المتحف الكبير.. لمن نقدم آثارنا؟
تستعد الدولة المصرية لافتتاح المتحف المصري الكبير بحفل عالمي ضخم في الأول من نوفمبر، أمر لا يمكن للمرء إلا أن يسعد به ويصفق له، فلا أفضل من خلق نوافذ جديدة لعرض التاريخ المصري بمختلف حقبه وعصوره المتتالية. والمتحف الكبير يدعو للفخر ولا شك بسبب حجمه وحجم مقتنياته وطريقة العرض المتحفية المتميزة، لكن اهتمام الحكومة بالمتحف كجزء من الترويج السياحي يجعلنا نعيد التدبر في سؤال: لمن نقدم آثارنا؟
اهتمام الحكومة بالمتحف المصري الكبير يشكل جزءًا من منظومة الاهتمام بالسياحة، وخلق نوافذ جديدة لجلب المزيد من السياح، وما يحمله ذلك من دخل بالعملة الصعبة للاقتصاد المنهك، ولا مشكلة في هذا النهج، بل هو ضروري في أي استثمار في مشاريع السياحة الثقافية والتنمية التراثية، لكن هل يمكن أن يكون هذا هو التوجه الوحيد والمغزى من هذا الاهتمام الحكومي بالمتحف بلا أي اهتمام بالقيمة التراثية والتاريخية لتراث بلد بحجم مصر؟
***
ما يجعلنا نطرح السؤال هو أن الافتتاح الكبير يتزامن مع استمرار الحكومة في هدم أجزاء من جبانات القاهرة التاريخية، وهي لا تقل أهمية للذاكرة الجماعية عن المتحف الكبير، كما تستمر سياسات الحكومة في التعامل مع تطوير القاهرة الفاطمية والخديوية والملكية بمنطق المطورين العقاريين، أي استخدام المباني التاريخية والتراثية بمنطق تجاري بحت لا يستوعب حجم الثراء في التاريخ المصري، غير الممثل جيدًا في مختلف فتراته.
إذ يبدو الاهتمام الحكومي مقصورًا على مصر القديمة، وهنا نسأل أنفسنا، هل الاهتمام هنا من أجل توعية المصريين بتاريخ أجدادهم القديم أم أنه اهتمام وفقًا لمنطق ما يطلبه السائح الأجنبي؟
فالأجيال المصرية الحالية شعبًا وحكومة في المجمل تعيش حالة انقطاع حقيقي مع الحضارة المصرية، بطبيعة الأمر جرت في المياه الكثير من المتغيرات وحصل انفصال عن هذه الحضارة امتد لأكثر من ألفي عام، استعادة هذه الحضارة من الموات كان ذلك على يد الأوروبيين، والذين صاغوا رؤيتنا لهذه الحضارة، عبر العمل على ربطها بهم باعتبارها الأصل للمدنية الأوروبية القديمة، وإقناعنا بالانفصال عنها.
ولم نطرح نحن في إطار كسل عقلي وخواء ذهني وإفلاس علمي، أي مقاربة حقيقية للتعاطي العلمي والحضاري والتقديري لحضارتنا القديمة، لذا ليس غريبًا أن تكون نظرتنا للحضارة القديمة التي يفترض أننا ننتمي إليها؛ ولو مكانيًا على أقل تقدير، نظرة استشراقية -دينية بامتياز! وهنا نحن نتحدث عن أسوأ استشراق وأسوأ رؤية دينية.
***
ساعد على ذلك أن التيارين الإسلاموي والعروبي لم يجدا في الحضارة المصرية القديمة السند الذي يتمناه أي منهما لدعم أيديولوجيته، لذا تم التركيز على سياقات حضارية أخرى أكثر نفعية، بل تم تشويه الحضارة المصرية خلال العقود الماضية على يد أبناء الصحوة، والتي تم حشرها في تصورات إسرائيلية تلبست بالرؤية الدينية لـ”الفراعنة الكفرة”، فتم تشويه الحضارة الجميلة والعظيمة على أكثر من مستوى.
ولا أبالغ إذا قلت إن هناك كراهية دفينة لدى قطاعات من المصريين المعاصرين ضد الحضارة المصرية القديمة التي تعد -من مقاييس عدة- الأعظم والأجمل والأكثر إبهارًا، وهو ما نراه في إهمال الدراسات المصرية القديمة في الجامعات المصرية، كتجل واضح لشعور ما بأن هذه الحضارة لا تخصنا، لذا نتعامل معها بلا مبالاة.
هذه النظرة الشائعة تتجلى بوضوح في تعامل الحكومات المصرية مع آثار الحضارة المصرية القديمة، التعامل معها كمؤدية يطلب منها أن تخرج على المسرح في ملابس مكشوفة وأضواء مبهرجة لكي تبهر السائح الأجنبي القادم بدولارات ينفقها، فلا تنخدع باهتمام الحكومات المتعاقبة بالآثار القديمة. لا ثقافة ولا حضارة ولا رؤية في هكذا اهتمام، هو مجرد بحث عن ريع سريع من الآثار المطلوبة من السائح الغربي (لاحظ إهمال الآثار القبطية والإسلامية لأنه لا سائح لها).
ولا أهمية هنا لأي حديث عن نشر الوعي والرقي بين أبناء المجتمع، فلا يغرك الاحتفاء الرسمي بالحضارة القديمة، فهو احتفال شكلي لا يعكس أي عمق حقيقي باحترام تلك الحضارة المؤسسة للمشترك الإنساني الأول. ما تفعله السلطة الرسمية على مدار عقود هو مهادنة ومسايرة لطلبات الغرب وتصوراته، أي كنوع من أنواع التجارة وضمان الربح السهل بتوفير العرض للطلب.
***
جاء الاهتمام الحكومي بافتتاح المتحف المصري الكبير على أمل أن يحقق طفرة في أعداد السياح، ويعظم من عوائد السياحة، وهو هدف مشروع ومهم. لكن الاهتمام لا يجب أن يقتصر على تحقيق هذا الهدف، بل يجب أن يكون منطقًا للاهتمام بالتاريخ المصري كله وتراثه المتنوع في كل أشكاله.
فإذا كنا على مستوى من الجدية في الاهتمام بتاريخنا فيجب ألا يتوقف هذا الاهتمام عند ما يعجب السائح الأجنبي، أو يرضي ذائقته، بل يجب أساسًا أن يكون الاهتمام نابعًا من الفخر بكل تاريخنا على مدار محطاته المختلفة التي تبدأ بمصر القديمة، ثم الفترة اليونانية الرومانية فالفترة القبطية مرورًا بالعصور الإسلامية، حتى العصر الحديث مع أسرة محمد علي وصولًا للعصر الجمهوري.
من هذا المنطلق، نريد إعادة الحديث عن علاقتنا بالحضارة المصرية القديمة، والكيفية التي يجب أن ننظر بها إليها، من خلال أسئلة ذاتية لا تتلبس برؤية الآخر لها، وأن يكون الاهتمام نابعًا من فهم حقيقي لخصوصية هذه الحضارة وأهميتها، فضلًا عن الاعتراف الحقيقي وليس الشعاراتي بأنها تشكل جزءًا من هوية/ هويات المصري المعاصر المركبة والمتعددة. والتي يجب أن تزيل أوهام التيارات المحافظة التي تحاول دومًا تعميم الإقصاء واختصار الهوية في تيار أو جماعة أو طائفة، فالاهتمام بالآثار المصرية يجب أن يكون نابعًا في المقام الأول من خدمة الإنسان المصري المعاصر، وتقديم هذا التاريخ له بصورة تزرع الانتماء والافتخار بطبقات التاريخ المتتالية.
***
يتطلب ذلك تغيير العقلية المشرفة على ملف الآثار والتاريخ والتراث في مصر، فلا يمكن أن يكون السؤال المتكرر عندما يزور المرء أي مكان أثري أو متحف إقليمي هو: “أنت جاي تعمل إيه هنا؟”، هذا سؤال عبثي يعني أن هناك تصورًا حكوميًا يفصل المصريين عن تاريخهم وتراثهم، وأن هذا التاريخ معروض فقط للأجانب، لذا إذا كنا جادين في ملف التوعية الأثرية، فعلينا أن نجعل من عرض التاريخ للمصريين أولوية، والحفاظ على تراث هذا البلد العريق عقيدة.
هنا يمكن استغلال زخم افتتاح المتحف المصري الكبير كنقطة انطلاق لتتولى عقلية جديدة ملف التاريخ المصري وآثاره، تعمل على مزج الاهتمام بين البشر والحجر، فأي تجربة للحفاظ على الآثار والمباني التاريخية والتراثية يستلزم إشراك المجتمع من حولها في عمليات الحفظ وعوائد الاستثمار.
يعني ذلك أنه لا يمكن غض الطرف عن هدم مساحات من جبانات القاهرة التاريخية، أو التعامل باستهانة مع تراث المدن القديمة، وتشويه مدينة ذات خصوصية مثل الإسكندرية بسد واجهتها البحرية بسلسلة لا تنتهي من المطاعم والكافيهات، ففصل الخطاب هنا هو أن الاهتمام بالتاريخ المصري في كل تمثلاته يجب أن يكون منطلقه الأساسي هو الإنسان المصري لا السائح الأجنبي، عندما تصبح هذه الرؤية حاكمة ستكون الإجابة عن السؤال الذي نطرحه هنا هي أن المواطن هو المستهدف الأول في إطار رؤية تتصالح مع حقب مصر التاريخية المختلفة وتمزج بينها في سيمفونية تخاطب المستقبل ولا تتنكر لأي فترة سابقة، وقتها ستتحقق التنمية المطلوبة ليس بشكل طارئ بل بأسس سليمة ومستدامة، لأن وقتها سيصبح المواطن المنتمي لتراثه هو خير دعاية لأي سياحة ثقافية مأمولة.
اقرأ أيضا:
حوانيت الشهود.. السلف الاجتماعي لمقاهي القاهرة



