دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

السينما في «الواحات».. حين تتحول الصحراء إلى استديوهات مفتوحة

عند الفجر، قبل أن تستيقظ المدينة، كانت الكاميرا تتحرك ببطء بين الكثبان في محافظة الوادي الجديد. السماء تتدرج بلونها البرتقالي، وصوت الرياح يم كأّنه موسيقى تصويرية طبيعية. فوق صخرة ضخمة يقف أحد الفنيين يثبت الإضاءة، بينما ينادي المخرج عبر اللاسلكي: «جاهزين مشهد 12.. أكشن».

في تلك اللحظة يتوقف الزمن قليلًا، وتتحول صحراء الواحات من فراغ إلى لوحة نابضة بالحياة، ترصد الكاميرات ما تعجز الكلمات عن وصفه.. «باب مصر» يستعرض أهم ما تم تصويره من أفلام سينمائية ووثائقية في الواحات.

تاريخ يمتد لآلاف السنين

«اللي بييجي يصور هنا مش بيشوف رمل، بيشوف تاريخ ممتد آلاف السنين، شافوا إن المكان ده ممكن يحكي قصة عن مصر بشكل مختلف، بعيد عن الزحمة والدوشة». بهذه الكلمات وصف إسلام سفاري، أحد أبناء  قرية القصر الإسلامية بالداخلة ومرشد سياحي حر، سحر المكان.

ويضيف بابتسامة وهو يشير إلى النخيل خلفه: «الواحات فيها سحر بصري مش موجود في أي حتة تانية. وافتكر مرة مخرج أجنبي قال لي: الضوء هنا ما بيتكررش في العالم مرتين».

بوستر مسلسل واحة الغروب.. الصورة مشاع إبداعي
بوستر مسلسل واحة الغروب.. الصورة مشاع إبداعي

 

الواحات على الخريطة السينمائية

منذ نهاية الستينيات، بدأت الكاميرا المصرية تلتفت إلى الجنوب البعيد لتصوير أجوائه المميزة وما يكتنفها من عزلة وتأمل، لكن الانطلاقة الحقيقية جاءت مع مسلسل “واحة الغروب” (2017)، الذي تم تصوير جزء كبير منه في واحات الداخلة والخارجة. كان هذا العمل نقطة تحول أعادت الواحات إلى الواجهة، ليس فقط كموقع تصوير، بل كرمز لهوية مصرية مفقودة.

يقول رأفت سعد، مرشد سياحي بالداخلة، إنه كان شاهدًا على تصوير بعض مشاهد المسلسل، ويصف ردود فعل الأهالي قائلًا: «الناس اتبهرت لما شافت صور الواحات في المسلسل، رغم إنهم عايشين هنا. في مشاهد كانت في بيت طيني في القصر الإسلامية، الناس افتكرت إنها ديكورات في استوديو، بس كل حاجة كانت حقيقية».

ويضيف: «الكاميرا لما بتدخل البيوت دي بتكشف جمال بسيط وصادق، بيوصل إحساس المكان كما هو، من غير تجميل مصطنع».

التراث الإنساني في قلب اللقطة

داخل قرية القصر الإسلامية بالداخلة، التي يعود تاريخها إلى أكثر من ثمانية قرون، لا تزال الجدران الطينية تحكي بصمت قصص الأجداد. تجولت كاميرات وثائقية عديدة هنا، توثق تفاصيل الحياة اليومية: الأطفال في الأزقة الضيقة، النساء يصنعن الخوص بأيديهن، وأصوات الأذان ترتد بين الجدران القديمة.

تقول سعاد عبد اللطيف، إحدى سيدات القصر العاملات في الحرف اليدوية: «قبل أعمال التصوير ما كناش نتخيل إن حد ممكن يهتم بينا. لما بدأوا يصوروا، السياحة انتعشت، وبقينا نبيع منتجاتنا، والشباب فضلوا في البلد بدل ما يسافروا». وتضيف: «السينما خلتنا نحس إننا جزء من صورة كبيرة. وإن شغلنا البسيط ليه قيمة».

الكاميرا كأداة تنمية

التصوير في الواحات لم يعد مجرد مشهد جمالي، بل أصبح له بعد اقتصادي واجتماعي واضح. يقول محسن عبد المنعم، مدير مكتب الهيئة المصرية لتنشيط السياحة بالوادي الجديد: «شهدت السنوات الماضية زيادة ملحوظة في طلبات التصوير، سواء من مخرجين مصريين أو أجانب. وهو ما ساهم في خلق فرص عمل وزيادة الدخل لأهالي المنطقة. ونحن كهيئة نعمل على تسهيل الإجراءات الخاصة بالتصوير. وتوفير دعما لوجستيا لتشجيع التصوير بهدف الترويج للسياحة في الوادي الجديد».

ويتابع: «عندما يرى المشاهد المكان في فيلم أو مسلسل، يتولد لديه فضول لزيارته، وهذه دعاية مجانية تضع الوادي الجديد على خريطة السياحة الثقافية والبيئية في مصر».

السينما تحرك السوق

في كل مرة تُنصب فيها كاميرا في الواحات، تدبّ الحركة في الأسواق المحلية. تمتلئ الفنادق، وتزدحم المطاعم بإعداد الوجبات لفرق العمل، ويجد الشباب فرصا مؤقتة كسائقين أو مساعدين أو حتى ممثلين إضافيين.

يقول إسلام سفاري ضاحكًا: «أول ما نعرف إن في تصوير، البلد كلها بتتحرك. اللي عنده جمل بيأجره، واللي عنده عربية بيشيل معدات، وكل ده بيخلق حركة اقتصادية حقيقية».

ويؤكد رأفت سعد: «الناس بقت شايفة في السينما فرصة مش بس شهرة، فرصة لزيادة الدخل. الكاميرا مش بتصوّر بس، دي بتزرع أمل في قلب كل واحد هنا».

الواحات.. الاستوديو الطبيعي القادم

مشروع قيد النقاش حاليًا يهدف إلى إنشاء منطقة تصوير سينمائي مفتوحة في الوادي الجديد، تضم بنية تحتية للإنتاج السينمائي والإقامة، لتصبح الواحات استوديو طبيعيا مفتوحا.

يوضح محسن عبد المنعم: «اقترحنا المشروع على الهيئة لأنه في حال تنفيذه، سيحوّل المحافظة إلى مركز جذب للإنتاج الفني العربي والأجنبي. عندنا طبيعة متنوعة من الجبال والواحات والمعابد، يمكن استغلالها في تصوير أي نوع من الأعمال».

ويضيف أن المحافظة بدأت بالفعل التعاون مع أكاديميات السينما في القاهرة والإسكندرية لتنظيم ورش تدريب للشباب المحليين على التصوير والإخراج والمونتاج. في محاولة لجعل الأهالي من سكان المنطقة أن يكونوا جزءا من الصناعة، ليس مجرد خلفية في الصورة.

أفيش فيلم عرق البلح.. مشاع إبداعي
أفيش فيلم عرق البلح.. مشاع إبداعي
«عرق البلح».. لوحات سينمائية في قلب الصحراء

لم تكن محافظة الوادي الجديد مجرد خلفية صامتة في السينما المصرية، بل كانت بطلة ناطقة بالجمال والسكينة في أعمال شكلت وجدان أجيال من المشاهدين. ففي عام 1998 صوّر المخرج رضوان الكاشف فيلمه الشهير «عرق البلح» في قلب قرية القصر الإسلامية بواحة الداخلة. حيث جسّد حياة مجتمع بدوي يواجه التحولات بين الأصالة والاغتراب.

يقول المرشد السياحي رأفت سعد، أحد أبناء الداخلة الذين شاركوا في تأمين موقع التصوير: «الفيلم ده غير نظرة الناس للواحات. وقتها، الفريق الفني عاش بين الأهالي أكتر من شهرين، وشافوا بنفسه إن الصحراء هنا مش فراغ، دي حياة كاملة.. نخيل ومياه وناس بتحب المكان. استغرق تصوير الفيلم نحو ثمانية أسابيع، وسط درجات حرارة تجاوزت الأربعين. وكان طاقم العمل يستخدم بيوت القرية القديمة كمواقع تصوير حقيقية دون أي ديكورات».

ويروي إسلام سفاري: «الناس في مدينة مركز بلاط، لحد النهارده، بتفتكر شريهان وعبلة كامل وهما بيتمشوا في شوارع قرى المركز، وكأن الفيلم حصل إمبارح».

الكثبان الرملية البيضاء.. لوكيشن مثالي

في عام 2005، اختار المخرج أحمد نادر جلال تصوير بعض مشاهد فيلم «أبو علي» بطولة كريم عبد العزيز ومنى زكي في مناطق متطرفة من الصحراء بالقرب من واحة الفرافرة. استفاد المخرج من الكثبان الرملية البيضاء التي أضفت على المشاهد طابعًا سينمائيًا عالميًا.

يضيف عبد المنعم: «الفيلم جذب اهتماما كبيرا لأن المشاهد التي تم تصويرها في قرية القصر الإسلامية بالداخلة جعلت الناس والأهالي يدركون أن الواحات لوكيشن مثالي. ليس للأفلام المصرية فقط، لكن للأعمال العالمية أيضًا».

التصوير ليس فنا فقط.. بل اقتصاد وسياحة

لم تقتصر الكاميرات على السينما وحدها، بل وجدت الدراما التلفزيونية في الوادي الجديد روحًا فريدة لا تشبه أي مكان آخر. ففي عام 2017، استعان مسلسل «واحة الغروب»- المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الكبير بهاء طاهر – ببيئة الواحات لتجسيد قصته التاريخية التي تدور في نهاية القرن التاسع عشر. صُورت أجزاء من العمل في مناطق تشبه الواحات القديمة من حيث العمارة والطبيعة، ما منح المشاهد صدقًا بصريًا نادرًا.

ويؤكد محسن عبد المنعم أن الهيئة المصرية لتنشيط السياحة بدأت بعد عرض المسلسل في إعداد خريطة للأماكن الصالحة للتصوير بالواحات. مضيفًا: «التصوير ليس فنا فقط، بل اقتصاد وسياحة. كل يوم تصوير هو يوم شغل لأهالي المنطقة.. عربات، فنادق، مطاعم، وحرفيين. هكذا تحولت صحراء الوادي الجديد من مجرد خلفية في الكادر إلى عنصر حي ينبض بالتراث والدفء الإنساني. أصبحت منطقة الواحات بحق الاستوديو الطبيعي الأكبر في مصر. وفي انتظار مزيد من الكاميرات التي تلتقط سحرها وتعيده للعالم».

اقرأ أيضا:

الواحات تحافظ على تراثها.. «فخار القصر» رمز الحرف اليدوية المستدامة

البريد في الواحات.. رسائل عبرت الصحراء على ظهور الجمال

«الثوب الواحاتي» يقاوم النسيان.. من منزل «أم هادي» تبدأ الحكاية

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.