الكشري المصري بـ«اليونسكو».. كيف يواجه الطعام الشعبي غزو الثقافة الأجنبية؟
نجحت مصر في إدراج «الكشري المصري» على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غبر المادي للإنسانية بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» لعام 2025، لتصبح العنصر المصري الحادي عشر المسجَل باسم مصر على قوائم التراث غير المادي، وأول أكلة مصرية يتم تسجيلها على هذه القائمة. ويسلط هذا الإنجاز الضوء على قدرة الطعام الشعبي في تمثيل الهوية المصرية ومواجهة الغزو الثقافي الأجنبي.
الكشري والتراث الشعبي
في البداية، يتحدث الدكتور مصطفى جاد، العميد الأسبق للمعهد العالي للفنون الشعبية وأستاذ وباحث مصري في مجال التراث الشعبي، عن سبب اختيار الكشري لتسجيله كعنصر مصري على قائمة التراث الثقافي غير المادي باليونسكو. يقول لـ«باب مصر»: “تطلب اليونسكو من الدول تسجيل عناصر من تراثها الشعبي ضمن القائمة التمثيلية للتراث الإنساني غير المادي أو ضمن قائمة الصون العاجل”.
ويشرح أن المقصود بالتراث غير المادي هو التراث الشعبي. ويشمل موضوعات رئيسية مثل أشكال التعبير الأدبي، والمأثورات الشفوية كالأدب الشعبي والعادات والتقاليد والاحتفالات الشعبية بمراسمها وطقوسها. إضافة إلى المعارف المتصلة بالطبيعة والكون وفنون الأداء مثل الموسيقى والرقص. وصولا إلى الحرف والمهارات المرتبطة بالصناعات التقليدية.
الكشري المصري
يعد الكشري واحدا من العديد من الأطباق المصرية. ويضم المطبخ الشعبي قائمة واسعة من الأطعمة المرتبطة بالذاكرة الجمعية. من بينها الفول الذي يعد من أكثر الأكلات انتشارا وله جذور تاريخية ممتدة في الثقافة المصرية.
وعن أهمية تسجيل الكشري كعنصر مصري ومساهمته في الهوية الوطنية، يوضح الدكتور مصطفى جاد: “تسجيل الكشري دليل على أنه موجود في مصر. ويتيح الترويج لهذه الأكلة، وبالتالي الترويج الثقافي والسياحي. بالإضافة إلى تسجيله كعنصر منفرد على قائمة اليونسكو”.
ويضيف أن أهمية الطعام الشعبي تكمن في كونه أحد المكونات الثقافية الأساسية للمجتمعات، لما يرتبط به من ممارسات. مثل طرق الطهي وأساليب تناول الطعام والعادات المرتبطة به.
التسجيل باليونسكو
يتابع جاد: “يقع عنصر الكشري ضمن موضوع المهارات المرتبطة بالطعام. واختير لأنه من العناصر المنتشرة والمعروفة في المجتمع المصري، ويتم إعداده بطرق متعددة. بعد جمع الملف وتوثيقه، يقدم لمنظمة اليونسكو. وعند وضعه على قائمة التراث الإنساني يصبح معروفا بأنه مصري”.
ويشرح خطوات التسجيل: “أولا يتم التواصل مع المجتمعات المحلية في مصر للحصول على موافقتها. ثم توثيق العنصر ووصفه في استمارة دولية معتمدة، وبعدها يقدم الملف لليونسكو. وتمت الموافقة على ملف الكشري خلال الاجتماع الدولي للجنة التراث الثقافي غير المادي. التي تضم دولا من مختلف أنحاء العالم، بما فيها مصر والمنطقة العربية”.
التراث وقائمة الصون العاجل
أشار الدكتور مصطفى جاد إلى أهمية تسجيل العناصر المهددة بالاندثار ضمن قائمة الصون العاجل، قائلا: “تختار اللجنة الموضوعات المرشحة للتسجيل. لكن هناك قائمة أخرى بالغة الأهمية هي قائمة الصون العاجل. وهي مخصصة للعناصر الشعبية والحرف التي بدأت تختفي من حياتنا اليومية. يتم وضع هذه العناصر على القائمة للمساهمة في إحيائها، وإعداد برامج وورش تدريب وتوثيق”.
ويضيف: “قائمة الصون العاجل تتيح للدول الحصول على دعم مادي من اليونسكو. لدينا بالفعل عناصر مثل احتفالات شعبية وأكلات تقليدية وآلات موسيقية وممارسات تراثية. ومن المهم العمل على تسجيلها، مثل: السيرة الهلالية والتحطيب وصناعات النخيل والخط العربي ومسار العائلة المقدسة والحرف اليدوية والأراجوز والنسيج وغيرها”.
آلية التوثيق
يشرح أستاذ الفنون الشعبية الفرق بين القائمتين: “التوثيق يتم عبر نفس الاستمارة الدولية. لكن في حالة الصون العاجل يتم توضيح سبب الحاجة لتدخل سريع، مع تحديد ميزانية للورش والهيئات والتدريب، ووضع خطة لإحياء العنصر. وتتطلب كل الملفات فيلما مدته من 8 إلى 10 دقائق. مع صور ووصف وتصنيف للعنصر وموافقة المجتمعات المحلية. أما في الصون العاجل فالأساس هو كيفية تنفيذ عملية الإنقاذ”.
الحاجة لتسجيل المزيد
يرى الدكتور مصطفى جاد أن مصر بحاجة لتسجيل الكثير من العناصر قبل أن تختفي. مثل حرفة الزجاج اليدوي التي أوشكت على الاختفاء رغم قيمتها. وكذلك أطباق تراثية مثل الكشك والبصارة والويكا والدقية. إلى جانب حرف وأزياء شعبية في المجتمعات التقليدية مثل الملس والتوب السيوي والتوب السيناوي والحلي. وما كانت تصنعه النساء من فنون، إلى جانب الحكي الشعبي وفن الموال.
وتظهر هذه العناصر ضمن القائمة الوطنية لحصر التراث الشعبي، ويضيف: “بحكم عملي ضمن كبار المختصين في اليونسكو، أدعو للنظر لهذه العناصر. وقد شاركت بصورة رئيسية في الاحتفالات الشعبية المتعلقة برحلة العائلة المقدسة التي أدرجت على القائمة التمثيلية، وكان الهدف منها هدفا وطنيا”.
على سبيل المثال، فإن حرفة الفخار موجودة في مختلف أنحاء مصر، ويمكن وضعها على القائمة التمثيلية. ومع ذلك نجد أن أدوات المطبخ المصنوعة من الفخار لا تحظى بالانتشار الكافي. فطواجن الفخار تحتاج لإعادة تقديم وترويج لتعود للبيوت المصرية، وكذلك القلل وكل أواني الفخار التي تمثل خيارا صحيا للغاية وترتبط بالأطعمة التقليدية. مثل صناعة الزبادي وحفظ الماء في الزير الفخاري.
ادعاء الملكية الثقافية
هل يمكن للأكلات الشعبية أن تغير خريطة السياحة الغذائية بعد تسجيل الكشري؟ يجيب الدكتور مصطفى قائلا: “نعم، فإدراجه يساعد الأجيال الجديدة على تعلمه وإعادته إلى المائدة المصرية. وهو أمر بالغ الأهمية”.
وتطرق إلى إشكالية أخرى تتعلق بتسجيل دولة أخرى للكشري ضمن عناصرها. وتأثير ذلك على الملكية القافية. موضحا: “الملكية الثقافية في موضوعات اليونسكو لا تحمل قيمة محددة. لأن المنظمة تسجل عنصر التراث الثقافي اللامادي الذي يمارس على أراضي الدولة. دون الإشارة إلى البلد الأصلي للعنصر أو أول بلد ظهر فيه”.
الملكية الفكرية
في الوقت نفسه، يوضح الدكتور مصطفى أن الملكية الفكرية هي اتفاقية مستقلة توضح ملكية عنصر شعبي ما، قائلا: “القصة الأساسية في الملكية الفكرية شائكة ومهمة. لأننا بحاجة إلى أرشيف وطني مُرقَم لكل عناصر التراث الشعبي. ويتم نشره لمصر والعالم، ويحمل كل عنصر رقما خاصا”.
وقد عمل الدكتور مصطفى على هذه القضية على مدار 25 عاما، من خلال موسوعتيه “مكنز التراث الثقافي اللامادي” و”مكنز الفولكلور”. حيث قسّم موضوعات الفولكلور والتراث الثقافي غير المادي لإعداد بوابة رقمية تضم كل عنصر شعبي في مصر.
سبب تسجيل التراث
تحدث عماد عبدالهادي، المدرس المساعد بمعهد البحوث والدراسات العربية والباحث في العلوم الاجتماعية والثقافة الشعبية، عن دوافع تسجيل الكشري واستخدامه كأداة ناعمة لتعزيز الهوية المصرية. وكيفية حماية الشعوب من خلال عناصرها الشعبية.
ويقول «باب مصر»: “وقعت مصر على اتفاقية حفظ وصون التراث الثقافي العالمي في اليونسكو عام 2003. وذلك بسبب تضارب الهويات والسياسات الثقافية عالميا منذ بداية الألفية. ومحاولات البعض سلب التاريخ والثقافة من بعضهم البعض، وسحب الذاكرة الثقافية من الإنترنت في القرن الحادي والعشرين. ما أدى إلى نسيان الهويات والثقافات”.
دور اليونسكو
أضاف عبدالهادي: “بادرت اليونسكو بإعداد هذه القوائم لحفاظ المجتمعات على ثقافتها وتراثها. وضمان استمرارية تفردها وخصوصيتها الثقافية. نحن الآن في عصر ما يُطلق عليه الاستعمار الجديد أو الكولونيالية الجديدة. ومن سماته محاولة بعض الدول وضع يدها على تاريخ دول أخرى” .
وعن دوافع تسجيل التراث الثقافي، ومن ضمنه الطعام، أوضح أنها دوافع علمية وثقافية، لأنها تسهل على الباحثين. خاصة علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية. دراسة نمط شعب معين وفهم طريقة تفكيره وتصرفاته وتعاملاته اليومية.
المطبخ المصري
لمعرفة سمات الشعب المصري علميا من خلال المطبخ، يوضح عبدالهادي: “الأكل الشعبي للمصريين نادرا ما يتضمن اللحوم. وهنا يمكن دراسة سبب استخدام المصريين بكثرة للأرز والشعير والعدس، لأنها من صميم الأرض والثقافة. فيما كان استخدام اللحوم نادرا بسبب الجفاف أو الفقر. من خلال ذلك يمكن تصنيف البلد نفسه وفق مكونات أكلته مثل الكشري، الذي يوفر طعاما من مكونات الأرض يتحدى أي صعاب”.
ويؤكد أن الطعام الشعبي جزء من الثقافة الشعبية التي تعكس الجوانب الاجتماعية والثقافية والتاريخية للشعب المصري. لأن لكل شعب خصوصية تمنح أكلاته طابعها المميز.
ويضيف: “رغم بساطة مكوناته، يقدم الطعام الشعبي أطباقا لذيذة ومغذية تحمل طابعا مميزا يعبر عن الهوية الثقافية. ويتجذر في التراث المصري عبر طبقات الحضارة من القديم إلى التراث القبطي والإسلامي، مرورا بفترات الاستعمار. ويعد الكشري مثالا واضحا على هذا التنوع. حيث يجمع عناصر متعددة تأثرت بثقافات مختلفة”.
الطعام الشعبي والهيمنة الثقافية
يستعرض الباحث كيف يكون الطعام الشعبي دليلا على الهيمنة الثقافية، مستشهدا بزيارة شارل ديجول إلى السنغال عام 1959. حيث كان يظهر الهيمنة الثقافية الفرنسية من خلال توجيه الشعب لتناول الجبن وشرب النبيذ الفرنسي.
وفي الوقت نفسه، يوضح أصل الكشري في مصر: “تؤكد الروايات أن كلمة “كشري” ظهرت في القرن التاسع عشر، لكن المصريين كانوا يأكلون العدس مع الأرز قبل ذلك. ومع إضافة مكونات مثل المكرونة والبصل المقلي والبهارات، حصل الكشري على شكله الحالي”.
رمز ثقافي مصري
يقول عبدالهادي: “حال الإشارة إلى طبق الكشري، يعرف الجميع أن الحديث عن مصر، فالكشري تحول من طبق شعبي بسيط إلى رمز ثقافي مصري واسع الانتشار. وقد وثقه المستشرقون في كتبهم عن طعام المصريين، ولاحظوا انتشار عربات الكشري بشكل متناسق لم يتغير حتى الآن. نظرا لعدم وجود محال بيع الكشري في تلك الفترة”.
غزو الأكلات الأجنبية
سلط عبدالهادي الضوء على أهمية تسجيل الكشري كطعام مصر لمواجهة الغزو الثقافي للأكلات الأجنبية في مصر. مثل البرجر والدجاج المقلي والجبنة، أو الكرواسون الفرنسي، والسوشي الياباني والآسيوي، قائلا: “يجب تعزيز وجود الأكلات المصرية. وهو ما يسهم في تعزيز الهوية الوطنية”.
اقرأ أيضا:
التشكيلي محمد البحيري عن معرضه «مولد يا دنيا»: لوحاتي لا تقدم إجابات جاهزة
مزاد ومستودع سري.. كواليس سقوط شبكة «روبن سايمز» لتهريب الآثار المصرية
سافر عبر 5 دول.. كيف وصل تمثال مصري بقيمة 6 ملايين دولار إلى مطار أمريكي؟



