الواحات تحافظ على تراثها.. «فخار القصر» رمز الحرف اليدوية المستدامة
الشمس تميل إلى الغروب فوق مآذن قرية القصر في قلب الواحات الداخلة، والهواء معبق برائحة الطين المحروق، بينما يتردد صوت المطرقة الخشبية بين الأزقة الضيقة التي تشبه دهاليز التاريخ. داخل أحد المصانع الصغيرة لصناعة الفخار، المبنية من الطين والجريد، يجلس الطفل «إسلام» يدوّر قطعة الطين على الدولاب الخشبي بمهارة تفوق عمره، بمساعدة والده في محاولة للحفاظ على المهنة في مصنع الفخار الوحيد المتبقي من بين 20 مصنعا كان موجودا في القرية.
كل قطعة تحكي قصة
«الناس فاكرة إن الفخار مجرد طين بيتشكل، بس الحقيقة إن كل قطعة بتحكي قصة»، بهذه الكلمات عبر أصغر صانع فخار في قرية القصر، إسلام محمد أحمد، الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمرة، عن حبه للحرفة. ارتسمت على ملامحه بهجة خفية وهو يرفع أنظاره نحو شعاع الشمس الأخير المتسلل من فتحة السقف.
يجلس إسلام على مقعد خشبي منخفض، يحرك قدميه على الدولاب اليدوي بثقةٍ تشير إلى خبرة تفوق عمره، بجانب الفرن الطيني الذي ينبعث منه الدخان، ويقول وهو يمسح العرق عن وجهه: «اتعلمت الصنعة من جدي.. كنت بشوفه بيعجن الطين وينفخ في النار. بحب أشوف القطعة وهي بتتكون بإيدي، لأني وقتها بحس إني بصنع حاجة من لا شيء».
ورغم صغر سنه، أصبح إسلام أصغر صنايعي فخار في قرية القصر، يساعد والده في تجهيز الخامة وتجفيف القطع قبل دخولها الفرن، حيث تُعد قرية القصر من أقدم قرى الواحات الداخلة، وواحدة من أهم المناطق التراثية المسجلة بمحافظة الوادي الجديد.

إرث الطين.. حرفة لا تعرف الاندثار
تشتهر قرية القصر بطرازها المعماري الفريد وبحفاظها على الحرف القديمة، وأبرزها صناعة الفخار، التي ما زالت قائمة منذ العصر الفاطمي وحتى اليوم.
يقول أيمن حنفي، مرشد سياحي معتمد بالقرية: “القصر كانت مركزًا تجاريًا منذ القدم، وكان أهلها يصنعون كل احتياجاتهم من الطين: أواني، برادات، جِرار مياه، مباخر، لكن اليوم بات هذا المصنع آخر شاهد على تراث عمره أكثر من ألف سنة”.
ويضيف حنفي أن طبيعة الطين في القصر مميزة لأنها تحتوي على نسبة عالية من أكسيد الحديد، ما يمنح الفخار صلابة ولونًا مائلًا للحمرة بعد الحرق، مشيرا إلى أن الناس هناك يتعاملون مع الطين كأنه كائن حي، “بيحطوه في المية يومين عشان يرتاح، وبعدها يبدأوا تشكيله بأيديهم، بدون آلات، فكل شيء يدوي بالكامل.
خطوات الصناعة من الطين إلى النار
داخل المصنع، تبدأ رحلة الإناء من حفرة صغيرة تُجمع منها التربة المحلية. ثم تُنخل وتُخلط بالماء حتى تصير عجينة لينة. يشرح إسلام بخفة يد: “بنحط الطين على الدولاب ونشكله، بعدين نسيبه ينشف في الشمس. لما بيجف، نحرقه في فرن تصل فيه الحرارة إلى 900 درجة”.
ويضيف والده أنهم يستخدمون جريد النخيل والحطب في إشعال الأفران. ما يجعل العملية صديقة للبيئة مقارنة بالمصانع الحديثة: “الطاقة عندنا من الطبيعة، لا بنلوث ولا بنهدر. الطين من الأرض، النار من النخيل، والمية من البير”.

الفخار والبيئة.. تناغم لا يعرف الإسراف
من المدهش في صناعة الفخار بالقصر انسجامها الكامل مع البيئة، حيث لا تُستخدم فيها أي مواد كيميائية. كما يعاد تدوير المياه، ومصدر الطاقة يأتي من مخلفات النخيل أو الحطب المحلي. يقول إسلام مبتسما: “كل حاجة هنا من الأرض.. حتى النار بنولعها من الشجر اللي جنب الطين”.
هذا التناغم جعل من الفخار مثالًا مبكرًا للاستدامة البيئية قبل أن يصبح مصطلحًا شائعًا. ويرى المرشد السياحي أيمن حنفي أن دمج هذه الحرفة في السياحة البيئية يمكن أن ينعش اقتصاد القرية: “السائح لما يشوف الصانع بيشتغل بإيده ويتعلم يعمل قطعة صغيرة بنفسه، ده بيخلق تجربة إنسانية لا تُنسى”.
شباب يعيدون الروح إلى الطين
رغم التحديات، بدأ جيل جديد من الشباب يستعيد الحرفة بروح عصرية. يقول إسلام: “نفسي نعمل صفحة على الفيسبوك باسم فخار القصر ونعرض شغلنا أونلاين.. الناس بره الوادي مش عارفة إن عندنا فن بالشكل ده. في بعض الورش ظهرت تجارب لتلوين الفخار بطرق طبيعية باستخدام أكاسيد الرمل والحديد. وأخرى لدمج الزخارف الحديثة مع النقوش التقليدية”.
ويصف رئيس الوحدة المحلية، سيد أحمد إسماعيل، هذه المحاولات بأنها “نقطة أمل”، مضيفا: “اللي بيميز القصر عن أي مكان تاني إننا مش بنقلّد، إحنا بنحافظ على الأصل ونطوّره”.

تحديات اقتصادية تهدد الحرفة
رغم القيمة التراثية، تواجه الحرفة أزمة اقتصادية واضحة، يقول سيد أحمد إسماعيل، رئيس الوحدة المحلية لقرية القصر: “عدد الورش اللي كانت بتشتغل في الفخار زمان كان أكتر من 20 ورشة. اليوم فاضل واحدة بس. الشباب هجروا المهنة لأنها ليست مربحة”.
ويضيف أن الوحدة المحلية تعمل بالتعاون مع مديرية الثقافة ومركز تطوير الحرف اليدوية على إعداد مشروع لتسويق منتجات الفخار من خلال معارض دائمة داخل المحافظة وخارجها، مع تخصيص دعم تدريبي للشباب، بهدف أن تكون هذه الحرفة مصدر رزق مستدام، وقد بدأوا بالفعل في إنشاء جناح خاص لمنتجات القصر في معرض الواحات السنوي.
أما المرشد السياحي أيمن حنفي فيرى أن الحل يكمن في ربط الفخار بالسياحة الثقافية: “السائح لما يشوف طفل صغير زي إسلام بيشتغل بإيده بين الطين والنار، بيحس إن ده مش عرض.. دي حياة. التجربة دي لازم تكون جزءا من خريطة السياحة في الداخلة”.
ربط الفخار بالسياحة ونشر الوعي
يضيف محمد صابر الفخراني، أحد المهتمين بصناعات الفخار بقرية القصر: “المشكلة إن الناس بقت تعتمد على البلاستيك والألومنيوم، والفخار مبقاش مطلوب زي زمان. بس الفخار له روح.. بيحافظ على طعم الميه والأكل، وده اللي لازم نوصله للجيل الجديد”.
ويشير الفخراني إلى أن الحفاظ على الحرفة لا يكون فقط بدعم مالي. بل أيضًا بنشر الوعي بقيمتها البيئية والجمالية: “الفخار صناعة نظيفة، والطين مادة طبيعية لا تسبب أي ضرر للبيئة. لو الدولة اهتمت بالتسويق والسياحة الحرفية، الصنعة دي ممكن ترجع تاني وتفتح بيوت كتير”.
اقرأ أيضا:
البريد في الواحات.. رسائل عبرت الصحراء على ظهور الجمال
«الثوب الواحاتي» يقاوم النسيان.. من منزل «أم هادي» تبدأ الحكاية
قرية «حسن فتحي» تعود للأضواء مع احتفالات العيد القومي الـ66 للوادي الجديد



