدب قدرة الفلاح على التكيف، الصمود، وحمل هويته الريفية في كل موقع أو دور. مع الاحتفاظ بقيمه وعاداته مهما تغيرت الظروف.

في البدء كان الفلاح الفصيح

كانت البداية مع الفلاح الفصيح، الذي تدور قصته حول فلاح تعرض للظلم على يد موظف سرق ممتلكاته. فاضطر إلى رفع تسع شكاوى إلى المدير الكبير الذي أحالها بدوره إلى الملك نبكاو رع. أعجب الملك بالبلاغة والفصاحة التي كتب بها الفلاح الشكاوى، فأمر بألا يستجاب للفلاح مباشرة، ليواصل كتابة شكاواه بأسلوب يدخل السرور إلى قلب الملك. وفي النهاية، استعاد الفلاح ممتلكاته المسلوبة. وحصل على تعوض عما لحق به من أضرار. وهكذا صار انتصار الحق والبلاغة درسًا خالدًا في الأدب المصري القديم.

ومن ثم، تعكس هذه القصة صورة الفلاح المصري بصفاته الإنسانية والأخلاقية: فهو صبور، ذكي، ومتمسك بالعدل. وتظهر كيف يمكن للكلمة الحكيمة أن تكون أداة لمواجهة الظلم. ما يجعل الفلاح الفصيح رمزًا للذكاء والحق في التراث الأدبي المصري.

لوحة حامد ندا
لوحة حامد ندا
أيام الإنسان السبعة وشرق النخيل

في الأدب الحديث، يتصدر الفلاح الصدارة: فتارة يقدمه عبد الحكيم قاسم في روايته “أيام الإنسان السبعة” بشكل متدين، عبر حياة الدراويش في الريف، حيث يعيش الفلاحون البسطاء بين الحقول، يكدحون نهارًا ويعودون مساءً إلى الحضرة لأداء الذكر والإنشاد. تظهر الرواية كيف يجدون في ممارساتهم الروحية ملاذًا من ضغوط الحياة اليومية، وتبرز الروح الجماعية والتدين الشعبي لديهم. لتكون نافذة لرؤية الحياة الريفية من منظور إنساني وروحي بعيدًا عن الصور النمطية.

أما شرق النخيل لبهاء طاهر فقدمت صورة أكثر تعقيدا للفلاحين في الصعيد، حيث يبرز الصراع ضد الظلم الاجتماعي والاقتصادي. وتبرز كيف يسعى الفلاحون للحفاظ على كرامتهم وهويتهم في مواجهة التحديات، من خلال تسليط الضوء على التوترات الاجتماعية والاقتصادية في الريف المصري.

فلاح عبد الرحمن الشرقاوي وتوفيق الحكيم

في رواية “الأرض”، صور عبد الرحمن الشرقاوي معاناة الفلاحين تحت وطأة الإقطاع والاحتلال، من خلال شخصية محمد أبو سويلم الذي يقود ثورة ضد الظلم، ليجسد الفلاح كرمز للنضال والصمود. تبرز الرواية كفاح الفلاحين من أجل حقوقهم، وتوضح كيف تمثل الأرض لهم الحياة والهوية.

وعلى النقيض، يقدم توفيق الحكيم رؤية ساخرة لواقع الفلاحين من خلال عيون نائب قادم من المدينة. تكشف الرواية التناقض بين القوانين الرسمية والواقع الاجتماعي، وتبرز معاناة الفلاحين في مواجهة الجهل والفساد. موضحة أن النظام القضائي في الريف غالبا ما يكون غير فعال، مما يزيد من حدة الظلم الواقع عليهم.

فلاحو الحرب

في رواية “الحرب في بر مصر”، قدم يوسف القعيد صورة معقدة للفلاح المصري في فترة الحرب. تدور الأحداث حول مصري، ابن الخفير المتفوق دراسيًا، الذي أجبر على الادعاء بأنه ابن العمدة للالتحاق بالجيش بدلاً من الابن الحقيقي للعمدة. تظهر الرواية كيف يستغل الفلاحون في الصراع الطبقي، حيث يضحى بهم لتحقيق مصالح أبناء الطبقات العليا. من خلال هذه القصة، يبرز التوتر بين الواجب الوطني والظلم الاجتماعي، وأن الفلاحين يستخدمون كأدوات في لعبة السلطة.

وعن الهزيمة والحرب، يتناول علي حليمة شخصية الفلاح من خلال إسماعيل إمام، بطل روايته “مكان تحت الشمس”، فهو شاب ريفي من إحدى قرى الدقهلية، التحق بهيئة قضايا الدولة، وتم تجنيده ضابطًا احتياطيًا عقب النكسة. ظل مجندًا حتى انتهاء الحرب التي فقد خلالها ساقه. تعبر الرواية عن الهزيمة العاطفية والوطنية.

اقرأ أيضا:

الروحانيات على الشاشة.. كيف جسدت السينما المصرية الموالد والطقوس الدينية؟

«المتحف الزراعي المصري».. نافذة على إرث مصر الطبيعي

رحلة في أرشيف البحر.. حكايات المصايف المصرية من ورق البردي إلى الشاليهات

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.